6- المبحث السّادس: مقدار زكاة الفطر.
جاء بيانُ مقدار زكاة الفطر في الحديث الصّحيح الّذي أخرجه البخاري ومسلم عن أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قال:
( كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الفِطْرِ: صَاعاً مِنْطَعَامٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ زَبِيبٍ )
[الأَقِط: هو اللّبن المجفّف].
والصّاع المُعتبر هو صاع أهل المدينة النّبويّة؛ لما رواه أبو داود عن ابنِ عمَرَ رضي الله عنهما قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّمَ: (( الْوَزْنُ وَزْنُ أَهْلِ مَكَّةَ، وَالْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ )).
والصّاع يساوي: أربعةَ أمداد إلى خمسة أمداد.
والمدّ - كما قال ابن الأثير رحمه الله-:" قيل: إنّ أصل المُدّ مقدّر بأن يَمُدّ الرّجل يديه، فيملأ كفّيه طعاما، ومن لم يكن عنده مِكيال ولا ميزان، فلْيُخرج أربعة أمداد، ومن تطوّع خيرا فهو خير له "اهـ.
ولمّا كان الصّاع تختلف كثافته بحسب جنس الطّعام، كانت مقادير زكاة الطّعام تختلف في الميزان، فالصّاع من الزّبيب مثلا يعادل 1640 غراما، والصّاع من الدّقيق يعادل 2000 غ، والصّاع من الأرز يعادل: 2300 غ، وهكذا.
7- المبحث السّابع: هل تُخرَج نقودا ؟
هذه المسألة من فروع الفقه الّتي اختلف فيها أهل العلم قديما، فلا يليق أن تتحوّل إلى مسألة من مسائل الولاء والبراء ! وأن تكون سببا لطعن الدّهماء في العلماء.
وما زال أهل العلم فيها على قولين اثنين:
أ) الأوّل: أنّها لا تُخرَج إلاّ من قوت البلد.
وهو قول جمهور العلماء: الإمام مالك، والشّافعيّ، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، وقوت البلد هو: القمح والشّعير والرزّ، والعدس، ونحو ذلك.
قالوا: ولا تخرج نقودا، ومن أخرجها نقودا لم تُجزِئْه، لأمور أربعة:
1- لأنّه ظاهر قول رسول الله، فقد قال صلّى الله علي وسلّم:
(( طُعمَةً لِلْمَسَاكِينِ )).
2- ولأنّه لم يجْرِ عليه عمل النبيّ صلّى الله علي وسلّم ولا أصحابه.
3- ولأنّ القيمة لا تنضبط، فهل تُخرج بقيمة التّمر، أو الشّعير، أو الزّبيب ؟
4- ولأنّ في إخراجها طعاما إظهارا لشعائر الله تعالى.
ب) الثّاني: يجوز إخراجها نقودا.
وهو مذهب الحسن البصريّ، وعمر بن عبد العزيز، والحنفيّة، وعليه متأخّرو الشّافعيّة والمالكيّة.
وعلّلوا قولهم بما يلي:
1- أنّ الطّعام هو الّذي كان شائعا ذلك الزّمان، وكان أنفع للفقير.
2- أنّ الطّعام كان من الأثمان في معاملاتهم، فكانوا يشترون ويبيعون بالصّاع من القمح، والصّاع من الشّعير، ونحو ذلك، كما في السّلم والعرايا والضّمان.
وفي حديث المصرّاة قال رسول الله صلّى الله علي وسلّم:
(( مَنْ اشْتَرَى غَنَمًا مُصَرَّاةً، فَاحْتَلَبَهَا، فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا فَفِي حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ ))
[متّفق عليه].
3- وممّا يزيد ذلك توكيدا أنّه إذا عزّ القمح وغلا، فإنّه يُخرج منه مقدرا مُدّين لا صاعا، فقد روى الإمام أحمد عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ قال:
" كُنَّا نُؤَدِّي صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلّىالله عليه وسلّم صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، صَاعًا مِنْ أَقِطٍ،
فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَةُ رضي الله عنه جَاءَتْ السَّمْرَاءُ، فَرَأَى أَنَّ مُدًّا يَعْدِلُ مُدَّيْنِ ".
4- أنّ الأمر ليس تعبُّديّا محضاً، بل هو معقول المعنَى، وهو سدّ خلّة الفقير.
5- أجاز كثير من أهل العلم إخراج زكاة الإسلام عن الزّروع والمواشي نقوداً، إذا كان الفقير بحاجةٍ إلى النّقود.
