بســــــــــــــــــم الله الرحمــــــــــــــــــــــــان الرحـــــــــــــــــــــيم
الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و على آله و صحبه ومن والاه , أما بعد,
أحبتي في الله , إن عالم الجن من الغيبيات التي وجب على المسلم الإيمان بها و التسليم لها , و إن هذا العالم لا يستدل عليه إلا بالدليل , و قد أنزل الله سورة في القرآن بإسمه و ذكر لفظ الجن و مشتقاته في القرآن نحو خمسين مرة وقد صحت الأحاديث عن المعصوم صلى الله عليه وسلم في إسلام الجن ووجودهم ، وهو ما يعنى أن الجن من الأ شياء المعلومة بالضرورة والتي لا يمكن إنكار وجودها ، ومن أنكر وجود الجن فهو منكر لمعلوم من القرآن وصحيح السنة ، فيصبح خارجا عن ملة الإسلام والعياذ بالله , قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله "وجود الجن ثابت بكتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه و سلم واتفاق سلف الأمة و أئمتها" و قال رحمة الله عليه " و الإقرار بالملائكة و الجن عام في بني آدم , لم ينكر ذلك إلا شواذ من بعض الأمم , فذكر الملائكة و الجن عام في الأمم و ليس في الأمم أمة تنكر ذلك إنكارا عاما , و إنما وجد إنكار ذلك في بعضهم مثل من قد يتفلسف فينكرهم لعدم العلم لا للعلم بالعدم"
وعالم الجن عالم مستقل غير عالم الإنس و عالم الملائكة إلا أن بينهم و بين الإنس قدر مشترك من حيث الإتصاف بالعقل و الإدراك و اختيار طريق الخير أو الشر و سموا جنا لإجتنانهم أي لإستتارهم عن العيون , يقول الله تعالى (إنه يراكم هو و قبيله من حيث لا ترونهم) و قد خلق الله عز و جل الجن قبل خلق الإنس يقول الله تعالى (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون , و الجان خلقناه من قبل من نار السموم) وفي الآية نص على أن الجان مخلوق قبل الإنسان , و أما ما يذكره البعض أن الجن خلقوا قبل الإنس بألفي عام فهذا لا دليل عليه من الكتاب أو من صحيح السنة , يقول القرطبي في تفسيره " و الجان خلقناه من قبل أي من قبل خلق آدم . و قال الحسن : يعني إبليس , خلقه الله تعالى قبل آدم عليه السلام و سمي جانا لتواريه عن الأعين"
أما عن خلق الجن فمعلوم أنهم خلق من نار ,يقول الله تعالى ( والجان خلقناه من قبل من نار السموم) و قال سبحانه و تعالى ( وخلق الجان من مارج من نار) , يقول النووي في شرحه على مسلم "المارج اللهب المختلط بالسواد"
أما عن علاقة الجن بإبليس فقد اختلف فيه على قولين مشهورين :
قيل أن إبليس أصله من الملائكة ثم مسخ لما طرد لقوله تعالى ( و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى و استكبر و كان من الكافرين)
و قيل أنه من الجن و لم يكن من الملائكة قط , لقوله تعالى ( و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه )
أما الفريق الأول فقد استدلوا بقول الله تعالى (و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر و كان من الكافرين)و قالوا بأن الإستثناء في الآية هو استثناء متصل و جعلوا المستثنى الذي هو إبليس من جنس المستثنى منه و هو جنس الملائكة و لو أن إبليس ليس من الملائكة لما طلب منه السجود .... وهذا استدلال مردود لعدة أوجه :
أولا:إن الإستثناء الوارد في الآية استثناء منفصل و ليس استثناء متصلا, و هو كثير في القرآن الكريم , كقوله تعالى (مالهم به من علم إلا اتباع الظن ) فالإستثناء الوارد في الآية استثناء منقطع و ليس منفصلا بدليل أن الظن ما كان و لم يكن أبدا من العلم و بذلك فإن المستثنى و هو الظن ليس من جنس المستثنى منه و هو العلم ,,
