(حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون)
كنت أراقب عن كثب نمل بيتي في تصديه لطريقتي المعتادة في قطع سبيله...
فقط أحاول تحويله عن مساراته، بأن أسد شقوقة بمادة الصابون،
عملا بنصيحة والدي (رحمه الله) هكذا يبحث النمل الدؤوب عن طريق آخر فيسلكها،
ثم لا يلبث أن يخترق حاجز الصابون ....
لكن بعد ان يجف تماما ويصير صلبا، فيتمكن من إعمال آلاته الخاصة بالحفر فيه،
لا أحب اللجوء إلى العنف مع هذا المخلوق الصبور،
الذي يزداد إعجابي به يوماً بعد يوم، وأظل أراقب أساليبه في مقاومة ما يعترض طريقه،
ولم اقتله وهو يتخذ طرقا لا يزاحمني فيها؟
فهو يسلك مسارات طبيعية ، تلك المسارات المحفورة في الجدران سلفا لبعض الخدمات الواصلة للمنزل،
وهو لا يخطط أبدا الى التوسع على حساب أي أحد في المنزل..
فكنت أتهاون مع هذه الكائنات الصغيرة ... التي تنازعني في بيتي !!!!!!!
فهي ليست ... كبعض الامم الغاشمة التي تبغى الإقامة في أي أرض.
وهي........ لا تثقب لنا جداراً ، ولا تحفر لنا أرضية،
إذن فلنعش معاً في سلام ...!
يمنحني الحماسة.... ما أرى من نشاط النمل المستمر،
ويلهمني الصبر عند الإخفاق ومعاودة المحاولة،
أعلم كيف تكون حالة الطقس بمجرد أن ألاحظ سكونه أو حركته ...!
ففي الأولى ستنخفض درجة الحرارة فهو في مسكن ينظم بعض شؤونه،
وفي الثانية سترتفع فهو يعمل بهمة ،ويسعى الى رزقه بلا كلل أو ملل،
دائما ما يردد قلبي قبل لساني قوله تعالى
**وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم**
حقا...... أمم أمثالنا لها نظامها وأي نظام !!
النمل أحد أنجح المجموعات الحشرية في المملكة الحيوانية،
هذه الحشرة اجتماعية جدا ولا يمكنها العيش بصورة منفردة، حيث أنها تعيش في مجاميع أو أعشاش أو مستعمرات.
ورغم ان الانسان مخلوق اجتماعي بطبعه....
الا ان البعض لا يعيشون الا مع انفسهم رغم وجود العديد من الناس حولهم..
مستعمرة من الحزن...
لا يسمعون فيها الا صدى الامهم
وافكارهم..
فصول السنة اصبحت لديهم فصلا خريفيا واحدا...
شعور غريب يتناغم مع ما في داخلهم عند جفاف الاوراق وتحولها الى اللون الداكن..
لون الموت والحطام...
ادمنوا اللون الرمادي فلا ترى عيونهم لونا غيره....
شعور دائم لديهم برحيل البواخر من الموانئ الدافئة محملة بكل ما هو جميل....
والبعض الآخر...
لا يرون بداخلهم الا صورتهم...
فلها يتعبون
ولها يعملون
ولمصلحتها يخططون.......
ثم أعود لأفكر .....
هل تود امة النمل حقا....
التوسع في بيوتنا على حسابنا !!!!؟؟
تساءلت هذا السؤال حين راعني الحشد الهائل من النمل ،
الذي يغطي أي قطعة (فستق ) مرمية ،
يتجمع بصور عجيبة كأنه في احتفال سنوي كبير، الدعوة فيه عامة،
والوليمة عبارة عن (مكسرات )
لذلك يقوى الاحتفال، ويشتد إقبال المدعوين .....
وأراه يذهب ويجئ بسرعة أكبر مما أعهده منه،
كمن حصل على كنز، يسارع بنقله وإخفائه قبل أن ينازعه أحد ملكيته،
وأحاول أن أتخيل كيف يصنفون هذه المؤونات في مخازنهم !!!!
وكيف يعاملون ( قطع الفستق ) على أنها أحجار كريمة بنظرهم.......
ثم أفكر...
ترى لو توقف النمل عن العمل الدؤوب ....
ماذا سيصير اليه واقعه ، ومستعمراته، وحال أفراده....
ان التوقف عن العمل ........ يعني الموت البطيء....
فالعمل هو الحياة الحقيقية ، هو السبيل الى الحضارة والى التقدم....
