الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،،، ثم أما بعد ،،،
إن المتدبر والمتأمل بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يلاحظ اهتمامه بتنبيه المؤمنين على نعمة الصحة ، واتخاذ كافة التدابير للمحافظة عليها والتمتع بها على الوجه الأكمل الذي أراده الله سبحانه لعباده المؤمنين ، وقد ثبت من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف00الحديث ) ( صحيح الجامع - 6650 ) 0
وتعاليم الإسلام وشرائعه تدعو إلى المحافظة على الصحة الروحية والبدنية والنفسية وتنميها وترقيها إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه في هذه الحياة الدنيا ، وهي تدل في ظاهرها على ارتباط وثيق بالطب وأهله ، ومن ذلك ما ذكر من أنواع العلاج بالرقية والنبات والغذاء وعلاج الأمراض الروحية والجسدية وما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم من أصول الطب ومجالاته المتنوعة ، وقد كتب بعض رجالات أهل العلم في ذلك كتبا قيمة نافعة ككتاب " الطب النبوي " لابن القيم والذهبي – رحمهما الله - ، ومن هنا فإنه يرى لتعاليم الإسلام مردودا حسنا على الصحة النفسية والروحية والبدنية 0 فعلى سبيل المثال نجد الصلاة وما يتقدمها من الطهارة والاستنجاء والوضوء واستخدام السواك ، لها أعظم الأثر على صحة الإنسان وسمو روحه وطهارة بدنه وتجنبه الأمراض والأسقام النفسية والبدنية 0
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالتداوي من الأمراض التي تصيب الإنسان ، كما ثبت من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل له دواء ، علمه من علمه ، وجهله من جهله ، إلا السأم ، وهو الموت ) ( السلسلة الصحيحة - 451 ) 0
وهذا يؤكد على أهمية الطب وأهله ، ويؤكد أيضا على اعتناء الإسلام غاية الاعتناء بهذا الجانب في حياة الإنسان ، كيف لا وهو الجانب الذي يجعل المؤمن قويا في بدنه وعقله ، ويؤهله للارتقاء والتقرب من الخالق سبحانه بالطاعة على اختلاف أشكالها وتنوع طرقها ، علماً بأن الطب قبل الإسلام كان يعتمد على عقائد خرافية وتعاويذ سحرية ، ترتبط بالكهانة والعرافة والسحر ، ومن درس طب القدماء لرأى العجب العجاب مما كان يعتقد أنه طب 0
ومن هنا نرى عظمة الإسلام في تقديمه وعرضه للقواعد والأسس الرئيسة لعلم الطب ، مما أدهش العلماء ووضعهم في حيرة من أمرهم إزاء المعلومات الطبية القيمة التي لا تزال تكتشف تباعاً ، ويتقرر مع البحث والدراسة من قبل المتخصصين أنها حق وصدق وتعتبر من العوامل الرئيسة في العلاج والاستشفاء 0
إن دراسة الطب بكافة تخصصاته تؤصل في نفسية دارسه قدرة الله سبحانه وتعمق نظرته في كنه هذا الإنسان الذي يعتبر بحد ذاته معجزة إلهية تفوق الوصف والتصور ، والطبيب يعلم أكثر من غيره عن حقائق مذهلة يقف أمامها عاجزا بفكره وتصوره وإدراكه ، ولا يستطيع أن يضع التفسيرات لبعض تلك المظاهر التي يراها ويتعامل معها من الناحية الطبية ، مع توفر كافة المخترعات والمكتشفات الطبية المذهلة ، وهذه النظرة أكدها الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه قائلا : " أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِى أَنفُسِهِمْ " ) ( سورة الروم – جزء من الآية 8 ) 0
