شرح حديث ( حبسونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا)
فتح الباري شرح صحيح البخاري: ابن حجر العسقلاني - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني
قَوْله : ( حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد ) هُوَ الْجُعْفِيُّ وَيَزِيد هُوَ اِبْن هَارُون وَهِشَام هُوَ اِبْن حَسَّان وَمُحَمَّد هُوَ اِبْن سِيرِينَ وَعَبِيدَةُ بِفَتْحِ الْعَيْن هُوَ اِبْن عَمْرو , وَعَبْد الرَّحْمَن فِي الطَّرِيق الثَّانِيَة هُوَ اِبْن بِشْر بْن الْحَكَم وَيَحْيَى بْن سَعِيد هُوَ الْقَطَّانُ.
قَوْله : ( حَبَسُونَا عَنْ صَلَاة الْوُسْطَى ) أَيْ مَنَعُونَا عَنْ الصَّلَاة الْوُسْطَى أَيْ عَنْ إِيقَاعهَا , زَادَ مُسْلِم مِنْ طَرِيق شُتَيْر بْن شَكَلٍ عَنْ عَلِيّ " شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاة الْوُسْطَى صَلَاة الْعَصْر " وَزَادَ فِي آخِره " ثُمَّ صَلَّاهَا بَيْن الْمَغْرِب وَالْعِشَاء " وَلِمُسْلِمٍ عَنْ اِبْن مَسْعُود نَحْو حَدِيث عَلِيّ , وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيق زِرّ بْن حُبَيْشٍ عَنْ عَلِيٍّ مِثْله , وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيق أَبِي حَسَّان الْأَعْرَج عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ عَنْ عَلِيّ فَذَكَرَ الْحَدِيث بِلَفْظِ " كَمَا حَبَسُونَا عَنْ الصَّلَاة الْوُسْطَى حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْس " يَعْنِي الْعَصْر , وَرَوَى أَحْمَد وَالتِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث سَمُرَة رَفَعَهُ قَالَ " صَلَاة الْوُسْطَى صَلَاة الْعَصْر " وَرَوَى اِبْن جَرِير مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة رَفَعَهُ " الصَّلَاة الْوُسْطَى صَلَاة الْعَصْر " وَمِنْ طَرِيق كُهَيْل بْن حَرْمَلَة " سُئِلَ أَبُو هُرَيْرَة عَنْ الصَّلَاة الْوُسْطَى فَقَالَ.
اِخْتَلَفْنَا فِيهَا وَنَحْنُ بِفِنَاءِ بَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِينَا أَبُو هَاشِم بْن عُتْبَةَ فَقَالَ : أَنَا أَعْلَم لَكُمْ , فَقَامَ فَاسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْنَا فَقَالَ : أَخْبَرَنَا أَنَّهَا صَلَاة الْعَصْر " وَمِنْ طَرِيق عَبْد الْعَزِيز بْن مَرْوَان أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى رَجُل فَقَالَ : أَيّ شَيْء سَمِعْت مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاة الْوُسْطَى ؟ فَقَالَ أَرْسَلَنِي أَبُو بَكْر وَعُمَر أَسْأَلهُ وَأَنَا غُلَام صَغِير فَقَالَ : هِيَ الْعَصْر , وَمِنْ حَدِيث أَبِي مَالِك الْأَشْعَرِيّ رَفَعَهُ " الصَّلَاة الْوُسْطَى صَلَاة الْعَصْر " وَرَوَى التِّرْمِذِيّ وَابْن حِبَّانَ مِنْ حَدِيث اِبْن مَسْعُود مِثْله , وَرَوَى اِبْن جَرِير مِنْ طَرِيق هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كَانَ فِي مُصْحَف عَائِشَة " حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى وَهِيَ صَلَاة الْعَصْر " وَرَوَى اِبْن الْمُنْذِر مِنْ طَرِيق مِقْسَم عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ " شَغَلَ الْأَحْزَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم الْخَنْدَق عَنْ صَلَاة الْعَصْر حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْس فَقَالَ : شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاة الْوُسْطَى " وَأَخْرَج أَحْمَد مِنْ حَدِيث أُمّ سَلَمَة وَأَبِي أَيُّوب وَأَبِي سَعِيد وَزَيْد بْن ثَابِت وَأَبِي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس مِنْ قَوْلهمْ إِنَّهَا صَلَاة الْعَصْر , وَقَدْ اِخْتَلَفَ السَّلَف فِي الْمُرَاد بِالصَّلَاةِ الْوُسْطَى , وَجَمَعَ الدِّمْيَاطِيّ فِي ذَلِكَ جُزْءًا مَشْهُورًا سَمَّاهُ " كَشْف الْغِطَا عَنْ الصَّلَاة الْوُسْطَى ".
