قال تعالى : ( و حشر لسليمان جنوده من الجن و الإنسان و الطير فهم يوزعون . حتى إذا أتوا على واد النمل قلا نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان و جنوده وهم لا يشعرون . فتبسم ضاحكاً من قولها و قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ و على والدي و أن أعمل صالحاً ترضاه و أدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) . [ النمل ] .
تقرر هاتان الآيتان الكريمتان أن نملة تكلمت لكي تحذر جماعتها من خطر قد يدهمها ن و في ذلك دليل على أن النمل القائمة على التفاهم فيما بينها ، شأنها في ذلك شأن سائر الكائنات الحية التي قال الله تعالى عنها : ( و ما من دابة في الأرض و لا طائر يطير بجناحيه إلا أُممٌ أمثالكم .. ) [الأنعام ]
و لا تكون هذه المخلوقات أمما إلا إذا كانت لها روابط معينة تحيا بها ووسائل خاصة للتفاهم فيما بينها ، وهو ما كشف عنه العلم في حياة أنواع كثيرة من الطيور و الحشرات و الحيوان . و إذا كان النبي سليمان ـ عليه السلام ـ قد وهبه الله معجزة تخالف مألوف البشر ، وهي معرفة لغة الطير و حديث النمل ، فإن العلماء قد اجتهدوا لإدراك شيء من لغات الكائنات الحية ووسائل التفاهم بينها مستخدمين في ذلك تقنيات خاصة حديثة لتسجيل الموجات الصوتية و تحويلها إلى رسم بياني منظور على أجهزة خاصة لتسجيل الذبذبات و قياس الفروق بين الأصوات التي لا نستطيع الأذن الآدمية تمييزها . و في هذا الصدد يقرر علماء الحشرات أن النمل يتميز بذكاء خارق يدل عليه قيامه بعملية فلق الحبوب قبل تخزينها في مخازن لكيلا تنبت ، و الحبوب التي لا يستطيع النمل فلقها فإنه يعتمد إلى نشرها في الشمس بصفة دورية و منظمة حتى لا يصيبها البلل أو الرطوبة فتنبت .
و لقد أوضحت أجهزة الفحص الإلكترونية ونتائج الدراسات التشريحية لجسم النملة أنها تمتاز بوجود مخ صغير يقل عن المليمتر ( لا يرى إلا تحت المجهر ) و يتكون من فصين رئيسين مثل مخ الإنسان ، و من مراكز عصبية و خلايا حساسية وهو يوافق الآية القرآنية في بعض معانيها التي أشارت إلى أن النمل قد توقعت أن يصيبها الخطر قومها من سليمان و جنوده ففكرت و اهتدت من خلال متابعتها تقدم جيش سيدنا و ملاحظة اتجاه حركته حتى بات واضحا انه سيمر في طرقه على " وادي النمل " ، وأرسلت صيحة تحذير بلغتها الخاصة التي يفهمها النمل و أدرك سليمان ما قالته و انشرح صدره كما ينشرح صدر المرء أمام كل طريف و عجيب .
و مملكة النمل ـ مثل مملكة النحل ـ دقيقة التنظيم تتنوع فيها الوظائف وتؤدى جميعها بإتقان رائع يعجز البشر غالباً عن إتباع مثله ، بالرغم مما أوتوا من عقل راق و إدراك عال . و النمل من رتبة الحشرات غشائية الأجنحة ، و ينقسم أفراد مملكة النمل إلى ثلاثة أنواع : الملكة التي تضع البيض ، و الإناث العقيمات أو الشغالات ، ثم الذكور التي يقوم فرد واحد منها بتلقيح أنثى عذراء مرة واحدة في حياته .