إن ما يثلج الصدور فرحة وغبطة ما نراه ونسمعه اليوم من بروز أطباء إسلاميين متخصصين بكافة التخصصات ، وعلى مستوى علمي متقدم ، قد أثروا الطب وأهله بالدراسات والأبحاث الغنية النافعة ، وإننا تواقون إلى أن نرى الاهتمام بالجانب النفسي وربطه بالناحية الروحية ، وإثراء ذلك بالدراسات والأبحاث التي سوف يكون لها شأن عظيم في كافة المحافل الدولية والعالمية 0
إن من تصدر الدراسات والأبحاث في الطب النفسي حتى يومنا الحاضر أناس بعيدون عن المنهج الرباني ، تقوم دراساتهم على النظريات والفرضيات والتجربة والخبرة ، وأما الطب النفسي الإسلامي فله جانبان : فأما الجانب الأول فيعتمد على أصول قرآنية وحديثية وهي وحي لا تقبل الخطأ كما هو الحال في الطب العضوي أو النفسي ، وهي بالتالي تقوم على حقائق ووقائع ثابتة ليست عرضة للتغيير والتبديل ، وأما الجانب الآخر فيعتمد على العلوم التجريبية والممارسة والخبرة في هذا المجال وهو أمر اجتهادي قد يعتريه الخطأ والصواب ، والتركيز على هذين الجانبين والاهتمام بهما غاية الاهتمام سوف يقود للنتائج الأكيدة التي سوف تقلب موازين الطب النفسي رأسا على عقب ، وهذا الكلام لا يعني مطلقا عدم الاستفادة من الدراسات والأبحاث الغربية ، إنما يجب توظيف تلك الدراسات بما يتماشى مع أحكام الشريعة لخدمة الإسلام والمسلمين ، وما دون ذلك لا نلقي له بالا ونلقيه وراء ظهورنا ، ونستبدله بما هو خير وأبقى وأصلح للأمة الإسلامية 0
إن المتأمل في النصوص الحديثية وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم يدرك بما لا يدع مجالا للشك اهتمام السنة المطهرة بالناحية النفسية وعلاج الانحرافات الطارئة عليها ، وما يؤكد ذلك ويدعمه ، اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بمواقف كثيرة وعلاجها من جانب نفسي ، ومثال ذلك قصة الفتى الذي طلب الإذن بالزنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قصة بول الرجل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونحوه من مواقف كثيرة تعبر أيما تعبير عن هذا الاتجاه ، فالإسلام جاء بتعاليم ربانية تضبط السلوك والتعامل ، فوضع القواعد والأسس ، وتعامل مع النفس البشرية بما يتناسب مع فطرتها وجبلتها ، فصحح الانحرافات ، وقوم السلوك بما يتلائم مع العوامل التي تؤثر في حياة الإنسان من قريب أو بعيد ، والدارس لتلك النصوص يعلم حقا عظم الإسلام وتعاليمه النبيلة السامية واهتمامه بكافة مجالات الحياة المتشعبة 0
وللأسف فقد اختلط الأمر بالنسبة لكثير من الناس وخاصة المعالجين بالقرآن والأطباء العضويين والنفسيين وموقفهم من الأمراض بشكل عام ، فمنهم من ركز على النواحي الروحية المتعلقة بالرقية الشرعية وألقى جانبا النواحي الحسية المتمثلة بالعلاج لدى الأطباء والمستشفيات والمصحات النفسية ، والقسم الآخر ركز على النواحي الحسية متناسيا تماما اتخاذ الأسباب الروحية المتمثلة بالرقية الشرعية ، وكلا الأمرين مجانب للصواب ، وفئة قليلة جمعت في طريقة علاجها بين اتخاذ الأسباب الشرعية والأسباب الحسية ، وهذه الفئة هي الموفقة والمسددة بإذن الله تعالى بسبب اتباعها المنهج النبوي من خلال اتخاذ الأسباب الشرعية والأسباب الحسية حيث أن أخذ العبد بالأسباب أمر مطلوب شرعاً ، وهذا ما أصله رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال سيرته العطرة 0