و منه قول العرب : ليس عليك عطش و لا جوع 000 إلا الرقاد و الرقاد ممنوع
فالإستثناء في البيت استثناء منفصل و ليس استثناء متصلا لأن المستثنى و هو الرقاد ليس من جنس المستثنى منه وهو الجوع و العطش .... و به فإن المستثنى الوارد في الآية و هو إبليس ليس من جنس المستثنى منه و هو جنس الملائكة
ثانيا: يقول الله تعالى واصفا الملائكة (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم و أهليكم نارا وقودها الناس و الحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون) و قال عز و جل (بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون) فالملائكة خلق معصومون من الخطإ مجبولون على الطاعة و لا يمكن أن يعصي الملائكة ربهم , و عصيان إبليس لربه بأمره السجود لآدم دليل على أنه ما كان من الملائكة و إنما هو من الجن
ثالثا :إنه من المعلوم أن الملائكة خلق لا ذرية لهم . أما إبليس فله ذرية يقول الله تعالى (أفتتخذونه و ذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا) و هذا ينفي قطعا أن يكون إبليس من الملائكة لأن إثبات الذرية يقتضي إثبات التناكح و التكاثر و الملائكة معصومة من هذا , وقد سئل الشعبي :هل لإبليس زوجة ’ فقال : ذاك عرس لم أشهده . قال الشعبي : فلما تذكرت هذه الآية (أفتتخذونه و ذريته أولياء من دوني) قال: فعلمت أنه لا تكون له ذرية إلا من زوجة فقلت نعم له زوجة ... ودليلنا على صدق الشعبي قول النبي صلى الله عليه و سلم عند الدخول إلى الخلاء "أعوذ بالله من الخبث و الخبائث" و الخبث هم ذكران الشياطين و الخبائث هم إناثهم
رابعا:إن من صفات الملائكة أنهم خلق من نور أما الجن فخلق من نار يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم "خلقت الملائكة من نور و خلق الجان من مارج من نار و خلق آدم مما وصف لكم " و جاء على لسان إبليس أنه خلق من نار و ذلك لما سأله رب العزة عن سبب رفضه السجود لآدم لما أمره بذلك فقال كما هو في كتاب الله ( قال أنا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين ) و هذا يدل أن خلق إبليس غير خلق الملائكة و أن إبليس من الجن
يقول الحسن البصري " ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين و إنه لأصل الجن كما أن آدم أصل البشر" و قد أطلق شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله على إبليس أنه أبو الجن في أكثر من موضع و كذا تلميذه بن القيم ثم الحافظ بن حجر في الفتح ... و ذهب كثير من أهل العلم إلى أن إبليس أبو الجن كلهم , مؤمنهم و كافرهم فهو أصلهم و هم ذريته , و نقل هذا القول عن بن عباس و مجاهد و قتادة و الحسن البصري و غيرهم .
و قد رويت في أصل إبليس عديد الروايات التي معظمها من الإسرائليات بل و منها ما يخالف النصوص القرآنية الصريحة , يقول بن كثير في تبيين هذا " وقد روي في هذا آثار كثيرة عن السلف ، وغالبها من الإسرائيليات - التي تُنْقَلُ لِيُنْظَرَ فيها - والله أعلم بحال كثير منها ، ومنها ما قد يُقْطَعُ بكذِبِهِ لمُخَالَفَتِهِ للحقّ الذي بأيدينا ، وفي القرآن أخبار غنية عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة ؛ لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان ، وقد وضع فيها أشياء كثيرة ، وليس لهم من الحفاظ المتقنين الذي ينفون عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين كما لهذه الأمة من الأئمة والعلماء والسادة والأتقياء والبررة والنجباء من الجهابذة النقاد والحفاظ الجياد الذين دَوّنوا الحديث وحرروه وبينوا صحيحه من حسنه من ضعيفه من منكره وموضوعه ومتروكه ومكذوبه وعرفوا الوضاعين والكذابين والمجهولين وغير ذلك من أصناف الرجال كل ذلك صيانة للجناب النبوي والمقام المحمدي خاتم الرسل وسيد البشر صلى الله عليه وسلم أن ينسب إليه كذب أو يحدث عنه بما ليس منه فرضي الله عنهم وأرضاهم وجعل جنات الفردوس مأواهم "
