أختي الفاضله (ام سلمى)
جزاكِ الله خيراً على ما أشرت اليه بخصوص هذه المسئله التى كثيراً من الناس يجهل مدلولها ومفهومها الحقيقي
وهنا اردت أن أنقل وأضيف على ما تكرمت بطرحه بعض أقول أهل العلم والباحثين بهذا الخصوص لأهمية هذه المسئلة وما يترتب عليها من مخالفات شرعية
حقيقة الرقية ومعناها وحكمها والفرق بينها وبين الدعاء المطلق .
أولا : حقيقة الرقية .
قال ابن درستويه رحمه الله تعالى :
" كل كلام استشفي به من وجع أو خوف أو شيطان أو سحر فهو رقية ."
[عمدة القاري ج12/ص95 ]
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى :
" والرقية كلام يستشفى به من كل عارض ".
[ فتح الباري ج4/ص453 ]
و قال القرافي رحمه الله تعالى :
" والرقى ألفاظ خاصة يحدث عندها الشفاء من الأسقام و الأدواء والأسباب المهلكة "
[ عون المعبود ج10/ص264 ]
وقال السيوطي رحمه الله تعالى :
" رقي يرقى من الرقية وهي ما يستشفى به للمريض من الكلام المعد لذلك "
[تفسير البحر المحيط ج8/ص374 ]
فالرقية إذن هي كلام خاص يستعمل في الاستشفاء من الأمراض عموما الروحية منها والحسية .
ثانيا : معنى الرقية .
قال ابن منظور رحمه الله تعالى
" و العوذة و المعاذة و التعويذ الرقية يرقى بها الإنسان من فزع أو جنون لأنه يعاذ بها وقد عوذه يقال عوذت فلانا بالله وأسمائه وبالمعوذتين إذا قلت أعيذك بالله وأسمائه من كل ذي شر وكل داء وحاسد وحين .
وروي عن النبي أنه كان يعوذ نفسه بالمعوذتين بعدما طب وكان يعوذ ابني ابنته البتول عليهم السلام بهما والمعوذتان بكسر الواو سورة الفلق وتاليتها لأن مبدأ كل واحدة منهما قل أعوذ ".
[ لسان العرب ج3/ص499]
وقال ابن الأثير رحمه الله تعالى :
" والرقية : العوذة التي يرقى بها صاحب الآفة كالحمى والصرع وغير ذلك من الآفات "
[ النهاية في غريب الأثر ج2/ص254]
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى :
" واسترقى طلب الرقية وهو بمعنى التعويذ ".
[ فتح الباري ج10/ص195]
وقال محمد شمس الدين أبادي رحمه الله تعالى :
" باب في الرقى :
قال في المصباح رقيته أرقيه من باب رمي رقيا عوذته بالله "
[ عون المعبوج10/ص264 ]
والرقية أيضا تعني العوذة وهي ما يستعاذ به من الشر وهنا المقصود بالشر هو المرض .
ثالثا :
حكم الرقية
الرقية سنة نبوية ثابتة بقوله وبفعله وبإقراره عليه الصلاة والسلام وهي عبادة لأنها من جنس الدعاء ولكنها من نوع الدعاء المقيد .
فكما أن هناك أدعية مقيدة بوقت أو مكان ونحوه . فإن هناك أدعية مقيدة بعلة معينة .
فكلما وجدت العلة استحب الدعاء .
كالدعاء عند اشتداد الريح أو سماع نباح الكلب أو صياح الديكة أو الخوف من عدو أو الفزع من النوم ونحو ذلك كثير.
فالرقية هي دعاء بهيئة خاصة ومقيد بوجود علة المرض .
فكلما وجدت العلة ( المرض ) استحب الدعاء المقيد بها ألا وهو الرقية .