وما يهمنا تحت هذا العنوان أن نؤصل العلاقة بين الطبيب المسلم والراقي أو المعالج ، خاصة أن العلاقة التي تجمع بينهما علاقة هامة ، كما سوف يتضح من خلال ثنايا هذا المقال ، ومن الأمور التي يجب التركيز عليها والتنبيه إليها الآتي :
أولاً :- يجب أن تكون العلاقة بين الطبيب المسلم سواء كان متخصصا بالطب العضوي أو الطب النفسي ، وبين الراقي علاقة أخوية متميزة :
مبنية أساسا على العلم الشرعي ثم الطب البشري التطبيقي 0
ولا بد أن يدرك الراقي أن لهذا العلم أسسا وقواعد اكتسبها الأطباء من خلال الاختصاص العلمي والتجربة العملية التطبيقية 0
كذلك بالنسبة للطبيب المسلم يجب أن يدرك أن الأمراض التي تصيب النفس البشرية من صرع وسحر وعين وحسد ونحوه ، هي حق وصدق ، وقد وردت بها الأدلة الصريحة الثابتة في الكتاب والسنة ، فعليه أن يقر وأن يسلم بذلك ، وأن يعلم أنه لا يمكن تشخيص تلك الحالات عن طريق الأجهزة الطبية المتنوعة مهما بلغت دقتها وتقدمها العلمي وتطورها ، لأنها خارجة عن النطاق المادي المحسوس الملموس الذي يتعامل معه الأطباء ، ومن ثم لا يمكن الكشف عن تلك الأمراض من خلال الإمكانات الطبية المتاحة مهما بلغت في التطور والرقي 0
ثانياً :- إن الشعور بأية أعراض وآلام مرضية ، تتطلب من المرضى التوجه للطبيب المختص ، لإجراء الفحوصات الطبية الدقيقة اللازمة :
وعند التأكد من كافة هذه الفحوصات وعدم وضوح وتحديد أية أمراض عضوية أو نفسية نتيجة لتلك المعاناة ، عند ذلك لا بد للطبيب المسلم من توجيه النصح والإرشاد للحالة المرضية بالتوجه أولا إلى الله سبحانه ، ثم اللجوء للرقية الشرعية الثابتة في الكتاب والسنة 0
أما إن أثبتت الفحوصات الطبية بأن المريض يعاني من مرض عضوي أو نفسي ، فواجب الطبيب المسلم إضافة إلى تحديد الداء ووصف العلاج اللازم والمناسب ، أن يربط المريض بخالقه سبحانه ، وأن يوضح له أن الشفاء مرهون بتوجهه إلى الله سبحانه وتعالى وحده 0
ثالثاً :- من الأمور التي يجب أن يهتم بها الراقي العودة للطبيب واستشارته في بعض الاستخدامات التي قد يلجأ إليها مع المرضى :
لمعرفة مدى ضررها من الناحية الطبية ، ولا بد أن يدرك المعالج أن المرضى أمانة في عنقه وهو ضامن من الناحية الشرعية ، كضمان الطبيب المسلم ، فعليه أن يستشير أهل الخبرة والدراية ليكون على بينة وبصيرة فيما يقوم به ، لكي لا يقع في محظورات طبية تؤدي لمحظورات شرعية قد تكلفه الكثير 0
رابعاً : من الأمور الهامة التي يجب مراعاتها من قبل الطبيب والراقي عدم تدخل كل منهما في عمل الآخر :