و تشترك الأنواع الثلاثة من النمل من حيث التركيب في ذلك الخصر الرفيع الذي يفصل بين البطن الذي يحتوي على أجهزة النمل الحيوية . و بين الصدر الذي يضم العضلات القوية التي ترحك ستة أرجل نشطة ، و ينتهي الصدر برأس كبير بالنسبة لحجم باقي الجسم يحلم عينين كبيرتين و قرني استشعار دائمي الحركة يعتمد عليها النمل اعتمادا كبيراً في حياته نظراً لضعف نظهره الشديد ، بالإضافة إلى هذين الفكين الرهيبين الصورة اللذين يستطيع " نمل الحصان " أن يرفع بهما 52 ضعف وزنه ،
وهو ما يوازي قدرة الإنسان على رفع أربعة أطنان بأسنانه . و " نمل الحصان " هذا ما هو إلا نوع من خمسة عشرة ألف من أنواع النمل متعددة الألوان و الأشكال تعيش في كل بقاع الأرض و هناك أيضاً النمل الأبيض الذي تضرب جنوده برؤوسها الكبيرة جدران الأنفاق إذا شعرت بهجوم على عشها أو أي خطر يتهددها فيفهم ذلك باقي أفراد النوع و تقوم بعمل اللازم نحو حماية نفسها من الخطر المحدق بها . و يرى بعض العلماء أن النمل الأبيض هو دابة الأرض التي أكلت عصا سليمان المشار إليها في قوله تعالى : ( فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته ... ) [ سورة سبأ] .
و النمل يقيم وادياً له على هيئة مستعمرات تغطي مساحات كبيرة تبلغ ما بين خمسين و مائة ياردة أو أكثر ، و قد ذكر أحد علماء الحشرات أنه رأى مدينة هائلة للنمل في " بنسلفانيا " بلغت مساحتها خمسين فداناً و كانت مكونة من ألف و ستمائة عش ارتفاع معظمها قرابة ثلاثة أقدام ، و محيطها اثنا عشر قدما عند القاعدة ، و هذا يعني أن حجم الهرم الأكبر و النظام المعماري في أعشاش النمل متنوع طبقاً لتنوع أجسام و عاداته ، و يحصى العلماء منها أربعة طرز أو خمسة طرز رئيسية ،
و السائد هو الطرز الأفقية ذو التعاريج الكثيرة و الدهاليز التي لا تنتهي و الغالبية العظمى في أعشاش النمل توجد تحت الأرض ، و يحتوي العش عادة على عدة طوابق ، و ربما يصل إلى عشرين طابقاً في جزئه الأعلى ، و على عدد مماثل من الطوابق تحت سطح الأرض ، و لكن طابق غرضه الخاص الذي تحدده أساسا درجة الحرارة ن فالجزء الأكثر دفئاً في العش يحتفظ به خصيصاً لتربية الصغار .
و يواصل العلم الحديث كشف حقائق جديدة عن حياة النمل الاجتماعية المنظمة
و من مظاهر مجتمع النمل قيامه بمشروعات جماعية مثل إقامة الطرق الطويلة في مثابرة و أناة ، و تحرص مجموعاته المختلفة على الالتقاء في صعيد واحد من آن لآخر ، و لا تكتفي هذه المجموعات بالعمل نهاراً ، بل تواصله ليلاً في الليالي القمرية ، ولكنها تلزم مستعمراتها في الليالي المظلمة .
و لأعضاء مجتمع النمل طرق فريدة في جمع المواد الغذائية و تخزينها و المحافظة عليها ، فإذا لم تستطيع النملة حمل ما جمعته في فمها كعادتها لكبر حجمه ، حركته بأرجلها الخلفية ورفعه بذراعيها ، و من عاداتها أن تقضم البذور قبل تخزينها حتى لا تعود إلى الإنبات مرة أخرى ، و تجزيء البذور الكبيرة كي يسهل عليها إدخالها في مستودعاتها و إذا ما ابتلت بفعل المطر أخرجتها إلى الهواء و الشمس لتحف ، و لا يملك الإنسان أمام هذا السلوك الذكي للنمل إلا أن يسجد لله الخالق العليم الذي جعل النمل يدرك أن تكسير جنين الحبة و عزل البذرة عن الماء و الرطوبة يجعلها لا تنبت ( يعطل إنباتها ).
