ظاهرة ضعف الإيمان
إنّ ظاهرة ضعف الإيمان ممّا عمّ وانتشر في المسلمين ، وكثيراً ما نسمع من يشتكي من قسوة في قلبه، فيقول : " أحسّ بقسوة في قلبي " ، " لا أجد لذّة للعبادات" ، " أشعر أن إيماني في الحضيض" ، " لا أتأثر عند قراءة أو سماع القرءان" ، " أقع في المعصية بسهولة " .
وهذا كلّه يتفق مع عقيدة أهل السنّة والجماعة في أنّ الإيمان يزيد وينقص .
ولكن الكثير من الناس إلا من رحم الله ، الكثير منهم إيمانه ينقص ولا يشعر، والسبب في ذلك أنه ينظر إلى من حوله .. الناس يضعفون في إيمانهم مثله فيظن أنه على خير أو أن الكل أو الأغلب ضعيف الإيمان فيظن أنه ما شاء الله قوي في الإيمان .
تجده يصلي ثلاث أو أربع صلوات في المسجد والناس من حوله لا يصلون إلا صلاة واحدة أو صلاتين في المسجد فيظن أنه قوي الإيمان.
يأتي لصلاة الفجر بعد الإقامة فيظن أنه قوي الإيمان ، لأن الناس من حوله لا يصلون الفجر أصلاً.
" من مظاهر ضعف الإيمان "
أولاً: قسوة القلب وخشونته:
حتى أن الإنسان ليشعر أن قلبه قد انقلب حجراً صلداً حيث يقول الله تعالى" ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً " البقرة74 وصاحب القلب القاسي لا تؤثر فيه موعظة الموت ولا رؤية الأموات ولا الجنائز و سيره بين القبور كسيره بين الأحجار و الصخور .
ثانياً: يسمع الشخص القرآن فلا يبالي و لا يتأثر.
فلا يتأثر بآيات القرآن ولا بوعده ولا بوعيده ولا بأمره ولا بنهيه ولا في وصفه للقيامة ، فضعيف الإيمان يمل من سماع القرآن و إذا فتح المصحف فسرعان ما أقفله .
ضعيف الإيمان تتلى عليه آيات الله تعالى فلا تدمع له عين ولا يخشع له قلب ، أما صاحب الإيمان القوي فيقول فيه المولى عز وجل:" إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ " الأنفال2 .
- يقول عليه الصلاة والسلام لابن مسعود رضي الله عنه :" اقرأ علي فقلت أقرأ عليك وعليك أنزل قال فقرأت سورة النساء فلما بلغت " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " قال حسبك فالتفت فإذا عيناه تذرفان " رواه البخاري
- و قيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام إحدى الليالي بآية واحدة فقط وهو يردد قوله تعالى و يبكي "ِ إن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " المائدة118 فتقول عائشة رضي الله عنها : سمعته عليه الصلاة والسلام في السجود يبكي ويقول :" يا رب أمتي.. أمتي ".
رسول بأمته رؤوف رحيم.
- عندما أمر الرسول عليه السلام وقال :" مروا أبا بكر فليصلي بالناس " تقول عائشة رضي الله عنها : " إن أبا بكر رجل أسيف _ كثير البكاء_ إذا قرأ القرآن بكى .
- عمر رضي الله عنه وما أدراك ما عمر .. أمّ الناس في صلاة الفجر فأخذ يقرأ في سورة يوسف حتى وصل قوله تعالى : " إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله " فتوقف ولم يستطع أن يكمل ، فبكى وأبكى من خلفه .
هكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
- عمر بن عبد العزيز قام ليلة يصلي فقرأ : " والليل إذا يغشى " حتى إذا وصل قوله تعالى :" فأنذرتكم ناراً تلظى " فلم يستطع أن يكمل السورة فأعادها حتى وصل قوله تعالى :" فأنذرتكم ناراً تلظى " فلم يستطع أن يكمل السورة فأعادها وأخذ يعيدها ويعيدها دون أن يستطيع إكمالها من شدة البكاء ، فتركها وقرأ سورة غيرها .
- يقول الله تعالى:" أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا " محمد24
هذا القرآن أيها الأحبة في الله لوأنزل على جبل من صخر لتفتت ذلك الصخر.
" لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ " الحشر21
فإن كنت تريد أيها الحبيب في الله أن تعرف قوة إيمانك فاعرض نفسك على القرآن . هل تتأثر عندما تقرأ القرآن أو عندما تسمع القرآن . هل عندما تصلي خلف الإمام تخشع و تتدبر الآيات :" اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ " الزمر23.
فما بال قلوبنا أيها الأحبة في الله . ما بالنا نقرأ القرآن و كأن أحدنا يقرأ جريدة أو مجلة لا يلقي لها بال . وقد يقرأ أحدهم قصة في مجلة أو يتابع مسلسلاً في التلفاز فيتأثر به و لكنه يقرأ أحسن القصص في القرآن العظيم و لكنه لا يتأثر .
فمنذ متى أيها الأخ في الله خلوت فقرأت القرآن و ذكرت الله ففاضت عيناك : " ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه " .
اعرف قوة إيمانك أيها العبد المسلم . فهل وصلت لهذه الدرجة من خشوع وتدبر .
ثالثا ً: الوقوع في المعاصي و ارتكاب المحرمات :
فتسوِّل له نفسه هذا المسكين - ضعيف الإيمان – أنه كلما وقع في ذنب قال إنها صغيرة . كلما وقع في ذنب قال : الحمد لله صليت في جماعة . " إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ " فإذا دخل البيت تراه يستمع الأغاني في المسجل و التلفاز و حتى في سيارته و لا يبالي ويقول : إنها صغيرة . وإذا مر بالأسواق أمعن النظر في هذه المرأة وتلك الفتاة . فيطلق العنان لنظراته – و النظرة سهم من سهام إبليس – ولا يبالي . وإذا جلس في مجالسٍ أخذ يغتاب ويستبيح أعراض الناس . فلا تنظر أيها المؤمن إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى عظمة من عصيت . واعلم أن هناك يوماً ستحاسب فيه على كل صغيرة وكبيرة. يقول الله تعالى: " وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴿19﴾ حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿20﴾ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴿20﴾ " **فصلت19-21
ويقول تعالى: " وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً " مريم95
” حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" فصلت20
" وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " فصلت21
ومن أسباب ضعف الإيمان :
4 : الانشغال بالمال والزوجة والأولاد ، يقول الله تعالى :
" الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً " الكهف46
وقال الله تعالى :
" وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ " الأنفال28
يحذرنا المولى عز وجل من أن نفتن بالمال والأهل لأنهما ما هما إلا زينة الحياة الزائلة .. ويدلنا على الخير كله وهو : الباقيات الصالحات ، ويدخل فيها كل عمل صالح : من عبادات وطاعات وأخلاق ومعاملات ..
لذلك يا عبد الله لا تغرنك شهوتك وحبك للنساء والبنين والأموال ..
يقول تعالى :
" زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ " آل عمران14
ومعنى هذه الآية : إذا كان حب هذه الأشياء وفي مقدمتها النساء والبنون مقدم على طاعة الله عز وجل ورسوله فهنا يقع الإثم والحرمة ..
وأما إن كان حب تلك الأشياء على الوجه الشرعي الذي يعين على طاعة الله تعالى ورسوله فذلك لا بأس به ، بل هو محمود وطيب لأنه يعين صاحبه على الطاعة ..
فهذا سخر دنياه لآخرته فله بذلك الأجر العظيم .
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الحسن فقبله ثم قال : " إن الولد مبخلة مجبنة مجهلة محزنة " صحيح الجامع 1990 .
- مبخلة : إذا أراد الإنسان أن ينفق في سبيل الله ذكّره الشيطان بأولاده ، فيقول :
أولادي أحق بالمال ، أبقيه لهم يحتاجونه من بعدي فيبخل عن الإنفاق في سبيل الله.
- مجبنة : إذا أراد الرجل أن يجاهد في سبيل الله يأتيه الشيطان فيقول : تقتل فيضيع الأولاد ويصبحوا يتامى فيقعد ويتقاعس عن الخروج في سبيل الله .
- مجهلة : أي أن الأولاد قد يشغلوا الأب عن طلب العلم والسعي في تحصيله وحضور مجالسه فيبقى هذا المسكين على جهله .
