ولمحبة شيوع الفاحشة في  الذين آمنوا معنيان ؟ ( ابن عثيمين ـ رحمه الله")
قال  العلامة ابن عثيمين "رحمه الله"
 
 أستدل المؤلف ـ رحمه الله ـ بقول الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ  فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ  ) [النور: من الآية19] .
ولمحبة شيوع الفاحشة في الذين آمنوا معنيان :
المعنى الأول : أن يحب شيوع الفاحشة في  المجتمع المسلم ، ومن ذلك من يبثون الأفلام الخليعة ، والصحف الخبيثة  الداعرة ، فإن هؤلاء ـ لا شك ـ يحبون أن تشيع الفاحشة في المجتمع المسلم ،  ويريدون أن يفتتن المسلم في دينه بسبب ما يشاع من هذه المجلات ، والأفلام  الخليعة الفاسدة ، أو ما أشبه ذلك .
وكذلك تمكين هؤلاء مع القدرة على منعهم ، داخل في محبة (  إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ  آمَنُوا ) [النور: 19] ، فالذي يقدر على منع هذه المجلات وهذه  الأفلام الخليعة ، ويمكن من شيوعها في المجتمع المسلم ، فهو ممن يحب أن  تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ( لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ  فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ )أي  عذاب مؤلم في الدنيا والآخرة .
ونقول : إنه يحب على كل مسلم أن يحذر من هذه الصحف وأن يتجنبها ، وألا  يدخلها في البيت ، لما فيها من الفساد : فساد الخلق ويتبعه فساد الدين ؛  لأن الأخلاق إذا فسدت ؛ فسدت الأديان ، نسأل الله العافية .
المعنى الثاني : أن يحب أن تشيع الفاحشة  في شخص معين ، وليس في المجتمع الإسلامي كله ، فهذا أيضا له عذاب أليم في  الدنيا والآخرة ، مثل أن يحب أن تشيع الفاحشة في زيد من الناس لسبب ما ،  فهذا أيضا له عذاب أليم في الدنيا الآخرة ، لاسيما فيمن نزلت الآية في سياق  الدفع عنه ، وهي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ؛ لأن هذه الآية في سياق  آيات الإفك ، والإفك هو الكذب الذي افتراه من يكرهون النبي صلى الله عليه  وعلى آله وصحبه وسلم ، ومن يحبون أن يتدنس فراشه ، ومن يحبون أن يعير بأهله  من المنافقين وأمثالهم .
وقضية الإفك مشهورة (1) ، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد  سفرا ؛ أقرع بين نسائه ، وذلك من عدله عليه الصلاة السلام ، فأيتهن خرج  سهمها خرج بها ، فأقرع بين نسائه ذات سفرة ؛ فخرج السهم لعائشة فخرج بها .
وفي أثناء رجوعهم عرّسوا في أرض ، يعني ناموا في آخر الليل ، فلما ناموا  احتاجت عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن تبرز لتقضي حاجتها ، فأمر النبي صلى  الله عليه وسلم بالرحيل في آخر الليل ، فجاء القوم فحملوا هودجها ولم  يشعروا أنها ليست فيه ؛ لأنها كانت صغيرة لم يأخذها اللحم ، فقد تزوجها  النبي صلى الله عليه وسلم ولها ست سنين ، ودخل عليها ولها تسع سنين ، ومات  عنها ولها ثماني عشرة سنة ، فحملوا الهودج وظنوا أنها فيه ثم ساروا .
ولما رجعت ؛ لم تجد القوم في مكانهم ، ولكن من عقلها وذكائها لم تذهب  يميناً وشمالاً تطلبهم ؛ بل بقيت في مكانها وقالت : سيفقدونني ويرجعون إلى  مكاني .
ولما طلعت الشمس إذا برجل يقال له صفوان بن المعطل ، وكان من قوم إذا ناموا  لم يستيقظوا ، كما هو حال بعض الناس الذين إذا ناموا لا يستيقظون ، حتى  ولو علت الأصوات من حوله . فكان صفوان من جملة هؤلاء القوم ، فكان إذا نام ؛  تعمق في النوم فلا يمكن أن يستيقظ إلا إذا أيقظه الله عز وجل كأنه ميت .