فَبَلَغَ تِسْعَة عَشَر قَوْلًا : أَحَدهَا الصُّبْح أَوْ الظُّهْر أَوْ الْعَصْر أَوْ الْمُغْرِب أَوْ جَمِيع الصَّلَوَات , فَالْأَوَّل قَوْل أَبِي أُمَامَةَ وَأَنَس وَجَابِر وَأَبِي الْعَالِيَة وَعُبَيْد بْن عُمَيْر وَعَطَاء وَعِكْرِمَة وَمُجَاهِد وَغَيْرهمْ نَقَلَهُ اِبْن أَبِي حَاتِم عَنْهُمْ وَهُوَ أَحَد قَوْلَيْ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس وَنَقَلَهُ مَالِك وَالتِّرْمِذِيّ عَنْهُمَا وَنَقَلَهُ مَالِك بَلَاغًا عَنْ عَلِيّ وَالْمَعْرُوف عَنْهُ خِلَافه , وَرَوَى اِبْن جَرِير مِنْ طَرِيق عَوْف الْأَعْرَابِيِّ عَنْ أَبِي رَجَاء الْعُطَارِدِيِّ قَالَ " صَلَّيْت خَلْف اِبْن عَبَّاس الصُّبْح فَقَنَتَ فِيهَا وَرَفَعَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ : هَذِهِ الصَّلَاة الْوُسْطَى الَّتِي أُمِرْنَا أَنْ نَقُوم فِيهَا قَانِتِينَ " وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ وَجْه آخَر عَنْهُ وَعَنْ اِبْن عَمْرو مِنْ طَرِيق أَبِي الْعَالِيَة " صَلَّيْت خَلْف عَبْد اللَّه بْن قَيْس بِالْبَصْرَةِ فِي زَمَن عُمَر صَلَاة الْغَدَاة فَقُلْت لَهُمْ : مَا الصَّلَاة الْوُسْطَى ؟ قَالَ هِيَ هَذِهِ الصَّلَاة.
وَهُوَ قَوْل مَالِك وَالشَّافِعِيّ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي " الْأُمّ " وَاحْتَجُّوا لَهُ بِأَنَّ فِيهَا الْقُنُوت , وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى ( وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ) وَبِأَنَّهَا لَا تُقْصَر فِي السَّفَر , وَبِأَنَّهَا بَيْن صَلَاتَيْ جَهْر وَصَلَاتَيْ سِرّ.
وَالثَّانِي قَوْل زَيْد بْن ثَابِت أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثه قَالَ " كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الظُّهْر بِالْهَاجِرَةِ , وَلَمْ تَكُنْ صَلَاة أَشَدّ عَلَى أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا , فَنَزَلَتْ : حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَات الْآيَة " وَجَاءَ عَنْ أَبِي سَعِيد وَعَائِشَة الْقَوْل بِأَنَّهَا الظُّهْر أَخْرَجَهُ اِبْن الْمُنْذِر وَغَيْره , وَرَوَى مَالِك فِي " الْمُوَطَّأ " عَنْ زَيْد بْن ثَابِت الْجَزْم بِأَنَّهَا الظُّهْر وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة فِي رِوَايَة , وَرَوَى الطَّيَالِسِيُّ مِنْ طَرِيق زُهْرَة بْن مَعْبَد قَالَ " كُنَّا عِنْد زَيْد بْن ثَابِت فَأَرْسَلُوا إِلَى أُسَامَة فَسَأَلُوهُ عَنْ الصَّلَاة الْوُسْطَى فَقَالَ : هِيَ الظُّهْر " وَرَوَاهُ أَحْمَد مِنْ وَجْه آخَر وَزَادَ " كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الظُّهْر بِالْهَجِيرِ فَلَا يَكُون وَرَاءَهُ إِلَّا الصَّفّ أَوْ الصَّفَّانِ وَالنَّاس فِي قَائِلَتهمْ وَفِي تِجَارَتهمْ , فَنَزَلَتْ ".
