طلاق المكره والمجنون والسكران والغضبان والمدهوش ونحو ذلك:
هذه الأمور صاحبها مجرّد من الإِرادة والاختيار والنيّة، والنصوص في ذلك كثيرة:
فعن أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِن الله تجاوز عن أُمَّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (1).
بل إِنّ مَن أُكره على الكُفر -إِنْ كان قلبه مطمئناً بالإِيمان- لا يكفر لقوله -سبحانه-: {إِلا من أُكره وقلبه مطمئنٌّ بالإِيمان** (2).
وعن عائشة -رضي الله عنها- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا طلاق ولا عتاق في إِغلاق" (3).
قال الإِمام البخاري -رحمه الله-: "الطلاق (4) في الإِغلاق والكُرْه، والسكران والمجنون وأمرهما، والغلط والنسيان في الطلاق والشرك وغيره:
لقول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الأعمال بالنّية، ولكل امرئٍ ما نوى"، وتلا الشعبيُّ: {لا تؤاخِذْنا إِن نَسِينا أو أخطأنا** (5) وما لا يجوز من إِقرار المُوَسْوِسِ، وقال
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي أقرّ على نفسه: أَبِك جُنون؟ وقال علي: بقرَ حمزة خواصر شارفَيَّ (1)، فطفق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلوم حمزة، فإِذا حمزة ثَمِلٌ محمرّة عيناه، ثمّ قال حمزة: وهل أنتم إِلا عبيد لأبي؟ فعرف النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قد ثَمِلَ، فخرج وخرجنا معه. وقال عثمان: ليس لمجنون ولا لسكران طلاق. وقال ابن عباس: طلاقُ السكران والمستَكرَه ليس بجائز، وقال عقبة بن عامر: لا يجوز طلاق الموسوس، وقال عطاء: إِذا بدا بالطلاق فله شرطه، وقال نافع: طلق رجلٌ امرأته البتة إِن خرجت، فقال ابن عمر: إِن خرجت فقد بُتَّت منه، وإِن لم تخرج فليس بشيء، وقال الزُّهري فيمن قال: إِن لم أفعل كذا وكذا فامرأتي طالق ثلاثاً: يُسأل عمَّا قال وعقد عليه قلبه حين حلف بتلك اليمين، فإِن سمَّى أجلاً أراده وعقد عليه قلبه حين حَلَف؛ جُعلَ ذلك في دينه وأمانته، وقال إِبراهيم: إِن قال لا حاجة لي فيك نيته ...
وقال الحسن: إِذا قال: الحَقي بأهلك نيته. وقال ابن عباس: الطلاق عن وطَر (2)، والعتاق ما أُريد به وجه الله. وقال الزهري: إِن قال: ما أنت بامرأتي نيته، وإن نوى طلاقاً فهو ما نوى. وقال عليٌّ: ألم تعلم أن القلم رُفع عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يدرك، وعن النائم حتى يستيقظ، وقال عليّ: وكلُّ الطلاق جائز إِلا طلاق المعتوه".
ثمّ ذكر الإِمام البخاري -رحمه الله- حديث جابر -رضي الله عنه- "أنّ رجلاً مِن أسلم أتى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في المسجد فقال: إنه قد زنى، فأعرض عنه،
فتنحَّى لشقه الذي أعرض فشهد على نفسه أربع شهادات، فدعاه فقال: هل بك جُنون؟ هل أُحصنت؟ قال: نعم، فأمر به أن يرجم بالمصلّى، فلمّا أذْلَقَتْهُ الحجارة؛ جمز (1) حتى أُدرك بالحرّة فقتل" (2).
قلت: مراد الإِمام البخاري -رحمه الله- من إِيراد هذا الحديث تحت هذا الباب؛ أن من به جنون وشهد على نفسه بالزنى فلا يقام عليه الحدّ، فمن باب أولى ألا يقع منه الطلاق، والله أعلم.
قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (9/ 389): "اشتملت هذه الترجمة [أي: ترجمة الباب] على أحكام يجمعها أن الحكم إِنما يتوجه على العاقل المختار العامد الذاكر، وشمل ذلك الاستدلال بالحديث؛ لأن غير العاقل المختار لا نية له فيما يقول أو يفعل، وكذلك الغالط والناسي والذي يُكره على الشيء".
وفيه (ص390): "واحتج عطاء بآية النحل: {إِلا من أُكره وقلبُه مُطمئن بالإِيمان** قال عطاء: الشرك أعظم من الطلاق، أخرجه سعيد بن منصور بسند صحيح وقرره الشافعي بأن الله لما وضع الكفر عمن تلفظ به حال الإِكراه، وأسقط عنه أحكام الكفر؛ فكذلك يسقط عن المكره ما دون الكفر؛ لأن الأعظم إِذا سقط سقط ما هو دونه بطريق الأولى، وإلى هذه النكتة أشار البخاري بعطف الشرك على الطلاق في الترجمة".
وفي طلاق السكران خلاف بين العلماء، والسُّكر -عياذاً بالله- متفاوِتٌ في تأثيره.
__________
قال الحافظ (9/ 390): "وقد يأتي السكران في كلامه وفِعله بما لا يأتي به وهو صاح لقوله -تعالى-: {حتى تعلموا ما تقولون** (1) فإِن فيها دلالة على أن من علم ما يقول لا يكون سكراناً".
وهذا كلام قويّ يجعلنا نحكم على وقوع طلاق السكران الذي يعلم ما قال، وعدم وقوع طلاق السكران الذي لا يعلم ما قال.
وربما أقَرَّ هذا السكران بعد يقظته أنه طلّق وأنه متيقّظ لما قال، وربّما أنكر ذلك، فإِنكاره قد يدلُّ على ذَهاب عقْله. والله -تعالى- أعلم.