قال النووي رحمه الله تعالى :
" وأما الرقى بآيات القرآن و بالأذكار المعروفة فلا نهى فيها بل هو سنة "
[شرح النووي على صحيح مسلم ج14/ص168]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
" الرقى بمعنى التعويذ و الاسترقاء لطلب الرقية هو من أنواع الدعاء "
[ مجموع الفتاوي (1/182/183 )-]
قال أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد العبدري الفاسي المالكي الشهير بابن الحاج رحمه الله تعالى :
" ولو شاء ربك لخلق الشفاء بدون سبب ولكن لما كانت الدنيا دار أسباب جرت السنة فيها بمقتضى الحكمة على تعلق الأحكام بالأسباب وإلى هذا المعنى أشار جبريل صلى الله عليه وسلم وأوضحه بقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم " بسم الله أرقيك والله يشفيك " فبين أن الرقية منه وهي سبب لفعل الله وهو الشفاء وهذه هي الحالة الرابعة أعني الرقى بكتاب الله وبالأذكار الواردة وذلك سنة "
[ المدخل ج4/ص121]
وقال العلامة حافظ الحكمي رحمه الله تعالى :
" ( فإن تكن ) أي الرقي من خالص الوحيين ( الكتاب والسنة ) والمعنى من الوحي الخالص بأن لا يدخل فيه غيره من شعوذة المشعبذين
ولا يكون بغير اللغة العربية بل يتلو الآيات على وجهها والأحاديث كما رويت وعلى ما تلقيت عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا همز ولا رمز .
( فذلك ) أي الرقي من الكتاب والسنة هو من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان عليه هو وأصحابه والتابعون بإحسان و من
شرعته التي جاء بها مؤديا عن الله عز وجل
لا اختلاف في سنيته بين أهل العلم إذ قد ثبت ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله وتقريره فرقاه جبريل عليه السلام ورقى هو صلى الله عليه وسلم أصحابه وأمر بها وأقر عليها "
[ معارج القبول ج2/ص503 ]
فالرقية تشمل ثلاثة أمور :
هي وجود أسرار يعلمها الله في بعض الكلام فيتخذ هذا الكلام وسيلة وعوذة يستعاذ بها ويكون سببا يلتجأ إليه في حصول الشفاء من الأمراض بأنواعها بإذن الله تعالى المسبب لهذه العوذة وللأمراض وللشفاء .
وهي في نفس الوقت عبادة وسنة نبوية لأنها من جنس الدعاء المقيد .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى :
" قوله كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات دلالته على المعطوف في الترجمة ظاهرة وفي دلالته على المعطوف عليه نظر لأنه لا يلزم من مشروعية الرقي بالمعوذات أن يشرع بغيرها من القرآن لاحتمال أن يكون في المعوذات سر ليس في غيرها "
ثم قال
" وقال ابن بطال في المعوذات سر ليس في غيرها من القرآن لما اشتملت عليه من جوامع الدعاء التي تعم أكثر المكروهات من السحر والحسد وشر الشيطان ووسوسته وغير ذلك فلهذا كان صلى الله عليه وسلم يكتفي بها " .
[فتح الباري ج10/ص197]
وهنا يُطرح سؤال لابد منه هو كيف نعرف أن هذا الكلام ذو الألفاظ المعينة فيه أسرار تؤثر في بدن الإنسان تأثيرا يؤدي إلى شفائه من الأمراض بأنواعها .
الجواب على هذا السؤال هو الذي يؤدي بنا إلى القول بإمكانية أن تكون الرقى اجتهادية وأن لكل إنسان الحق في ترتيب كلمات تخلو من الشرك ويجعلها رقية ويقول عنها أنها تؤثر في الأمراض فيحصل بها الشفاء
هذا من جهة .
ومن جهة أخرى فإن الرقية بمعنى العوذة والعوذة من الاستعاذة وهي اللجوء إلى سبب ما لدفع الشر .
قال الحافظ ابن كثير :
" الاستعاذة هي الالتجاء إلى الله تعالى والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر."
[تفسير ابن كثير1/20]
وقال القرطبي في تفسيره :
" معنى الاستعاذة في كلام العرب الاستجارة والتحيز إلى الشيء على معنى الامتناع به من المكروه يقال عذت بفلان واستعذت به أي لجأت إليه وهو عياذي أي ملجئي "
[ج1/ص89
فالرقية إذن هي اللجوء إلى كلام معين فيه أسرار تجعله سببا في شفاء الأبدان من مختلف الأدواء و الاستعاذة به من أجل الشفاء من تلك الأدواء .
فالكلام هو السبب الذي يلتجأ إليه ويستشفى به .