فلا يحق للراقي أن يتدخل في المسائل الطبية كتشخيص المرض بجوانبه العضوية أو النفسية إلا في حالة حصوله على إجازة أو درجة علمية لممارسة مهنة الطب ، كأن يجمع بين الرقية والطب ، أما أن يشخص للمرضى من خلال قراءة الكتب والخبرة والاطلاع الثقافي ، فهذا يجب ردعه وإيقافه عند حده لخطورة النتائج المترتبة عن فعل ذلك ، أو أن يطلب من المريض التوقف عن أخذ الدواء أو العلاج ، أو صرف أي نوع من أنواع الدواء الطبي ، أو طلب تحاليل أو صور أشعة أو تقارير طبية ، وهذا كلام بغير علم ، ولا يقل خطورة عن سابقه ، وقد يعجب الكثير من طرح مثل تلك القضايا وإمكانية حدوثها ، وهذا واقع محسوس مشاهد عاينته بنفسي وعشت معاناته وقهره ، بل قد وصل الأمر بأحدهم ممن تفنن بأساليب التلاعب بعقول الناس إلى حد فاق التصور والوصف حيث عمد إلى تعليق وسائل تعليمية طبية في عيادته ليشرح للمرضى تأثير الجن والسحر والعين على هؤلاء المرضى ، وإن كنت أنقل هذا الكلام وأنشره على صفحات هذه المجلة الغراء فإني والله أتألم غاية الألم من أمثال هؤلاء وتصدرهم لحمل أمانة هذا العلم ومعالجتهم للمسلمين ممن ابتلي بهذه الأمراض ، وواقع الأمر أن أمثال هؤلاء يحتاجون لعلاج أنفسهم قبل أن يعالجوا الآخرين ، وما أظن أولئك إلا أنهم قد أصيبوا بلوثة فكر ، أو نظرة كبر اعتقدوا من خلالها أنهم أصحاب علم لدني لا يباريهم فيه أحد ، ولا يجاريهم فيه مجد ، فإلى الله المشتكى ولا حول ولا قوة إلا بالله 0
وعليه فمهمة المعالج حال وقوفه على الأسباب الرئيسة للمعاناة وأنها ناتجة بسبب التعرض للإصابة بمرض من الأمراض التي تصيب النفس البشرية ، هو الاهتمام بالجانب المتعلق بعمله فقط وهو الرقية الشرعية ، دونما الخوض في القضايا الطبية والبحث فيها ، أو إعطاء أي توجيهات للحالة المرضية تتعلق بهذه الناحية كترك المراجعة الطبية أو العزوف عن استخدام الدواء ، وقد تكون المعاناة مزدوجة ، أي أن المريض يعاني من مرض عضوي ومرض آخر من الأمراض التي تصيب النفس البشرية كالصرع والسحر والعين والحسد ونحوه ، وهذا يؤكد على أمر في غاية الأهمية يتعلق بتركيز المعالج على النواحي والجوانب التي تهمه فقط دون الخوض والبحث في المسائل الأخرى التي قد يؤدي البحث فيها لعواقب وخيمة تضر بالرقية الشرعية وأهلها وتعطي فكرة للعامة والخاصة ملوثة بالشوائب والرواسب ، مع أن الرقية الشرعية علم قائم بذاته جعلت لتحقيق أغراض وأهداف سامية ونبيلة يتحقق من ورائها المصلحة الشرعية العامة للمسلمين 0
وكذلك الأمر بالنسبة للطبيب المسلم فعليه واجب شرعي يتمثل بتوجيه المرضى وتعلقهم بالخالق سبحانه وتعالى والتضرع إليه ، وكذلك توجيههم للرقية الشرعية وحثهم على رقية أنفسهم للاستشفاء بالكتاب والسنة ، وكذلك تحفيزهم على طلب الرقية الشرعية إذا احتاجوا إليها عند أصحاب العقيدة الصحيحة ومن يتوسم فيه الخير والصلاح من أهل الخبرة والاختصاص في هذا المجال ، خاصة إذا علم أنه يقوم بعمله وفق منهج شرعي سليم محافظا على سلامة المرضى وصحتهم ، وأن لا يمانع من الرقية الشرعية كما قد يفعل البعض وإظهار أن الطب بشقيه العضوي والنفسي لا يؤمن بتلك الأمراض وأعراضها وتأثيراتها والطرق الشرعية المتاحة لعلاجها 0
خامساً : حرص المعالج على استخدام كل ما هو نافع وثابت في الكتاب والسنة :