- محزنة : أي إذا مرض الولد حزن عليه الأب أو إذا طلب الولد شيئاً لا يقدر عليه الأب حزن .. وإذا كبر وعقّ أباه فذلك الحزن الدائم والهم اللازم .
ولا نقصد بذلك ترك الزواج والإنجاب ولا ترك تربية الأبناء ، وإنما المقصود التحذير من الانشغال معهم بالمحرمات أو تقديم حبهم والتعلق بهم على طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله عليه السلام .
- وأما فتنة المال فحدث عنها ولا حرج، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر :
عن كعب بن عياض قال سمعت النبي عليه السلام يقول : " إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال " سنن الترمذي حديث 2258
فتنة : امتحان واختبار .. وقيل الفتنة : هي الضلال والمعصية..
وفتنة أمة الإسلام بالمال لأن المال قد يشغل البال عن القيام بالطاعة وينسي الآخرة .
- وحب المال والحرص عليه يكون أشد إفساداً للدين من الذئب على الماشية..
وهذا معنى الحديث الذي يرويه الترمذي :
والذي يقول فيه عليه السلام : " ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال " سنن الترمذي حديث 2298
أي أن الحرص على المال وجمعه يفسد الدين أكثر مما يفسد الذئبان الجائعان اللذان تسلطا على الغنم .
رابعاً : التكاسل عن الطاعات والعبادات وإضاعة بعضها :
عندما بدأ يصلي كانت صلاته تتصف بالخشوع والتدبر والاطمئنان ، ولكنه بعد ذلك أصبح يؤديها كأنها حركات جوفاء لا روح فيها ولا حلاوة .. نسي أنه قد يقع في النفاق لقوله تعالى :
" إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً " النساء142
وروي عن ابن عباس أنه قال :
" يكره أن يقوم الرجل إلى الصلاة وهو كسلان ولكن يقوم إليها طلق الوجه، عظيم الرغبة، شديد الفرح، فإنه بناجي الله وإن الله تجاهه يغفر له ويجيبه إذا دعاه " .
لا تتثاقل يا عبد الله عن الصلاة وخاصة الجماعة حتى لا يضعف إيمانك شيئاً فشيئاً حتى يخرج بك من دائرة الإيمان إلى دائرة النفاق والعياذ بالله لقوله عليه السلام في الحديث الذي يرويه أبو هريرة أنه قال : " ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا لقد هممت أن آمر المؤذن فيقيم ثم آمر رجلا يؤم الناس ثم آخذ شعلا من نار فأحرق على من لا يخرج إلى الصلاة بعد " . البخاري 617
كانوا يتخلفون عن بعض صلوات الجماعة فوصفهم عليه السلام بالمنافقين _ فلنحذر أيها الأحبة من ذلك ..
وأول ما بدأ يصلي ذلك المسكين كان يحافظ على الصف الأول ... لكن ماذا حدث له ؟؟ أصبح يصلي في الصف الثاني ثم الثالث .. ثم في الصف الأخير ..
وربما لا يأتي إلا عند الإقامة أو عند الركعة الأخيرة _ تكاسل مستمر وتراجع تدريجي _ ونسي قول الحبيب عليه السلام في الحديث الذي ترويه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنه قال : " لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخرهم الله في النار " سنن أبي داوود حديث رقم 581
* يتأخر المسكين _ دوماً_ في الطاعات ولا يبالي :
- كان في البداية يحافظ على أذكار الصباح والمساء ولعله حمل في جيبه حصن المسلم .. ولكنه أصبح اليوم لا يقرأ الأذكار أبداً .
- كان يقرأ من القرآن كل يوم ساعة وساعتين .. ولكنه اليوم لا يقرأ إلا عشرة دقائق ولربما لا يقرأ آية واحدة .
- كان يقوم الليل بأربع أو ثمان ركعات _ كل ليلة _ لكنه اليوم لا يقوم إلا في رمضان .
- كان يصوم الاثنين والخميس وثلاثة أيام من كل شهر .. لكنه الآن لا يصوم حتى يوماً واحداً في الشهر .