ولا شك ولا ريب أن اللجوء إلى سبب ما لتحصيل مصلحة أو لدفع مضرة لابد أن يكون هذا السبب سببا شرعيا أو حسيا حقيقيا وليس وهما .
وبما أن الكلام ليس سببا حسيا كالأدوية الحسية التي تخالط الأبدان وتصل إلى مكان المرض فتحدث تغييرات تؤدي للشفاء لأسباب يعلمها الأطباء المختصون من خلال التجارب والمعلومات الحسية توفرت في الدواء الحسي وثبت ولو بالظن الراجح تأثيرها ونفعها لعلاج مرض عضوي بدني ما .
وأما الكلام فلا يمكن بطريقة ما غير الوحي أن نعلم عن وجود أسرار فيه وهذه الأسرار تكون سببا في مقاومة الأمراض الحسية أو الروحية المعنوية .
إلا كما يزعم البعض أن تكون عن طريق التجربة .
ولكن مجال استعمال التجربة هو في الأمور الحسية وليس في الأمور الغيبية أو الخفية الأسباب .
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى :
" لما جاء القرآن العظيم بأن الغيب لا يعلمه إلا الله كان جميع الطرق التي يراد بها التوصل إلى شيء من علم الغيب غير الوحي من الضلال المبين وبعض منها يكون كفرا."
[أضواء البيان ج1/ص481 ]
وقال الألباني رحمه الله تعالى :
"وأن كل ما نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم مما له صلة بالدين والأمور الغيبية التي لا تعرف بالعقل ولا بالتجربة فهو وحي من الله إليه. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ".
[الحديث حجة بنفسه ص33 ]
وقال الشيخ ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله تعالى جوابا على السؤال التالي :
" السؤال: هل التجربة لها مجال في الرقية ؟
فقال الشيخ :
" التجربة في الطب وليس في الرقية، الطب قائم على التجارب. وفي الرقية: الأحسن أن يقتصر المسلم على الرقية الشرعية، أما التجارب؛ ما الذي يدريك -أولا-، ومِن أين جاءتك الفكرة هذه ؟! "
[ فتوى رقم 162 من موقع الشيخ الرسمي على الشبكة ]
فاستعمال التجربة في هكذا أمور هو من باب التخرص المذموم .
ومعلوم أن اتباع الظن من دون الاستناد إلى الأسباب الشرعية أو الحسية الحقيقية حرام ومذموم ومن أفعال أهل الضلال .
قال تعالى ** قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ **الأنعام148
قال المناوي رحمه الله تعالى :
" وحقيقة الخرص أن كل قول عن ظن وتخمين يسمى خرصا هبه طابق أو خالف من حيث أن صاحبه لم يقله عن علم ولا غلبة ظن ."
[ التعاريف ج1/ص311 ]
فالإسلام دين علم لا دين ظنون وأوهام وتعلق بأسباب لم يأذن بها الله سبحانه في كتابه أو سنة نبيه عليه الصلاة والسلام .
ولآن فتح هذا الباب وهو التجربة لإثبات وجود أسرار في كلام ما يؤدي بنا إلى شرور لا حصر لها .
فماذا نقول لأحدهم إن قال لنا : أني جربت الكلام الفلاني فنفع في الحفظ من العدو , فاستعملوه .
والكلام الفلاني في تحصيل الذرية , فاستعملوه .
والكلام الفلاني لجلب الرزق والكلام كذا لإنزال المطر والآخر لإيقافه والآخر لحفظ البيت من الشياطين ووو .
فبقي أن يكون الكلام سببا شرعيا وفي هذه الحالة فإنه لا بد أن يكون قد عرفنا من طريق الشرع أنه سبب شرعي لا من طريق العقل والتجارب .
قال الإمام الألباني في التوسل وأنواعه:
" والطريق الصحيح لمعرفة مشروعية الوسائل الكونية والشرعية هو الرجوع إلى الكتاب والسنة، والتثبت مما ورد فيهما عنها، والنظر في دلالات نصوصهما، وليس هناك طريق آخر لذلك البتة.
فهناك شرطان لجواز استعمال سبب كوني ما، الأول أن يكون مباحاً في الشرع، والثاني أن يكون قد ثبت تحقيقه للمطلوب، أو غلب ذلك على الظن.