وَالثَّالِث قَوْل عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيق زِرّ بْن حُبَيْشٍ قَالَ " قُلْنَا لِعُبَيْدَةَ سَلْ عَلِيًّا عَنْ الصَّلَاة الْوُسْطَى , فَسَأَلَهُ فَقَالَ : كُنَّا نَرَى أَنَّهَا الصُّبْح , حَتَّى سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول يَوْم الْأَحْزَاب " شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاة الْوُسْطَى صَلَاة الْعَصْر " اِنْتَهَى.
وَهَذِهِ الرِّوَايَة تَدْفَع دَعْوَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْله صَلَاة الْعَصْر مُدْرَج مِنْ تَفْسِير بَعْض الرُّوَاة وَهِيَ نَصّ فِي أَنَّ كَوْنهَا الْعَصْر مِنْ كَلَام النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَأَنَّ شُبْهَة مَنْ قَالَ إِنَّهَا الصُّبْح قَوِيَّة , لَكِنْ كَوْنهَا الْعَصْر هُوَ الْمُعْتَمَد , وَبِهِ قَالَ اِبْن مَسْعُود وَأَبُو هُرَيْرَة , وَهُوَ الصَّحِيح مِنْ مَذْهَب أَبِي حَنِيفَة وَقَوْل أَحْمَد وَاَلَّذِي صَارَ إِلَيْهِ مُعْظَم الشَّافِعِيَّة لِصِحَّةِ الْحَدِيث فِيهِ , قَالَ التِّرْمِذِيّ : هُوَ قَوْل أَكْثَر عُلَمَاء الصَّحَابَة.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هُوَ قَوْل جُمْهُور التَّابِعِينَ.
قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : هُوَ قَوْل أَكْثَر أَهْل الْأَثَر , وَبِهِ قَالَ مِنْ الْمَالِكِيَّة اِبْن حَبِيب وَابْن الْعَرَبِيّ وَابْن عَطِيَّة , وَيُؤَيِّدهُ أَيْضًا مَا رَوَى مُسْلِم عَنْ الْبَرَاء بْن عَازِب " نَزَلَ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَات وَصَلَاة الْعَصْر فَقَرَأْنَاهَا مَا شَاءَ اللَّه , ثُمَّ نُسِخَتْ فَنَزَلَتْ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى , فَقَالَ رَجُل : فَهِيَ إِذَنْ صَلَاة الْعَصْر , فَقَالَ : أَخْبَرْتُك كَيْفَ نَزَلَتْ ".
وَالرَّابِع نَقَلَهُ اِبْن أَبِي حَاتِم بِإِسْنَادٍ حَسَن عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ " صَلَاة الْوُسْطَى هِيَ الْمُغْرِب , وَبِهِ قَالَ قَبِيصَة بْن ذُؤَيْب أَخْرَجَهُ أَبُو جَرِير , وَحُجَّتهمْ أَنَّهَا مُعْتَدِلَة فِي عَدَد الرَّكَعَات وَأَنَّهَا لَا تُقْصَر فِي الْأَسْفَار وَأَنَّ الْعَمَل مَضَى عَلَى الْمُبَادَرَة إِلَيْهَا وَالتَّعْجِيل لَهَا فِي أَوَّل مَا تَغْرُب الشَّمْس وَأَنَّ قَبْلهَا صَلَاتَا سِرّ وَبَعْدهَا صَلَاتَا جَهْر.