كالعسل والحبة السوداء وماء زمزم وزيت الزيتون ونحوه ، والابتعاد عن وصف أو إعداد أية مواد طبية أو أعشاب متنوعة دون علم ودراية ودون ترخيص أو إجازة من الجهات المسؤولة عن ذلك ، وقد يؤدي مثل ذلك التصرف لإيذاء المرضى ، وقد يتسبب استخدام تلك الأعشاب دون علم ودراية لمضاعفات جسيمة ذات عواقب وخيمة لا يعلم مداها وضررها إلا الله ، وتكون المسؤولية عظيمة آنذاك أمام الخالق سبحانه وتعالى ، وأمام الآخرين من ذوي العلاقة والحسبة 0
قال الشوكاني - رحمه الله - : ( قال ابن رسلان وقد اتفق الأطباء على أنه متى أمكن التداوي بالأخف لا ينتقل إلى ما فوقه فمتى أمكن التداوي بالغذاء لا ينتقل إلى الدواء ومتى أمكن بالبسيط لا يعدل إلى المركب ومتى أمكن بالدواء لا يعدل إلى الحجامة ومتى أمكن بالحجامة لا يعدل إلى قطع العرق ) ( نيل الأوطار – 8 / 205 ) 0
سادساً : حرص الطبيب المسلم على الجمع بين دراسته الأكاديمية التخصصية في مجال الطب وبين الأمور الشرعية :
التي تعتبر عاملا أساسيا في التوفيق والسداد لو استغلت على الوجه المطلوب ، فيبدأ الطبيب بالتسمية وذكر الله قبل معاينة المرضى ، وكذلك وضع اليد مكان الألم قبل أو بعد المعاينة ، ويقول سبعا : ( اسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك ) ( صحيح الجامع 5766 ) ، أو أن يقول ( بسم الله 000 بسم الله 000 بسم الله 000 أعيذك بعزة الله وقدرته من شر ما تجد وتحاذر ) ( صحيح الترمذي – 1696 ) ، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة ، وبذلك يجمع الطبيب بين الطب العضوي وبين النصوص الثابتة التي لو خرجت من قلب صادق مخلص لتعدى نفعها وفائدتها أضعافا مضاعفة لما يمتلكه الطب العضوي من مقومات ، وهذا يساهم ويساعد في العلاج الطبي لاعتماده على الله في العلاج والتشخيص ومعرفته التامة بأن تيسير الشفاء على يديه هو توفيق من الله وحده ، وبذلك يتم الجمع بين أسباب الشفاء المختلفة ، وهذا العمل يساهم بشكل فعال في نفسية المرضى وتقبلهم للطبيب والدواء 0
سابعاً : لا بد للطبيب المسلم أن يعتقد جازما أن نظريات الطب وقوانينه عرضة للتبديل والزيادة والنقص :
وربما تعدى ذلك إلى إلغاء تلك القوانين والنظريات من أساسها ، لما يشوبها من خطأ أو زلل أو انحراف أثبتته الأيام والخبرة والتجربة على مر السنين ، وكم من دواء أثبتت الأيام نتائجه السلبية الضارة على جسم الإنسان ووظائفه المختلفة بحيث تم سحبه من الأسواق وإلغاء اعتماده كدواء ناجح وفعال ، وكل ذلك يعزى إلى أن تلك النظريات والأبحاث من تفكير وإبداع البشر ، وأما النصوص الثابتة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في علاج كثير من الأمراض ليست عرضة للخطأ أو الزلل وهي قائمة إلى قيام الساعة ، وتحتاج لتوظيف الكوادر التي تقوم في البحث والدراسة للاستفادة منها على أكمل وجه وأنفعه ، وهذا يؤكد ضرورة اهتمام الطب في العصر الحاضر بهذا الجانب ، ودراسة وعمل الأبحاث الخاصة باستخدامات العسل والحبة السوداء والزيت ونحوه ، واستخدامها في العلاج إضافة للوصفة الطبية الخاصة بالمرض 0