وأما الوسيلة الشرعية فلا يشترط فيها إلا ثبوتها في الشرع ليس غير."
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
" وكل إنسان يجعل من الأمور سببا لأمر آخر بغير إذن من الشرع فإن عمله هذا يعد نوعا من الشرك لأنه إثبات سبب لم يجعله الله سببا"
[ فتاوي 1139 ج1/ص111/ ص113 ]
فالرقية بالقرآن قد علِمْنا عن طريق الشارع أنها سبب شرعي للشفاء .
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً **الإسراء82
وكذلك الرقى النبوية المأثورة التي وصلتنا بطريق صحيح هي أسباب شرعية للشفاء من الأمراض .
وذلك بنص قوله وفعله وتقريره عليه الصلاة والسلام
أما ما عدا هذين السببين فليس عندنا ما يجعلنا نجزم أو نظن ظنا راجحا بأن في الكلام المعين الخالي من الشرك سر ليس في غيره لنجعله سببا خاصا في الشفاء .
ولا يجوز لمسلم أن يتخذ سببا وهميا للعلاج .
لأن هذا من وسائل الشرك بالله تعالى .
رابعا : الفرق بين الرقية والدعاء المطلق .
وقد يلتبس الأمر على البعض فيظن أن الدعاء المطلق هو الرقية فلو قال المسلم ( اللهم اشفني ) أو ( يا رحيم ارحمني وعافني من مرضي ) فإن هذا الكلام رقية من جنس الرقية التي يستشفى بها . وهذا خطأ .
فكما أن هناك أذكارا قيدت بعلة ما فلا تقال إلا بوجود تلك العلة وكما بينت ذلك آنفا .
فإنه يمكن للمسلم أن يدعو بدعاء مطلق لم يرد في السنة وإنما هو اجتهاد منه ويتخذه كسبب من أسباب تحصيل منفعة ما أو دفع مضرة ما .
فلا بأس بذلك ولكن لا ينسبه للشرع ولا يعتقد أن فيه أسرار أو أنه يُنشر بين المسلمين ليعمل به ويلجأ إليه باعتباره سببا شرعيا لدفع ذلك الضرر أو لجب تلك المصلحة .
أو أنه يقال على الدوام مع تخصيص علة يصاحبها وتصاحبه .
وما تقدم من تقييدات هي التي نفرق بها بين الرقية وبين الدعاء المطلق الذي يدعو به العبد ليشفى من مرضه .
فهما يشتركان في شيء ويفترقان في أشياء .
يجتمعان في كون المقصود من الرقية والدعاء المطلق الخالي من الشرك الاستشفاء .
ويفترقان في أن الرقية كلام خاص بهيئة خاصة يعتقد أن فيه أسرار تؤثر في الأمراض فيلتجأ إليه ويستعاذ به كسبب شرعي وكوسيلة شرعية يقينية عرفنا من خلال الشرع أنه سبب حقيقي يؤثر في الأمراض .
فكما عرفنا عن طريق الشرع أن دعاء كذا يحفظ من الشياطين ودعاء كذا لجلب الرزق ودعاء كذا للحفظ من عدو وهكذا
وأضرب مثالا على ذلك .
فقد وردت في السنة أذكار وأدعية عند الفزع من النوم منها قوله عليه الصلاة والسلام .
" إذا فزع أحدكم من النوم فليقل: أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه و عقابه و شر عباده و من همزات الشياطين و أن يحضرون فإنها لن تضره ".
عن ابن عمرو. المشكاة 2477، الكلم 48
[ الألباني "حسن".]
فحينما يفزع المسلم من النوم فيذكر الله بهذا الدعاء فإنه لجأ إلى كلام جعله الشارع سببا في الحفظ من الفزع .
ولكن قد يكون المسلم غير حافظ لهذا الدعاء أو الذكر ففزع فقال مثلا ( يا حافظ احفظني من كل شر ) فهذا الكلام هو دعاء مطلق قد يدعو به المسلم في حالة الفزع من النوم أو في اليقظة أو في أي مكان أو زمان يشعر فيه بالحاجة إلى حفظ الله فيقوله أو يقول غيره من الكلام الذي فيه استعاذة واستعانة بالله ولا شيء فيه .