وَالْخَامِس وَهُوَ آخِر مَا صَحَّحَهُ اِبْن أَبِي حَاتِم أَخْرَجَهُ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ حَسَن عَنْ نَافِع قَالَ " سُئِلَ اِبْن عُمَر فَقَالَ : هِيَ كُلّهنَّ , فَحَافِظُوا عَلَيْهِنَّ " وَبِهِ قَالَ مُعَاذ بْن جَبَل , وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ قَوْله : ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ) يَتَنَاوَل الْفَرَائِض وَالنَّوَافِل , فَعُطِفَ عَلَيْهِ الْوُسْطَى وَأُرِيد بِهَا كُلّ الْفَرَائِص تَأْكِيدًا لَهَا , وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْل اِبْن عَبْد الْبَرّ.
وَأَمَّا بَقِيَّة الْأَقْوَال فَالسَّادِس أَنَّهَا الْجُمُعَة , ذَكَرَهُ اِبْن حَبِيب مِنْ الْمَالِكِيَّة وَاحْتَجَّ بِمَا اِخْتَصَّتْ بِهِ مِنْ الِاجْتِمَاع وَالْخُطْبَة , وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي حُسَيْن فِي صَلَاة الْخَوْف مِنْ تَعْلِيقه , وَرَجَّحَهُ أَبُو شَامَة.
السَّابِع الظُّهْر فِي الْأَيَّام وَالْجُمُعَة يَوْم الْجُمُعَة.
الثَّامِن الْعِشَاء نَقَلَهُ اِبْن التِّين وَالْقُرْطُبِيّ وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّهَا بَيْن صَلَاتَيْنِ لَا تُقْصَرَانِ وَلِأَنَّهَا تَقَع عِنْد النَّوْم فَلِذَلِكَ أُمِرَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا وَاخْتَارَهُ الْوَاحِدِيّ.
التَّاسِع الصُّبْح وَالْعِشَاء لِلْحَدِيثِ الصَّحِيح فِي أَنَّهُمَا أَثْقَل الصَّلَاة عَلَى الْمُنَافِقِينَ , وَبِهِ قَالَ الْأَبْهَرِيُّ مِنْ الْمَالِكِيَّة.
الْعَاشِر الصُّبْح وَالْعَصْر لِقُوَّةِ الْأَدِلَّة فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قِيلَ إِنَّهُ الْوُسْطَى , فَظَاهِر الْقُرْآن الصُّبْح وَنَصّ السُّنَّة الْعَصْر.
الْحَادِيَ عَشَر صَلَاة الْجَمَاعَة.
الثَّانِيَ عَشَر الْوِتْر وَصَنَّفَ فِيهِ عَلَم الدِّين السَّخَاوِيّ جُزْءًا وَرَجَّحَهُ الْقَاضِي تَقِيّ الدِّين الْأَخْنَائِيُّ وَاحْتَجَّ لَهُ فِي جُزْء رَأَيْته بِخَطِّهِ.
الثَّالِث عَشَر صَلَاة الْخَوْف.
الرَّابِعَ عَشَر صَلَاة عِيد الْأَضْحَى.
الْخَامِس عَشَر صَلَاة عِيد الْفِطْر.
السَّادِسَ عَشَر صَلَاة الضُّحَى.
السَّابِعَ عَشَر وَاحِدَة مِنْ الْخَمْس غَيْر مُعَيَّنَة قَالَهُ الرَّبِيع بْن خُثَيْم وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَشُرَيْحٌ الْقَاضِي وَهُوَ اِخْتِيَار إِمَام الْحَرَمَيْنِ مِنْ الشَّافِعِيَّة ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَة قَالَ كَمَا أُخْفِيَتْ لَيْلَة الْقَدْر.
الثَّامِنَ عَشَر أَنَّهَا الصُّبْح أَوْ الْعَصْر عَلَى التَّرْدِيد وَهُوَ غَيْر الْقَوْل الْمُتَقَدِّم الْجَازِم بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُقَال لَهُ الصَّلَاة الْوُسْطَى.