فمثل ذلك لا يشعر بتأنيب الضمير إذا فاتته صلاة مكتوبة وكذلك إذا فاتته سنة راتبة أو قد يتعمد تضييع بعض السنن وبعض فروض الكفاية كصلاة العيد وصلاة الكسوف وصلاة الجنازة فهو راغب في الأجر أما سنة الضحى وسنة الوضوء والاستخارة وغيرها فلا يعلم لها طريق.
ومن أسباب ضعف الإيمان :
3 : الانشغال في الدنيا حتى يصبح القلب عبداً لها ويصبح الشخص تبعاً لهواه .
لا تنشغل يا عبد الله بالدنيا وانظر لآخرتك ولا تغرنك ملذات الدنيا ولا شهواتها ،
لأنك لابد راجع إلى الله تعالى ومفارق لهذه الدنيا ...
يقول تعالى :
" كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفوَْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ " آل عمرانّ 185
من أدخل الجنة فقد فاز .. كما جاء في حديث النبي عليه السلام في صحيح البخاري ( 5936 ) أنه قال : " موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ولغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها "
وقوله عليه السلام في مسند الإمام أحمد ( 6516 ) الذي يقول فيه :
" من أحبّ أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه " .
وأما قوله تعالى : " وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ "
فهي تصغير لشأن الدنيا وتحقير لأمرها وأنها دنيئة فانية قليلة زائلة ..
قال تعالى عن الدنيا:" وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى" القصص 60
وجاء في الحديث الذي جاء في مسند الإمام أحمد ( 17322 ) أنه عليه الصلاة والسلام قال : " ما الدنيا في الآخرة إلا كمل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم فلينظر بما يرجع وأشار بالسبابة "
- وروي أن الحسن قرأ : " قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ " فقال : " رحم الله عبدا صحبها على حسب ذلك وما الدنيا كلها أولها وآخرها إلا كرجل نام نومة فرأى في منامه بعض ما يحب ثم انتبه " .
وصدق القائل :
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له من الله في دار المقام نصيب
فإن تعجب الدنيا رجالاً فإنها متاع قليل والزوال قريب
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أسباب السماء بسلم
فأين كنت يا عبد الله لا بد وأنك راحل ، فلا تتشبث في الحياة الدنيا وتزود بخير الزاد ، ألا وإن خير الزاد التقوى .
قال تعالى :
" وتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ " البقرة 197
فلا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه ومهما اتخذت من الاحتياطات فراراً من الموت فلن تفر أبداً .
قال الله تعالى :
"قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ"الجمعة 8
وقال تعالى :
" إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ " يونس 24
ضرب الله تعالى مثلا لزهرة الحياة الدنيا وزينتها وسرعة زوالها بالنبات الذي أخرجه الله تعالى من الأرض .. بماء أنزل من السماء مما يأكل الناس من زروع وثمار على اختلاف أنواعها وما تأكل الأنعام من أبّ وقضب وغير ذلك حتى إذا أخذت الأرض زخرفها أي ازيّنت وحسنت بما خرج في رباها من زهور نضرة مختلفة الأشكال والألوان وظن أهلها الذين زرعوها وغرسوها أنهم قادرون على أكل ثمرها وحصد منتوجها .. فبينما هم كذلك إذ جاءتها صاعقة أو ريح شديدة باردة فأيبست أوراقها وأتلفت ثمارها كأن لم تغن بالأمس .. وهكذا تكون الأمور بعد زوالها كأن لم تكن.
ولهذا جاء في الحديث الشريف في صحيح مسلم ( 5021 ) أنه عليه السلام يقول : " يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط هل مر بك نعيم قط فيقول لا والله يا رب ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط هل مر بك شدة قط فيقول لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط "
ونختم بقوله تعالى : " وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً " الكهف45
ونترككم إخوتي في الله تتفكرون في أمر الدنيا بعد هذا التفصيل المتواضع البسيط ... هل تستحق الدنيا أن نترك الآخرة لأجلها ؟؟؟ !!!!
هذا ما تيسر .. وبإذنه تعالى سيكون هناك تكملة للموضوع إن كان لنا بقية من عمر وتيسر لنا ذلك الأمر .