قال ابن القيم -رحمه الله- مبينا الفرق بين التفكر والتذكر في معرض تفسيره لقول الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [النحل: 12].
«وأما تخصيصه إيّاها بأهل التذكّر، فطريقة القرآن في ذلك أن يجعل آياته للتبصّر والتذكّر، كما قال تعالى في سورة (ق): ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ (8)﴾[ق:7-8] فالتبصرة: التعقّل، والتذكرة: التذكر، والفكر باب ذلك ومدخلُه، فإذا فكّر تبصّر، وإذا تبصًَّر تذكَّر، فجاء التذكير في الآية لترتيبه على العقل المرتّب على الفكر، فقدّم الفكر إذ هو الباب والمدخل، ووسَّط العقل إذ هو ثمرة الفكر ونتيجته، وأخّر التذكّر إذ هو المطلوب من الفكر والعقل. فتأمّل ذلك حق التأمّل.
فإن قلت: فما الفرق بين التذكّر والتفكّر؟ فإذا تبيّن الفرق ظهرت الفائدة، قلت: التفكّر والتذكّر أصل الهدى والفلاح، وهما قطبا السعادة، ولهذا وسَّعْنا الكلام في التفكّر في هذا الوجه لعظم المنفعة وشدة الحاجة إليه، قال الحسن: «ما زال أهل العلم يعودون بالتذكّر على التفكّر، وبالتفكّر على التذكّر ويناطقون القلوب حتى نطقت، فإذا لها أسماع وأبصار».
فاعلم أن التفكّر: طلب القلب ما ليس بحاصل من العلوم من أمرٍ هو حاصل منها، هذا حقيقته فإنه لو لم يكن ثَمَّ مَوَادٌّ تكون موردا للفكر استحال الفكر، لأن الفكر بغير متعلق متفكر فيه محال، وتلك الموادُّ هي الأمور الحاصلة، ولو كان المطلوب بها حاصلا عنده لم يتفكر فيه.
فإذا عُرِفَ هذا فالمتفكّر ينتقل من المقدمات والمبادئ التي عنده إلى المطلوب الذي يريده، فإذا ظفر به وتحصّل له تذكّر به، وأبصر مواقع الفعل والترك وما ينبغي إيثاره وما ينبغي اجتنابه فالتذكر هو مقصود التفكر وثمرته، فإذا تذكّر عاد بتذكره على تفكره فاستخرج ما لم يكن حاصلا عنده، فهو لا يزال يكرِّر بتفكّره على تذكره وبتذكّره على تفكّره ما دام عاقلا، لأن العلم والإرادة لا يقفان على حد، بل هو دائما سائر بن العلم والإرادة.
وإذا عرفت معنى كون آيات الرب تبارك وتعالى تبصرة وذكرى يُتَبًَصَّرُ بها من عمى القلب ويتذكر بها من غفلته، فإن المضاد للعلم إما عمى القلب، وزواله بالتبصّر، وإما غفلته وزواله بالتذكر.
والمقصود تنبيه القلب من رقدته بالإشارة إلى شيء من بعض آيات الله، ولو ذهبنا نتتبع ذلك لنفذ الزمان ولم نحط بتفصيل واحدة من آياته على التمام، ولكن مالا يدرك جملة لا يترك جملة.
وأحسن ما أنفقت فيه الأنفاس التفكر في آيات الله وعجائب صنعه والانتقال منها إلى تعلق القلب والهمة به دون شيء من مخلوقاته».
[«مفتاح دار السعادة» ابن قيم الجوزية (2/ 67)]