ثم أعود لأفكر في حال أمّتي.....
متى يتخلص الكثير من أبناء أمتي من هذا الكسل والتراخي......
متى يأتي ذلك اليوم ....الذي نراهم فيه ..... وقد تخلصوا من تلك الصفات المشينة،
واتسموا بكل خصائص النمل النشيط المثابر فيتحولوا إلى ، سواعد عاملة.. وعقول مفكرة...
تسعى الى النهضة بالامة الاسلامية ، وحضارتها.......
إن هؤلاء الذين يتوقفون عن العمل الاسلامي، أقل ما يوصفون به ..
أنهم يجرمون في حق الامة الاسلامية...
لأنهم يفتون في عضد الأمة، ويعرضونها للخطر،
بإثناء غيرهم عن العمل الدؤوب والسعي المتواصل.
ولكن للاسف هذه حال الشريحة الكبرى من أبناء هذا العصر.....
لا صبر لديهم، ولا طموحات في المستقبل،
على عكس حال اجدادهم الذين ما توقفوا عن العمل الاسلامي،
في سبيل الحضارة الاسلامية المشرقة....
ان العمل لا يكون إلا من خلال الايمان،
فإذا فقد صاحب العمل الجانب الايماني.....فهو أيضاً يصبح قيمة سلبية مهملة ،
لكنه يتحول إلى قيمة كبيرة إذا ما سبقه الايمان، وكان منطلقاً من قلب مؤمن بالله تعالى.
وهكذا فان الاسلام يريد من الانسان ان يحقق التوازن في مجال العلاقة مع الله تعالى ،
فيكون مؤمناً به ايماناً صادقاً خالصاً،
وفي نفس الوقت عاملا في سبيله بصدق واخلاص،
من أجل أن تكوين شخصية اسلامية صالحة تنفع الاسلام والمسلمين،
وترتفع في هذه الاجواء الايمانية نحو درجات التكامل.
ان الاسلام يعتبر ان اي اختلال في هذه العلاقة،
من شأنه أن يضعف محصلتها النهائية، ومن ثم .....تفقد الشخصية طبيعتها الاسلامية،
بل انها تبتعد عن منهج الاسلام، فيما لو لم تستطع خلق التوازن بين الايمان والعمل .
وعندما نطبق هذا المفهوم الاسلامي على الواقع،
فاننا نستطيع ان نكتشف الآثار السلبية لاختلال التوازن في هذه العلاقة.
فلو ان المسلم تحرك ميدانياً ودخل ساحة العمل الاسلامي، بدون الرصيد الايماني المطلوب،
فانه لا يكون عاملا للاسلام، لأن اعماله ستكون صادرة من رغبات ذاتية،
يريد من ورائها أن يُلبي حاجة النفس واهواءها، وإن كان مظهرها اسلامياً.
وهو سيصطدم حتماً بالمصلحة الاسلامية، لأن هذه المصلحة لا تحقق رغباته الذاتية،
مما يجعله يتجاوز مصلحة الاسلام ويُسيء إلى العمل الاسلامي إرضاءً لرغباته وأهوائه.
وبذلك بدل أن يكون عنصر عمل صالح،
فانه سيتحول إلى مصدر إفساد وازعاج داخل الوسط الاسلامي أو المجتمع بشكل عام.
ونشاهد هذه الحالات الواقعية أمامنا،
حيث تبرز الذات الشخصية بشكل مؤثر على الانسان العامل ،
فيسقط ضحية الاغراء، وينسى دوره الرسالي المطلوب،
وينقلب إلى أنسان يتخذ من جو العمل الاسلامي عنواناً
يخفي تحته رغباته وتطلعاته الشخصية.
وربما تتعاظم عنده هذه الحالة فيكون هدفه الذات، وليس الاسلام،
وذلك عندما يضعف الجانب الايماني في داخله، ويقترب من الدرجات المتدينة،
وهنا.. سيصبح عنصر ضرر فادح في مجتمع المسلمين.
ان مثل هذه الحالات هي من الكثرة بحيث لا يخلو مجتمع منها،
انها تتصل بالجانب النفسي للانسان أينما كان ومتى كان.
وهذه الحالات من الكثرة بحيث ان لها درجات متفاوته الشدة والضعف.
فهناك من يسقط اسيراً لها على طول خطه العملي،
وهناك من يضعف لفترات قصيرة ثم يكتشف نفسه فيعود إلى صوابه،
وهناك بينهما درجات مختلفة.