التَّاسِعَ عَشَر التَّوَقُّف فَقَدْ رَوَى اِبْن جَرِير بِإِسْنَادٍ صَحِيح عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب قَالَ : كَانَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْتَلِفِينَ فِي الصَّلَاة الْوُسْطَى هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْن أَصَابِعه.
الْعِشْرُونَ صَلَاة اللَّيْل وَجَدْته عِنْدِي وَذَهَلْت الْآن عَنْ مَعْرِفَة قَائِله , وَأَقْوَى شُبْهَة لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا غَيْر الْعَصْر مَعَ صِحَّة الْحَدِيث حَدِيث الْبَرَاء الَّذِي ذَكَرْته عِنْد مُسْلِم فَإِنَّهُ يُشْعِر بِأَنَّهَا أُبْهِمَتْ بَعْدَمَا عُيِّنَتْ كَذَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيّ , قَالَ وَصَارَ إِلَى أَنَّهَا أُبْهِمَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاء الْمُتَأَخِّرِينَ , قَالَ : وَهُوَ الصَّحِيح لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّة وَعُسْر التَّرْجِيح.
وَفِي دَعْوَى أَنَّهَا أُبْهِمَتْ ثُمَّ عُيِّنَتْ مِنْ حَدِيث الْبَرَاء نَظَر , بَلْ فِيهِ أَنَّهَا عُيِّنَتْ ثُمَّ وُصِفَتْ , وَلِهَذَا قَالَ الرَّجُل فَهِيَ إِذَنْ الْعَصْر وَلَمْ يُنْكِر عَلَيْهِ الْبَرَاء , نَعَمْ جَوَاب الْبَرَاء يُشْعِر بِالتَّوَقُّفِ لِمَا نُظِرَ فِيهِ مِنْ الِاحْتِمَال , وَهَذَا لَا يَدْفَع التَّصْرِيح بِهَا فِي حَدِيث عَلِيّ , وَمِنْ حُجَّتهمْ أَيْضًا مَا رَوَى مُسْلِم وَأَحْمَد مِنْ طَرِيق أَبِي يُونُس عَنْ عَائِشَة أَنَّهَا أَمَرَتْهُ أَنْ يَكْتُب لَهَا مُصْحَفًا , فَلَمَّا بَلَغَتْ ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى ) قَالَ فَأَمْلَتْ عَلَيَّ " وَصَلَاة الْعَصْر " قَالَتْ سَمِعْتهَا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى مَالِك عَنْ عَمْرو بْنِ رَافِع قَالَ كُنْت أَكْتُب مُصْحَفًا لِحَفْصَةَ فَقَالَتْ : إِذَا بَلَغْت هَذِهِ الْآيَة فَآذِنِّي , فَأَمْلَتْ عَلَيَّ " حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى وَصَلَاة الْعَصْر " وَأَخْرَجَهُ اِبْن جَرِير مِنْ وَجْه آخَر حَسَن عَنْ عَمْرو بْنِ رَافِع , وَرَوَى اِبْن الْمُنْذِر مِنْ طَرِيق عُبَيْد اللَّه بْنِ رَافِع " أَمَرَتْنِي أُمّ سَلَمَة أَنْ أَكْتُب لَهَا مُصْحَفًا " فَذَكَرَ مِثْل حَدِيث عَمْرو بْنِ رَافِع سَوَاء , وَمِنْ طَرِيق سَالِم بْنِ عَبْد اللَّه بْن عُمَر أَنَّ حَفْصَة أَمَرَتْ إِنْسَانًا أَنْ يَكْتُب لَهَا مُصْحَفًا نَحْوه وَمِنْ طَرِيق نَافِع أَنَّ حَفْصَة أَمَرَتْ مَوْلًى لَهَا أَنْ يَكْتُب لَهَا مُصْحَفًا فَذَكَرَ مِثْله وَزَادَ " كَمَا سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولهَا " قَالَ نَافِع فَقَرَأْت ذَلِكَ الْمُصْحَف فَوَجَدْت فِيهِ الْوَاو فَتَمَسّك قَوْم بِأَنَّ الْعَطْف يَقْتَضِي الْمُغَايَرَة فَتَكُون صَلَاة الْعَصْر غَيْر الْوُسْطَى.