واليوم نرى بجلاء ووضوح بعض الباحثين والدارسين الإسلاميين الذين تصدروا مثل هذا العمل ، ومن هؤلاء الدكتور أحمد القاضي والدكتور أسامة قنديل في الولايات المتحدة الأمريكية ، وكذلك بعض الأبحاث الصادرة في المملكة العربية السعودية عن جامعة الملك عبدالعزيز بجده ، فجزى الله الجميع على مجهوداتهم وشكر سعيهم ووفقهم لما فيه الخير والمصلحة الشرعية للمسلمين 0
وفي ذلك يقول ابن القيم – رحمه الله - : ( وليس طبه صلى الله عليه وسلم كطب الأطباء ، فإن طب النبي صلى الله عليه وسلم متيقن قطعي إلهي ، صادر عن الوحي ، ومشكاة النبوة ، وكمال العقل ، وطب غيره ، أكثره حدس وظنون ، وتجارب ، ولا ينكر عدم انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة ، فإنه إنما ينتفع به من تلقاه بالقبول ، واعتقاد الشفاء به ، وكمال التلقي له بالإيمان والإذعان ، فهذا القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور – إن لم يتلق هذا التلقي – لم يحصل به شفاء الصدور من أدوائها ، بل لا يزيد المنافقين إلا رجسا إلى رجسهم ، ومرضا إلى مرضهم ، وأين يقع طب الأبدان منه ، فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة ، كما أن شفاء القرآن لا يناسب إلا الأرواح الطيبة والقلوب الحية ، فإعراض الناس عن طب النبوة كإعراضهم عن الاستشفاء بالقرآن الذي هو الشفاء النافع ، وليس ذلك لقصور في الدواء ، ولكن لخبث الطبيعة ، وفساد المحل ، وعدم قبوله ، والله الموفق ) ( زاد المعاد – 4 / 35 ، 36 ) 0
وأعجب مما يتناقله بعض العلماء والأطباء العضويين على أن القرآن الكريم هو كتاب للعقيدة والشريعة وهداية الإنسان وضبط حياته ، وليس كتاباً في الطب ، أو أن القرآن شفاء للأمراض الاجتماعية والأخلاقية والانحرافات بكل أنواعها فأنى له أن ينقل من ميدانه هذا ليوضع في المستشفيات كي يكون علاجاً للمرضى 0
وكذلك يزداد العجب من كلام قرأته في مجلة " الأسرة " في مقالة تحت عنوان " قرَّاء أم مشعوذون " مع أن مجلة الأسرة من المجلات الإسلامية المتميزة في الطرح والعطاء ، وكان من المفترض أن يعطى هذا التقرير حقه من البحث والتحقيق العلمي الموضوعي لأهمية هذه الموضوعات على الساحة اليوم من جهة وعلاقتها بمسائل العقيدة من جهة أخرى ، ولا يخفى علينا جميعاً التجاوزات والشطحات والترهات التي اتسع فيها الخرق على الراقع في هذا المجال ، إلا أن الحق أبلج لا يمكن رده بادعاء بعض المحررين الصحفيين بما يمتلكونه من معلومات شرعية ضئيلة لا تؤهلهم للخوض في هذا الموضوع الدقيق والحساس ، ولا أقصد من خلال هذا الكلام الإساءة لأحد بعينه ، إنما المصلحة الشرعية تحتم علينا تقوى الله سبحانه وتعالى في كافة المعلومات التي نقدمها للجمهور المسلم لما يترتب عن هذه المعلومات من غرس للأفكار والمعتقدات التي قد توقع العامة ممن لا يملكون كماً من العلم الشرعي في الضلال ومن ثم الوقوع في الإثم العظيم ، مع تقديري واحترامي لأسرة مجلة الأسرة ، والدعاء لهم بالتوفيق والسداد ، ومما جاء في هذا التقرير :
