المختصر في مسائل القضاء والقدر
مقـدمــــة
الحمد لله وكفي والصلاة والسلام علي عبده المصطفي
وبعـــــد
فإن الإيمان بالقدر من أصول الدين قال رسول الله عندما سئل عن الإيمان
( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وتؤمن بالقدر خيره وشره ) ( )
والنصوص المخبرة بقدرة الله كثيرة قال تعالي{ وخلق كل شئ فقدرة تقديرا **سورة القمر (49) ( وقال عبد الله بن عمر كل شئ بقدر حتى العجز والكيس ) ( ) والكيس ضد العجز
( وقال ابن عمر أيضا لما أخبر عن قول معبد الجهنى ( أن الأمر أُنف ) قال إذا لقيت
أولئك فأخبرهم أنى برئ منهم وأنهم براء مني والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أنفق أحدهم مثل أُحدٍ ذهبا ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر ). رواه مسلم وهذا دليل واضح علي بطلان عمل من لم يؤمن بالقدر بل دليل علي كفر من أنكره جملة لذلك كان غلاة القدرية النفاة الذين ينفون القدر جملة فينفون علم الله الأول خارجون عن الملة نوعا وعينا بإتفاق أهل السنة وليسوا من أهل القبلة وهم وإن كانوا انقرضوا إلا أن آثار منهجهم موجودة في عقائد أهل البدع) ( ).
تعريـف القضـاء والقـدر
(( القدر لغة من قَدَرْت الشيء أقْدرهُ قَدْراً وقَدَراً إذا أحطت بمقداره( )
وعند أهل اللغة يستعمل في القضاء والحكم .
وشرعا ما سبق به العلم وجري به القلم مما هو كائن إلى الأبد .
القضاء من قضي يقضي قضاء فهو قاض .إذا حكم وفصل وأمضي وقطع وأتم ( ) .
وقد فرق العلماء بين القضاء والقدر،فقالوا القدر هو العلم السابق منذ الأزل والقضاء هو وقوع الخلق علي وزن الأمر وحصول الشيء مطابقا للعلم وبالجملة فهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر وقيل في الفرق بينهما عكس ذلك )) (6) .
الاختلاف في مسألة القدر
الفرقة الأولى ( الجبرية ) :
وهؤلاء غالوا في إثبات القدر فسلبوا العبد قدرته واختياره
وقالوا إن العبد مسير لا مخير ولا فرق بين الفعل الواقع باختياره كالذنب وبين الفعل الواقع رغما عنه كالسقوط من شاهق ولا شك أنهم ضالون وهم الجبرية لإنه مما علم ضرورة من الدين والعقل والعادة أن الإنسان يفرق بين فعل الاختيار وفعل الإجبار( )
لقد ترك هؤلاء العمل احتجاجا بالقدر قبل وقوعه واحتجوا بالقدر علي ما يقع منهم من أعمال مخالفة للشرع ووصل بهم الحال إلى عدم التفريق بين الكفر والإيمان لأن الجميع عندهم خلق الله ومنهم نشأت الإباحية الذين يقولون بسقوط الواجبات ورفع العقوبات وقد يغالون فيجعلون عين الموجودات هي الله وقالوا ليس في الكون معصية البتة فكل ما في الكون أراده وشاءه وكل مل في الكون أحبه ورضاه وقالوا:
أصبحت منفعلا لما يختاره مني ففعلي كله طاعات
وعارفهم هو الذي قال:
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
وأثمرت هذه العقيدة ضررا عظيما لاسيما في ترك الأسباب قال بعضهم :
جري قلم القضاء بما يكون فسيان التحرك والسكـون
جنونٌ منك أن تسعي لرزقٍ ويُرْزق في غيابته الجنين
ومقالهم في نهاية الآمر يؤدي إلى الكفر بالله والتكذيب بكتبه وما أخبرت به الرسل( )
وهؤلاء الجبرية ينقسمون إلي :-
أ – الجبرية الخلص هؤلاء ينفون القدرة والإرادة الإنسانية فعندهم دقات القلب لا تختلف
عن القتل والزنا من حيث مسئولية المرء عنها وهؤلاء يرد عليهم الشرع
قال تعالي ** واعملوا ما شئتم ** {ولمن شاء منكم أن يستقيم ** ويرد عليهم العقل
حيث لا يمارى عاقل في أن هناك فرقا بين الأفعال الاختيارية والاضطرارية .