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ حَدِيث عَلِيّ وَمَنْ وَافَقَهُ أَصَحّ إِسْنَادًا وَأَصْرَح وَبِأَنَّ حَدِيث عَائِشَة قَدْ عُورِضَ بِرِوَايَةِ عُرْوَة أَنَّهُ كَانَ فِي مُصْحَفهَا " وَهِيَ الْعَصْر " فَيُحْتَمَل أَنْ تَكُون الْوَاو زَائِدَة , وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَة بِإِسْنَادٍ صَحِيح عَنْ أُبَيِّ بْن كَعْب أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا " حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى صَلَاة الْعَصْر " بِغَيْرِ وَاو أَوْ هِيَ عَاطِفَة لَكِنْ عَطْف صِفَة لَا عَطْف ذَات , وَبِأَنَّ قَوْله وَالصَّلَاة الْوُسْطَى وَالْعَصْر لَمْ يَقْرَأ بِهَا أَحَد , وَلَعَلَّ أَصْل ذَلِكَ مَا فِي حَدِيث الْبَرَاء أَنَّهَا نَزَلَتْ أَوَّلًا وَالْعَصْر ثُمَّ نَزَلَتْ ثَانِيًا بَدَلهَا وَالصَّلَاة الْوُسْطَى , فَجَمَعَ الرَّاوِي بَيْنهمَا , وَمَعَ وُجُود الِاحْتِمَال لَا يَنْهَض الِاسْتِدْلَال , فَكَيْفَ يَكُون مُقَدَّمًا عَلَى النَّصّ الصَّرِيح بِأَنَّهَا صَلَاة الْعَصْر , قَالَ شَيْخ شُيُوخنَا الْحَافِظ صَلَاح الدِّين الْعَلَائِيّ : حَاصِل أَدِلَّة مَنْ قَالَ إِنَّهَا غَيْر الْعَصْر يَرْجِع إِلَى ثَلَاثَة أَنْوَاع : أَحَدهَا تَنْصِيص بَعْض الصَّحَابَة وَهُوَ مُعَارَض بِمِثْلِهِ مِمَّنْ قَالَ مِنْهُمْ إِنَّهَا الْعَصْر , وَيَتَرَجَّح قَوْل الْعَصْر بِالنَّصِّ الصَّرِيح الْمَرْفُوع , وَإِذَا اِخْتَلَفَ الصَّحَابَة لَمْ يَكُنْ قَوْل بَعْضهمْ حُجَّة عَلَى غَيْره فَتَبْقَى حُجَّة الْمَرْفُوع قَائِمَة.
ثَانِيهَا مُعَارَضَة الْمَرْفُوع بِوُرُودِ التَّأْكِيد عَلَى فِعْل غَيْرهَا كَالْحَثِّ عَلَى الْمُوَاظَبَة عَلَى الصُّبْح وَالْعِشَاء وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَاب الصَّلَاة , وَهُوَ مُعَارَض بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَهُوَ الْوَعِيد الشَّدِيد الْوَارِد فِي تَرْك صَلَاة الْعَصْر , وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا.
ثَالِثهَا مَا جَاءَ عَنْ عَائِشَة وَحَفْصَة مِنْ قِرَاءَة " حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى وَصَلَاة الْعَصْر " فَإِنَّ الْعَطْف يَقْتَضِي الْمُغَايَرَة , وَهَذَا يَرِد عَلَيْهِ إِثْبَات الْقُرْآن بِخَبَرِ الْآحَاد وَهُوَ مُمْتَنِع , وَكَوْنه يَنْزِل مَنْزِلَة خَبَر الْوَاحِد مُخْتَلَف فِيهِ , سَلَّمْنَا لَكِنْ لَا يَصْلُح مُعَارِضًا لِلْمَنْصُوصِ صَرِيحًا , وَأَيْضًا فَلَيْسَ الْعَطْف صَرِيحًا فِي اِقْتِضَاء الْمُغَايَرَة لِوُرُودِهِ فِي نَسَق الصِّفَات كَقَوْلِهِ تَعَالَى ( الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ) اِنْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْح أَحْوَال يَوْم الْخَنْدَق فِي الْمَغَازِي وَمَا يَتَعَلَّق بِقَضَاءِ الْفَائِتَة فِي الْمَوَاقِيت مِنْ كِتَاب الصَّلَاة.