( والغريب أن بعض أدعياء العلاج بالقرآن في مصر يصر على زيارة أحد مشاهير العلماء ويأخذ صورة معه ثم يدعي أنه بارك عمله في العلاج بالقرآن 0 وهذا ما فعله 00000 الذي قال إن الشيخ متولي الشعراوي – رحمه الله – دعا له وبارك قيامه بالعلاج بالقرآن 0 على الرغم من أن الشيخ الشعراوي صرح أكثر من مرة " أن علاج الأمراض العضوية بالقرآن دجل وشعوذة ويجب على كل مسلم أن يجتهد في العبادة ويأخذ بأسباب العلاج من خلال الأطباء المتخصصين الذين هم أهل الذكر الذين أمرنا الله بسؤالهم إذا تعرضنا للمرض 0
إن الذين يدعون العلاج بالقرآن ممن أسمع عنهم مجموعة من الدجالين ، فالقرآن شفاء لأنه يهدي إلى الحق ويحذر من الباطل أما الرحمة فهي نزع الغفلة من قلب المؤمن 0 إن المرض والأوجاع نوع من الاختبار الإلهي يهدف إلى تعليم الإنسان كيفية استقبال قدر الله ) ( مجلة الأسرة – ص 10 – 11 – العدد 75 جمادى الآخرة 1420 هـ ) 0
وكافة ما ذكر فيه وجه حق وآخر باطل ، أما وجه الحق فهو ما قرره علماء الأمة من أن القرآن كتاب عقيدة وشريعة وهداية ، وكذلك شفاء للأمراض الاجتماعية والأخلاقية والانحرافات بكل أنواعها ، وأما وجه الباطل فإنكار حقيقة العلاج بالقرآن بل وصف ذلك بالدجل والشعوذة والدروشة التي ينبغي أن يتجرد منها العلم الإسلامي ، مع أن النصوص النقلية الصحيحة قد أكدت بما لا يدع مجالاً للشك هذه الحقيقة ، كما أكد علماء الأمة الأجلاء ذلك ، ومما لا شك فيه أن العلامة الرباني ابن القيم قد أوضح ذلك في كلامه آنف الذكر بأروع بيان وأوضح برهان ، وفي ذلك كفاية عن كل مقولة ورواية ، نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة 0
وأذكر في ذلك كلاماً جميلاً ذكره العيني نقلاً عن الأمام الخطابي يقول فيه : ( الرقية التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي ما يكون بقوارع القرآن ، وبما فيه ذكر لله تعالى على ألسن الأبرار من الخلق الطاهرة النفوس ، وهو الطب ال****** ، وعليه كان معظم الأمر في الزمان المتقدم الصالح أهله ، فلما عزّ وجود هذا الصنف من أبرار الخليقة مال الناس إلى الطب الجسماني ، حيث لم يجدوا للطب ال****** نجوعاً في الأسقام ، لعدم المعاني التي كان يجمعها الرقاة ، وما نهي عنه هو رقية العزَّامين ومن يدعي تسخير الجن ) ( عمدة القاري - 17 / 403 ) 0
ثامناً : ومن الأمور الهامة التي يجب أن تتبلور بين الراقي والطبيب عقد اجتماعات ولقاءات دورية لتدارس الحالات :
ووضع الملاحظات التي ستؤدي لنتائج ذات فائدة عظيمة للطرفين ، ولما يترتب عن تلك اللقاءات من مصلحة شرعية عامة للمسلمين ، بحيث يكتسب الطبيب رؤية واضحة جلية عن تلك الأمراض التي أقرها الشرع وأثبتها ، وبذلك يزداد إيمانا بخالقه وهو يرى أمام ناظريه بعض الحقائق عن هذا العالم الغيبي التي لم تستطع كافة المكتشفات الطبية بلوغه بكل ما وصلت إليه من التطور والرقي العلمي ، وأن يسترشد الراقي بإرشادات الطبيب لعدم الوقوع في أخطاء تتعلق بصحة وسلامة المرضى 0
ومما يؤكد هذا المفهوم كلام جميل أنقله للدكتور الفاضل محمد بن عبدالله الصغير الطبيب النفسي في جامعة الملك سعود بالرياض – قسم الباطنية – فرع النفسية - في تقديمه للكتاب الموسوم " كيف تعالج مريضك بالرقية الشرعية ؟ " للشيخ عبدالله بن محمد السدحان – حفظه الله - ، يؤكد من خلاله ثمرة التعاون في هذا المجال لعلاج عدد من الحالات المرضية حيث يقول :