ان العاملين للاسلام والدعوة هم موضع ابتلاء بصورة يومية،
لأنهم يتعاملون مع الحياة بكل ما فيها من اغراءات وتطلعات
والسعيد من راقب نفسه وميّز منها ما هو ذاتي ،
وسخّر كل طاقاته وجهوده من أجل الاسلام ومصلحته،
وعمل مخلصاً ابتغاء وجه الله الكريم.
هذه هي الخطورة التي تهدد الانسان العامل حين يضعف عنده الجانب الايماني،
وفي مقابلها ....يقف النموذج الآخر،
الانسان الذي يؤكد على البناء الايماني وحده ويترك العمل.
في هذا الخصوص لا بد من القول ان هذا الاتجاه، يعبر عن فهم خاطيء للاسلام،
لأن الايمان يضع قيمة عالية للعمل،
فمثل هذا الانسان يتصور انه يسلك طريق الصلاح،
لكنه في الحقيقة يسير في طريق آخر.
فالله تعالى لا يريد من عبده أن يعيش العزلة، وأن ينقطع عن الحياة والناس.
انه كانسان، يحمل رسالة كبيرة، وهو خليفة الله في الأرض،
وعليه مسؤولية النهوض باعباء الرسالة والخلافة.
لقد جاء الاسلام رسالة انسانية عامة شاملة، ولابد من نهوض المسلمين باعبائها،
لتأخذ مكانها المطلوب في الحياة.
وإذا كانت الحالة السابقة التي تتمثل في ضعف الجانب الايماني تشكل خطراً ،
فان ترك العمل والابتعاد عن ميدان الحياة هي حالة خطر أخرى.
لانها تحول الانسان إلى رقم مهمل في الحياة ، لا يؤثر فيها ،
ولا يتعامل مع مفرداتها الكبيرة والكثيرة.
انها تلغي المهمة التي يتحملها الانسان المسلم في حياته وسط مجتمعه ،
وفي مواجهه اعداء الاسلام.
ومما يلفت النظر ان العديد من العاملين للاسلام والدعوة،
يقعون ضحية هذا الفهم الخاطيء ،
في مرحلة من مراحل العمل. فعندما تطول بهم المحنة،
أو عندما يواجهون العقبات الكبيرة التي تعترض طريق المسيرة ،
يصابون بانتكاسه كبيرة تفقدهم توازنهم، فيبتعدون عن أجواء التحرك،
ويعتزلون ساحة العمل،
على اساس أن لا جدوى من العمل، وان ميدان العمل يُفقد الانسان طهارته ويلوث نفسه،
فيبعده عن الله سبحانه وعن الاسلام وعن الطريق المستقيم،
وان من الأفضل الانقطاع عن مداخلات التحرك، والابتعاد عن الساحة،
ليحافظ الانسان على ايمانه ونقاوته وطهارته.
وقد يبرر البعض مواقفه هذه بالقول ،ان الظروف الاجتماعية والسياسية،
لا تساعد على المضي في المسيرة ،
وانها فتنة يجب الابتعاد عنها في انتظار الاجواء المناسبة،
التي لا تلوث الانسان ولا تسلبه تقواه وايمانه.
ويعتقد هؤلاء ...انهم يحققون بذلك ايمانهم،
لكنهم في الحقيقة ينقصون من هذا الايمان، لأنهم يشطبون أهمية العمل.
إن الاسلام يرفض أن يكون الايمان مجرداً عن العمل،
كما أنه يرفض العمل الذي لا يستند على الايمان،
انه يريد تفاعل الاثنين معاً وترابطهما في علاقة متوازنة،
فالاسلام يريد الانسان أن يكون مؤمناً عاملا في نفس الوقت ،
حتى يصبح الانسان الداعية ،الذي يتحرك في الحياة من أجل خدمة الاسلام ومصالحه،
وخدمة المسلمين ومصالحهم
فالايمان لا ينحصر في جو نفسي معزول عن الحياة،
بل هو الدافع الأكبر للتحرك وسط الحياة ،وللتفاعل الواعي والهادف مع أجزائها ومفرداتها.
مع الناس والمواقف.
(إنْ الذينَ آمنوا وعملوا الصالحات لهْم جنات)
ولا يخفى على الانسان المؤمن ، الراحة والايجابية التي يشعر بها، والسعادة الحقيقية عندما يكون في عمل الدعوة .. يبتغي رضا الله.