ولكن بشرط أن لا ينسبه للشرع فيقول هو من السنة .
ولا يقول أن فيه أسرار لأني كلما قلته نفعني .
ولا أن يلتزمه في علة معينة ولا وقت ولا مكان معين .
لأن ذلك من الابتداع في الدين .
قال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى :
" والمطلوب تركه لم يطلب تركه إلا لكونه مخالفا للقسمين الأخيرين لكنه على ضربين
أحدهما أن يطلب تركه وينهى عنه لكونه مخالفة خاصة مع مجرد النظر عن غير ذلك وهو إن كان محرما سمي فعلا معصية وإثما وسمي فاعله عاصيا وآثما .
والثاني أن يطلب تركه وينهى عنه لكونه مخالفة لظاهر التشريع من جهة ضرب الحدود وتعيين الكيفيات والتزام الهيئات المعينة أو الأزمنة المعينة مع الدوام ونحو ذلك "
[ في الاعتصام ج1/ص36و37 ]
وهكذا في كل دعاء يقيد بعلة أو أي مقيِّدٍ آخر فإنه لا يجوز أن يبتدع ( يخترع ) المسلم دعاء ينسبه للشرع أو يعتقد أن فيه أسرار أو يداوم عليه وكأنه عبادة .
كل هذا لا يجوز والله أعلم .
والرقية من ذلك لأنها دعاء مقيد وكما بينته آنفا .
والدليل من السنة على ما تقدم من بيان الفرق بين الدعاء المطلق والرقية وأنهما أمران مختلفان من ناحية التقييد بهيئة الكلام لعلة الأسرار ومن نسبته للشرع .
هو أن النبي عليه الصلاة والسلام أطلق على الألفاظ الخاصة التي تستعمل لعلاج الأمراض بالرقى .
وفي نفس الوقت استعمل الدعاء المطلق كسبب لعلاج الأمراض ولم يطلق عليه اسم الرقية .
والدليل على استعمال النبي عليه الصلاة والسلام الدعاء في علاج الأمراض الروحية والبدنية الحسية من السنة هو كما يلي :
مثال استعمال الدعاء في علاج الصرع .
عن عطاء بن أبي رباح ، قال : قال لي ابن عباس : ألا أريك امرأة من أهل الجنة ؟ قلت : بلى ، قال : هذه المرأة السوداء ، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني أصرع ، وإني أتكشف ، فادع الله لي ، قال : " إن شئت صبرت ولك الجنة ، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك " فقالت : أصبر ، فقالت : إني أتكشف ، فادع الله لي أن لا أتكشف ، فدعا لها "
[ متفق عليه ]
. وعن أبي هريرة قال : جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها لمم ( وهو الجنون ) فقالت : يا رسول الله ! ادع الله أن يشفيني قال : فذكره . فقالت : بل أصبر ولا حساب علي .
[ رواه أحمد ] ( وإسناده حسن في السلسلة الصحيحة 2502 )
ومثال في استعمال الدعاء المطلق لعلاج الأمراض الحسية
عن أبي هريرة قال : جاءت الحمى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : ابعثني إلى آثر أهلك عندك فبعثها إلى الأنصار فبقيت عليهم ستة أيام ولياليهن فاشتد ذلك عليهم فأتاهم في ديارهم فشكوا ذلك إليه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يدخل دارا دارا وبيتا بيتا يدعو لهم بالعافية . فلما رجع تبعته امرأة منهم فقالت : والذي بعثك بالحق ؛ إني لمن الأنصار وإن أبي لمن الأنصار فادع الله لي كما دعوت كما دعوت للأنصار قال : ما شئت إن شئت دعوت الله أن يعافيك وإن شئت صبرت ولك الجنة . قالت : بل اصبر ولا أجعل الجنة خطرا .
[ قال الألباني : أخرجه البخاري في الأدب المفرد وإسناده صحيح ]
فالأمراض بأنواعها الروحية والحسية تعالج بالرقية والتي عرفنا حقيقتها وبالدعاء المطلق .