و إبليس لغة من الإبلاس و هو الإنقطاع و السكوت مع الحيرة و الندم و القنوط و اليأس و سمي بذلك لانقطاع حجته و حيرته و يأسه من رحمة الله تعالى إذ لا خير فيه , قال بن كثير رحمه الله "فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله , أي أيسه من الخير كله و جعله شيطانا رجيما عقوبة لمعصيته" و البلس من لا خير عنده , و أبلس من رحمة الله أي يئس و ندم و حزن و منه قوله تعالى ( ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون) أي ييأسون من كل خير و ذلك لأنهم ما قدموا لذلك اليوم إلا الإجرام
وذهب الأكثرون أن إبليس إسم أعجمي غير مشتق عند الأكثر فلا ينصرف للعجمية و التعريف فهي كلمة معربة جمعها أبالسة و أباليس . يقول بن الأنباري " لو كان عربيا لصرف كإكليل "
و قيل هو عربي وزنه إفعيل لم ينصرف للتعريف و لأنه لا نظير له في الأسماء فشبه بالأسماء الأعجمية قال الطبري" إنما لم يصرف و إن كان عربيا لقلة نظيره في كلام العرب فشبهوه بالعجمي"
و جاء عند البعض أنه لم يسمى إبليس إلا بعد المعصية , أما قبل المعصية و امتناعه عن السجود فقد ذكرت بعض الآثار الغير الثّابتة أن اسمه كان الحارث و في بعضها عزازيل و في أخرى نائل و الحكم أو يافل و في بعض الآثار يكنّى بمرة و في بعضها أباكدوس و أبا الكرربيّين...
والحق في هذا أنه لم يثبت في كتاب الله تعالى و سنة رسوله صلى الله علية و سلم شيء من تلك الأسماء و الكنى , فوجب الوقوف عند النص في مثل هذه الأمور الغيبية و عدم الخوض فيها
أما اصطلاحا فإبليس إسم علم على عدو الله الأول الذي خلقه من نار و أمره بالسجود لآدم عليه السلام إكراما له و تشريفا فأبى إبليس أن يسجد لآدم استكبارا فلعنه الله و أنظره إلى يوم الوقت المعلوم
فرّ إبليس عن هدى العرفان
حين قيل اسجدوا وآدم دان
فتجلى به الإله وفعل
هو بالله ظاهر الحدثان
ثم إبليس ضلّ عنه وفيه
حسد قام واعترته الأماني
كان في القلب منه جهل وكفر
بالإله المهيمن الرحمن
فبدا الله آدما بالتحلي
وهو الحق ليس للحق ثاني
وتبدّى علم التجلي وما كا
ن وعلم التنزيه كان معاني
ثم إن الأملاك قد علموا من
آدم علم ذات التجلي المصان
ولا بليس علم تنزيه ربي
ماله في علم التجلي يدان
حيث جاء اسجدوا لآدم حتى
سجدوا دونه لجهل يعانى
ما اسجدوا قال ربنا أي لمخلو
ق وحاشا فإن دّلك فاني
إنما الله ظاهر متجلي
كان في آدم العظيم الشان
وهو الله لا سواه ولكن
ظاهر في أفعاله للعيان
وهو غيب ولا تغير للغي
ب سوى بالظهور في الإمكان
حاش لله أن أملاك ربي
سجدوا للمخلوق في الأكوان
هم أولوا العصمة التي هي فيهم
كلهم مع تحقق وبيان
ومحال أمر الإله بكفر
وضلال وزائد الطغيان
إنما الجاهل الذي ليس يدري
ظنّ سوءا بمنزل القرآن
فأتاه كفر بما قال لما
صبغته عقيدة الشيطان
لا تقل كان قبله آدم في
أمر ربي مقالة الحيران
أن هذا مثل التجلي لموسى
كان بالنار في نداء الأمان
وإذا كان قبله فتجلى
هو أيضاً في مذهب العرفان
فخذ الأمر بالعموم وصرّح
بالتجلي لله في كل شان
_بقلم الأخ أبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــو شفــــــــــــــــــــــــاء التــــــــــــــونسي