و يضيف العلم الحديث حقائق جديدة عن أبقار النمل و زراعتها ، فقد ذكر أحد علماء التاريخ الطبيعي ( و هو رويال ديكنسون ) في كتابه " شخصية الحشرات " أنه ظل يدرس مدينة النمل حوالي عشرين عاماً في بقاع مختلفة من العالم فوجد نظاماً لا يمكن أن نراه في مدن البشر ، و راقبه و هو يرعى أبقاره ، و ما هذه الأبقار إلا خنافس صغيرة رباها النمل في جوف الأرض زماناً طويلاً حتى فقدت في الظلام بصرها .
و إذا كان الإنسان قد سخر عددا محدودا من الحيوانات لمنافعه ، فإن النمل قد سخر مئات الأجناس من حيوانات أدنى منه جنساً .
و نذكر على سبيل المثال " بق النبات " تلك الحشرة الصغيرة التي تعيش على النبات و يصعب استئصالها لأن أجناسها كثيرة من النمل ترعاها ، و لأن داخل المستعمرة لا يمكن أن تعيش النباتات ، فإن النمل يرسل الرسل لتجمع له بيض هذا البق حيث تعنى به و ترعاه حتى يفقس و تخرج صغاره ، و متى كبرت تدر سائلاً حلوا للبعض أن يسميه " العسل " ، و يقوم على حلبه جماعة من النمل لا عمل لها إلا حلب هذه الحشرات بمسها بقرونها ن و تنتج هذه الحشرة 48 قطرة من العسل كل يوم ، و هذا ما يزيد مائة ضعف عما تنتجه البقرة إذا قارنا حجم الحشرة بحجم البقرة .
و يقول العالم المذكور أنه وجد أن النمل زرع مساحة بلغت خمسة عشر متراً مربعاً من الأرض حيث قامت جماعة من النمل بحرثها على أحسن ما يقضى به علم الزراعة ، فبعضها زرع الأرز ، و جماعة أزالت الأعشاب ، و غيرها قامت لحراسة الزراعة من الديدان .
و لما بلغت عيدان الأرز نموها و كان يرى صفاً من شغالة النمل لا ينقطع ، يتجه إلى العيدان فيتسلقها إلى خب الأرز ، فتنزع كل شغالة من النمل حبة ، وتنزل بها سريعة إلى مخازن تحت الأرض
و قد طلى العالم أفراد النمل بالألوان ، فوجد أن الفريق الواحد من النمل يذهب دائما إلى العود الواحد حتى يفرغ ما عليه من الأرز . و لما فرغ الحصاد هطل المطر أياماً و ما إن انقطع حتى أسرع العالم إلى مزرعة النمل ليتعرف أحواله فوجد البيوت تحت الأرض مزدحمة بالعمل . ووجد النملة تخرج من عشها تحمل حبة الأرز و تذهب إلى العراء في جانب مائل من الأرض معرض للشمس ، و تضع حبتها لتجف من ماء المطر ، و ما إن انتصف النهار حتى كان الأرز قد جف و عاد الشغالة به إلى مخازنه تحت الأرض .
و يذكر العلماء مثالاً آخر لنوع من النمل يسمى " أتا " إذا حفرت في مستعمرته على عمق أكثر من متر وجدت في حجرة خاصة كتلا متبلورة بنية اللون من مادة شبيهة بالإسفنج هي في الواقع عبارة عن أوراق متحللة لنوع معين من النبات يسمى " الكيريزويت " إذا دققت فيها النظر وجدت خيوطاً بيضاء رائعة من فطر " عش الغراب " الذي يعتبر الطعام الوحيد لهذا النوع من النمل الذي يعيش غالبيته في المناطق المدارية .
يتبع ==============