لذلك قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني عن الرقية :
" رقى -هي ما يقرأ من الدعاء لطلب الشفاء من القرآن ، ومما صح من السنة "
[ ضعيف سنن الترميذي ص 231-232-]
فجعل رحمه الله تعالى الدعاء الذي سببه وعلته المرض ( الرقية ) مقيدا بالكتاب وبما ورد من السنة الصحيحة في ذلك وجعل ذلك تعريفا للرقية أي أنه جعل الرقية دعاءا مقيدا بعلة خاصة وهي المرض وبألفاظ خاصة وهي آيات القرآن الكريم وبما ورد من السنة الصحيحة فقط .
ولذلك أيضا نرى أن العلماء حينما يذكرون علاج الأمراض يفرقون بين الدعاء المطلق وبين الرقى .
وكما يلي :
قال الإمام أبو العباس القرطبي :
" وقوله : ** ومن شرِّ حاسدٍ إذا حسد ** ؛ دليلٌ على أن الحسد يؤثر في المحسود ضررًا يقع به ، إمَّا في جسمه بمرض ، أو في ماله وما يختص به بضرر ، وذلك بإذن الله تعالى ، ومشيئته ، كما قد أجرى عادته ، وحقق إرادته ، فربط الأسباب بالمسببات ، وأجرى بذلك العادات ،
ثمَّ أمرنا في دفع ذلك بالالتجاء إليه ، والدعاء ، وأحالنا على الاستعانة بالعُوَذ والرُّقى ".
[ المفهم على شرح صحيح مسلم ج4 ]
وقال الإمام الألباني رحمه الله تعالى :
" الرقية لها جانب ثاني . الرقية عبادة سواء نفعت أو ما نفعت هي عبادة
هي دعاء ..الرجل يدعو الله عز وجل فقد يستجاب له وقد لا يستجاب له فكون مشكوك الإستجابة ما بنقول نحن نلحقها كطلب الرقية لا ..لأنه طلب الرقية طلب منالعبد من العبد .
لكن أنت لما تدعو الله برقية أو بدعاء مطلق مثلا هذه عبودية كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام " الدعاء هو العبادة ". الرقية هي العبادة فسواء تحقق أثرها أو لم يتحقق فهما سواء لأنها عبادة .
السائل : الرقية هي العبادة عطفتها على الدعاء ولا في حديث ثاني أن الرقية هي العبادة .
الشيخ : لا ما في حديث بس كبيان ."
[ الشريط رقم 62 8 ]
فالإمامان القرطبي والألباني رحمهما الله تعالى فرّقا بين الرقية وبين الدعاء المطلق في ذكر أسباب الاستشفاء وهذا ما ينبغي معرفته وفهمه .
وبمجموع ما تقدم من بيان نحصل على الخلاصة التالية .
الخلاصة :
الرقية هي كلام خاص يستعاذ به للشفاء من الأمراض .
والعلة في الاستعاذة بكلام ما هي وجود أسرار جعلها الله سبحانه وتعالى فيه .
ولا يمكن أن نعرف عن وجود أسرار في أي كلام لأنه أمر غيبي غير محسوس لذا يجب التقيد بالكلام الذي جعله الشارع سببا في شفاء الأمراض ولا يزاد عليه ولا ينقص منه ولا يُغيَّر من هيئته وهو ما جاء عن طريق الكتاب والسنة ألا وهو الرقية بكلام الله تعالى وهو القرآن وبما ورد إلينا من رقى نبوية بطريق صحيح .
والرقية التي هي من الكتاب والسنة الصحيحة عبادة وسنة نبوية ثابتة من قوله وفعله وتقريره وهي من جنس الدعاء المقيد بعلة .
وأن من أسباب الشفاء من الأمراض بأنواعها هو الدعاء المطلق .
والفرق بين الدعاء المطلق والرقية هو أن الدعاء المطلق لا يُعتقد أن فيه أسرار تميزه عن غيره من الدعاء ولا ينسب للشرع ولا يلتزم به بهيئة معينة .
والرقية خلافه .
انتهى الجزء الأول بحول الله وفضله .
وسيتبعه الجزء الثاني قريبا إن شاء الله تعالى .
كتبه
الفقير إلى عفو ربه
المعيصفي
9 ربيع الأول 1433
1/2/2012