قَوْله : ( مَلَأ اللَّه قُبُورهمْ وَبُيُوتهمْ - أَوْ أَجْوَافهمْ - نَارًا شَكَّ يَحْيَى ) هُوَ الْقَطَّانُ رَاوِي الْحَدِيث , وَأَشْعَرَ هَذَا بِأَنَّهُ سَاقَ الْمَتْن عَلَى لَفْظه , وَأَمَّا لَفْظ يَزِيد بْن هَارُون فَأَخْرَجَهُ أَحْمَد عَنْهُ بِلَفْظِ " مَلَأ اللَّه بُيُوتهمْ وَقُبُورهمْ نَارًا " وَلَمْ يَشُكّ , وَهُوَ لَفْظ رَوْح بْن عُبَادَةَ كَمَا مَضَى فِي الْمَغَازِي وَعِيسَى بْن يُونُس كَمَا مَضَى فِي الْجِهَاد , وَلِمُسْلِمٍ مِثْله عَنْ أَبِي أُسَامَة عَنْ هِشَام , وَكَذَا لَهُ فِي رِوَايَة أَبِي حَسَّان الْأَعْرَج عَنْ عُبَيْدَة بْن عَمْرو , وَمَنْ طَرِيق شُتَيْر بْنِ شَكَلٍ عَنْ عَلَى مِثْله , وَلَهُ مِنْ رِوَايَة يَحْيَى بْن الْجَزَّار عَنْ عَلِيٍّ " قُبُورهمْ وَبُيُوتهمْ - أَوْ قَالَ - قُبُورهمْ وَبُطُونهمْ " وَمِنْ حَدِيث بْن مَسْعُود " مَلَأ اللَّه أَجْوَافهمْ - أَوْ قُبُورهمْ - نَارًا , أَوْ حَشَا اللَّه أَجْوَافهمْ وَقُبُورهمْ نَارًا " وَلِابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيث حُذَيْفَة " مَلَأ اللَّه بُيُوتهمْ وَقُبُورهمْ نَارًا أَوْ قُلُوبهمْ " وَهَذِهِ الرِّوَايَات الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الشَّكّ مَرْجُوحَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الَّتِي لَا شَكّ فِيهَا.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث جَوَاز الدُّعَاء عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِمِثْلِ ذَلِكَ.
قَالَ اِبْن دَقِيق الْعِيد : تَرَدُّد الرَّاوِي فِي قَوْله " مَلَأ اللَّه " أَوْ " حَشَا " يُشْعِر بِأَنَّ شَرْط الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى أَنْ يَتَّفِق الْمَعْنَى فِي اللَّفْظَيْنِ , وَمَلَأ لَيْسَ مُرَادِفًا لِحَشَا , فَإِنَّ حَشَا يَقْتَضِي التَّرَاكُم وَكَثْرَة أَجْزَاء الْمَحْشُوّ بِخِلَافِ مَلَأ , فَلَا يَكُون فِي ذَلِكَ مُتَمَسَّك لِمَنْ مَنَعَ الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى , وَقَدْ اِسْتُشْكِلَ هَذَا الْحَدِيث بِأَنَّهُ تَضَمَّنَ دُعَاء صَدَرَ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقّهُ وَهُوَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ مُشْرِكًا , وَلَمْ يَقَع أَحَد الشِّقَّيْنِ وَهُوَ الْبُيُوت أَمَّا الْقُبُور فَوَقَعَ فِي حَقّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ مُشْرِكًا لَا مَحَالَة.
وَيُجَاب بِأَنْ يُحْمَل عَلَى سُكَّانهَا وَبِهِ يَتَبَيَّن رُجْحَان الرِّوَايَة بِلَفْظِ قُلُوبهمْ أَوْ أَجْوَافهمْ.