( وقد اختلفت مع الأخ عبدالله في بعض النقاط المتعلقة بالأمور النفسية من واقع ما أعايشه – وزملاء المهنة في الطب النفسي – وقد استجاب مشكوراً ، حرصاً منه على التقارب في وجهات النظر وسعياً إلى إيجاد حلول عملية واقعية لكثير من الممارسات والأخطاء التي تقع في هذا الجانب ولئلا يكون المريض وأقاربه في حيرة وقلق ولئلا يقع منهم ما يخلّ بالأمور المشروعة 0 وكان ثمرة هذا التعاون علاج عدد من الحالات المرضية النفسية بصورة أكمل وتماثلت للشفاء في وقت أسرع بعد توفيق الله تعالى ، والله الموفق ) ( كيف تعالج مريضك بالرقية الشرعية ؟ - ص 17 ) 0
قلت : قد يحصل الاختلاف ولكن من خلال الاعتماد على الله سبحانه وتعالى ثم الدراسة الموضوعية الدقيقة لا بد أن يتوصل كلا الطرفين المعالج والطبيب النفسي لقاسم مشترك ، وهذا يؤكد على البحث عن الحقيقة والوصول إليها دون الركون لهوى النفس أو انتصار للذات ، والدراسة الجدية الموضوعية لا بد أن تحقق مصلحة شرعية تعود فائدتها على المعالج والطبيب والمريض وهذا ما تحقق فعلاً للدكتور والشيخ – حفظهما الله – "
تاسعاً : إن بعض الأطباء النفسيين يقعون في خطأ إعادة كافة الأعراض المتعلقة بالحالات المرضية في حالة اليقظة أو النوم لأسباب نفسية بحتة :
وكذلك الحال بالنسبة لبعض المعالجين ممن يعيد تلك الأعراض للإصابة بالأمراض الروحية كالصرع والسحر والعين والحسد ونحوه ، وكل ذلك مخالف للصواب ، فلا بد أن تكون الدراسة الموضوعية والبحث والتقصي في هذا المجال كفيلين للوصول لما يصبو إليه الطبيب والمعالج وهو سلامة وشفاء المريض بإذن الله تعالى ، وبما أن الهدف والغاية واضحة فلا بد من التقاء جاد بين الطرفين الأطباء والمعالجين لدراسة تلك الأعراض وتحديد الوجهة الصحيحة للعلاج ، وهذا لا يعني مطلقا ترك اتخاذ أسباب العلاج بالرقية الشرعية ، بل المقصود من ذلك تحقيق الغاية والهدف الذي يسعى له الجميع 0
ولا بد أن تكون تلك الدراسة بعيدة عن التخبط أو الانحياز والتعصب لرأي خاطئ ما لم تكن الأعراض والأدلة تشير إلى طبيعة الحالة ومعاناتها ، وبذلك يستفيد كل طرف من الآخر ، ويسعى الجميع لتحقيق المصلحة الشرعية 0
تلك هي بعض الملامح المحددة التي لا بد أن تتبلور في العلاقة بين الراقي والطبيب ، ونحن على يقين تام بأن الالتزام بهذه المنهجية في التعامل بين الطرفين تؤتي ثمار أكلها طيب ونفعها عظيم وشامل بإذن الله تعالى ، وإن كنت أقدم نصيحة لإخوتي الأطباء والمعالجون فهي تقوى الله سبحانه وتعالى في السر والعلن ، وأن يكون القصد والغاية من العمل وجه الله سبحانه ، لا أن يكون انتصار للذات أو تقديم علم البشر على علم الخالق أو تحقيق أي أمر من أمور الدنيا الزائلة 0
سائلاً المولى عز وجل أن يوفق الجميع للعمل بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم 0
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم 0
أخوكم المحب / أبو البراء أسامة بن ياسين المعاني 0