فلما استيقظ وجاء وإذا أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ وحدها في مكان  في البر ـ وكان يعرفها قبل أن ينزل الحجاب ـ فما كان منه إلا أن أناخ بعيره  ولم يكلمها بكلمة ، لم يقل لها : ما الذي أقعدك ؟ أو لماذا ؟
والسبب في أنه لم يتكلم هو احترامه لفراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ،  لا يريد أن يتكلم مع أهله بغيبته رضي الله عنه ، فأناخ البعير ووضع يده على  ركبة البعير ولم يقل اركبي ولا تكلم بشيء ، فركبت ثم ذهب بالبعير يقودها ،  ولم يكن يسوقها حتى لا ينظر إليها ـ رضي الله عنه ـ .
ولما أقبل على القوم ضحى وقد ارتفع النهار ؛ فرح المنافقون أعظم فرح أن  يجدوا مدخلاً للطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاتهموا الرجل  بالعفاف الرزان الطاهرة النقية فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اتهموه  بها وصاروا يشيعون الفاحشة بأن هذا الرجل فعل ما فعل ، وسقط في ذلك أيضا  ثلاثة من الصحابة الخلَص وقعوا فيما وقع فيه المنافقون ، وهم : مسطح بن  أثاثة بن خالة أبي بكر ، وحسان بن ثابت رضي الله عنهما ، وحمنة بنت جحش .
فصارت ضجة ، وصار الناس يتكلمون : ما هذا ؟ وكيف يكون ؟ من مشتبه عليه  الأمر ، ومن منكر غاية الإنكار . وقالوا : لا يمكن أن يتدنس فراش رسول الله  صلى الله عليه وسلم لأنه أطهر الفراش على وجه الأرض .
وأراد الله بعزته وقدرته وحكمته لما وصل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة  أن تمرض عائشة ـ رضي الله عنهاـ وبقيت حبيسة البيت لا تخرج ، وكان النبي  صلى الله عليه وسلم من عادته إذا عادها في مرضها سأل وتكلم وتحفَّى . أما  في ذلك الوقت فكان عليه الصلاة والسلام لا يتكلم ، يأتي ويدخل ويقول : ((  كيف تيكم ؟ )) أي كيف هذه ، ثم ينصرف ، وقد استنكرت ذلك منه رضي الله عنها ،  ولكنها ما كان يخطر ببالها أن أحدا يتكلم في عرضها بما فيه دنس فراش رسول  الله صلى الله عليه وسلم .
فقد أشاع المنافقون هذه الفرية على الصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنها  فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم لا كراهة لذاتها ؛ ولكن كراهة لرسول  الله صلى الله عليه وسلم ، وبغضاً له ، ومحبة في إيذائه وأن يدنس فراشه  قاتلهم الله أنى يؤفكون .
ولكن الله تعالى أنزل في هذه القصة عشر آيات من القرآن ابتدأها بقوله : ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا  تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ  مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ  مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[النور:11] ، والذي تولى كبره هو رأس  المنافقين عبد الله بن أبيّ المنافق ، فإنه هو الذي كان يشيع الخبر .
لكنه خبيث لا يشيعه بلفظ صريح فيقول مثلاً إن فلاناً زنى بفلانة ، لكنه  يشيع ذلك بالتعريض والتلميح ؛ كأن يقول : يذكر ، يقال ، يقولون : وما أشبه  ذلك لأن المنافقين جبناء يتسترون ولا يصرحون بما في نفوسهم ، فيقول عز وجل :  ( وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ  عَظِيمٌ (11) ( لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ  ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا  هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) [النور: 11 ـ12] .
وفي هذا توبيخ من الله عز وجل للذين تكلموا في هذا الأمر ، يقول : لولا إذا  سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً ، وذلك أن أم المؤمنين أمهم  فكيف يظنون ما لا يليق بها رضي الله عنها، وكان الواجب عليهم لما سمعوا هذا  الخبر ؛ أن ظنوا بأنفسهم خيراً وتبرؤوا منه وممن قاله .
 منقول للفائدة