التّرجيح:
فالأقرب هو جواز إخراجها نقودا، إلاّ أنّه ينبغي تقييد ذلك بشرطين:
الأوّل: حاجة الفقير إلى النّقد.
الثّاني: ألاّ تندرِس سنّة إخراج الزّكاة طعاما.
والأحوط هو الخروج من خلاف العلماء، فيخرجها طعاما، ومن أراد أن يُغنِي الفقير نقودا، فباب الصّدقة أوسع وأرحب من يوم العيد.
8- المبحث الثّامن: مستحقّوها.
تُعطَى صدقة الفطر لفقراءِ ومساكينِ البلد الّذي يقيم فيها المسلم.
فلا يجوز إخراجها في غير الفقراء والمساكين، كمن يجعلها في إطعام الصّائمين، أو عابر السّبل.
كما لا يجوز إخراجها إلى بلد آخر، إلاّ عندما تُسدّ حاجةُ البلد الّذي هو مقيم فيه.
9- المبحث التّاسع: وقت إخراجها.
صدقة الفطر لها وقت معلوم حدّده الشّرع، وهو: من غروب شمس ليلة العيد إلى صلاة العيد.
أي: أن تُخرج يومين أو يوما قبل العيد إلى غاية الصّلاة، ولا يصحّ ولا يجوز إخراجها بعد صلاة العيد.
وفي حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه السّابق قَالَ:
( فَرَضَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ ).
وروى أبو داود عنْ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنه قال: فَرَضَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ.
ومن تأخّر عن إخراجها إلى ما بعد صلاة العيد، فإنّها تبقى في ذمّته دَيْناً عليه، يُخرجها من العام القابل مرّتين.
هل يجوز إخراجها قبل ليلة العيد بأيّام ؟ ثلاثة أقوال لأهل العلم:
أ)القول الأوّل: لا يجوز إخراجُها إلاّ يوما أو يومين قبل العيد، وهو قول الحنابلة والمالكيّة.
ويدلّ على ذلك ما رواه البخاري عن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قال:
( كَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ).
ب)القول الثّاني: يجوز إخراجها من النّصف الثّاني من رمضان، وهو قول الحنفيّة.
ج)القول الثّالث: يجوز إخراجها من أوّل يومٍ من رمضان، وهو قول الشّافعيّة.
ويمكن أن يُستدلّ لهذين القولين بدليلين:
- ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هُريرَة رضي الله عنه قال:" وكلني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحفظ زكاة رمضان ..."، ثمّ ساق الحديث المشهور في سرقة الشّيطان من مال الصّدقة.
والشّاهد: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وكّله بحفظ صدقة الفطر قبل العيد بأيّام.
- ما أخرجه ابن خزيمة عن أيّوبَ، عن نافعٍ، عن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زكَاةَ رمضانَ عنالحرِّ والممْلًوكِ، والذَّكَر والأُنْثى، صَاعاً منْ تَمْر أو صاعاً منْ شعِيرٍ ... قال أيّوب: قلت: متى كان ابنُ عمَرَ يُعْطِي الصّاع ؟ قال نافع: إِذَاقَعَدَ العَامِلُ. قلت: متى كان العامل يقعُدُ ؟ قال: قَبْلَ الفِطْرِ بِيَوْمٍ أو يَوْمَيْن.
الشّاهد: أنّ العامل هو من يجمع الزّكاة، ولا يقعُد إلاّ يومين قبل العيد، فدلّ ذلك على أنّه كان يجمعها قبل ذلك.
والأقرب أن يُقال:
إنّ المُزكِّي لا يخلو من حالين:
أ) إمّا أن يُخرجها إلى العاملين والقائمين على صدقة الفطر، فهذا يُخرجها متى شاء، وعلى هذا يوجّه مذهب الشّافعيّة والحنفيّة.
ب) وإمّا أن يُخرجها إلى الفقراء والمساكين، فهذا لا يُخرجها إلاّ يوما أو يومين قبل العيد، وعلى هذا يوجّه مذهب المالكيّة والحنابلة.
وإنّما اخترنا ذلك؛ لأنّ من حِكَمِ إخراج زكاة الفطر: إدخال السّرور إلى قلوب المحتاجين، والشّبع إلى بطونهم في يوم العيد.
وأخيرا:
احرِص - أخي المسلم - على أن تكون صدقتك من الجيّد الطّيّب؛ لأنّ الله طيّب لا يقبل إلاّ طيّباً، فلا يجوز إخراجها من غصبٍ أو نهب، ولا من أردأ الأصناف وأحقرِها، قال الله تعالى:
**وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ**.
والله أعلم، وأعزّ وأكرم، وهو الهادي للّتي هي أقوم.