ب – الجبرية المستترين ( الأشاعرة ) وهؤلاء يثبتون قدرة ومشيئة للإنسان ولكن يقولون إنها لا يقع بها الفعل ولكن معها فيقترن وجود الفعل مع القدرة والمشيئة من غير أثر لها في الفعل فيقولون الله الخلق القطع عند مرور السكين أي بسبب السكين
فعندهم السكين لا تقطع أما نحن فنقول الله يخلق القطع بالسكين
وكذلك يقولون النار لا تحرق ولكن الله يخلق الإحراق عند وجود النار
أما أهل السنة فيقولون النار تحرق ويخلق الله الإحراق بالنار فمذهبهم
هو مذهب الجبرية وإنما التفريق هو إثبات قدرة ومشيئة للعبد بلا أثر.( )
وقد ظهرت الجبرية كرد فعل منكر للقدرية .وبعد عصر النهضة الأوربية
وما يسمي بالثورة علي المعتقدات الكنائيسية ظهر معتقد القوي البشرية الغير متناهية للعقل البشري وتأثر بعض من يتسمون بالمثقفين من المسلمين باعتقاد قدرة الإنسان فحسب
وعدم تدخل أي قوي في حياته.( )
ومن الجبرية تفرعت الإباحية الذين عدوا الكبائر والكفر كرامات
فيقولون من كرامات الولي الغلاني أنه كان يأتي البغلة في الطريق
ومن كرامات الولي الغلاني أنه صعد المنبر فقال أشهد أن لا إله لكم إلا إبليس
( صلي الله علية وسلم ) فقال الناس كفر كفر فسل السيف سوطا ونزل من علي المنبر
ففر الناس من المسجد ( ذكره الشعراني علي أنه من كرمات الأولياء ).( )
الـرد علي الجبـرية
يرد عليهم من وجوه عدة منها :-
أولا : إطلاق لفظ الجبر علي أفعال العباد خطا في الأصل حيث يطلقونه ويريدون به الإكراه ولما اختلف الرجلان قال أحدهما الله يجبر العباد وقال الآخر لا يجبرهم
فتحاكما إلى الإمام أحمد فقال منكرا عليهما لا و إنما نقول يضل من يشاء ويهدى من يشاء واسم الله الجبار معناه أن الله جعلهم مريدين لما يريد دون إكراه . ( )
ثانيا : الجبر علي الفعل لا يكون إلا من عاجز بمعني أنك تجبر غيرك وتكرهه علي الفعل
وإذا عجزت أن تجعله يفعله باختياره والله لا يعجزه شئ فمن قدرته أنه يجعلهم يفعلون مراده دون إكراه ولعل هذا هو معني اسمه الجبار.( )
ثالثا : إنكار الاختيار في فعل العبد نقص في العقل فشتان بين دقة قلب ودقة عزف
وشتان بين سقوط من شاهق وقفز بمظلة وشتان بين زلقة رجل وضربه كرة.( )
رابعا : زعمهم أن كل شئ خلقه الله فقد رضيه وأحبه باطل إذ كيف يحب الله من لعنهم وغضب عليهم وذمهم وتوعدهم.( )
خامسا : زعمهم أن الأيمان بالقدر يستلزم ترك الأعمال يعارض صريح القرءان
قال تعالي ** فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ** وقال أيضا {فامشوا في مناكبها**
وقال أيضا ** فقاتلوا أئمة الكفر** ومقتضى قولهم أنهم يريدون ذرية دون زواج،
وقادهم ذلك والعياذ بالله إلي ما لا تحمد عقباه . فأحدهم يري رجلا يفجر بزوجته
فأقبل يضربها وهي تقول القضاء والقدر فقال لها يا عدوة الله أتذنبين وتعتذرين
مثل هذا فقالت أوه تركت السنة وأخذت مذهب بن عباس فتبنه ورمي بالسوط
فقال لها لولا أنت لضللت.
وآخر رأي رجلا يفجر بزوجته فقال ما هذا فقالت قضاء الله وقدره فقال الخيرة
فيما قضي الله فلقب بالخيرة فيما قضي الله.( )
فائدة : احتجاجهم بحديث أدم وموسى قال موسى " أهبط الناس بخطياتك إلى الأرض فقال أدم وكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أُخلق قال بأربعين سنه قال
وهل وجدت فيها وعصي أدم ربه فغوي قال نعم قال أفتلومني علي عملٍ عملته كتبه الله علىّ
قبل أن يخلقني بأربعين سنه " فحج أدم وموسى.
وليس في هذا حجة لهم فأدم لم يحتج بالقدر علي الذنب وموسى لم يلم أباه
علي ذنب غفر له بل لامه علي المصيبة التي أخرجت أدم وذريته من الجنة
وآدم احتج بالقدر علي المصيبة ( النيتجة ) لا علي الخطيئة فإن القدر يحتج به
في المصائب لا عند المعايب والذنب بعد التوبة منه مصيبة والموضع الذي يضر به الاحتجاج بالقدر في الذنب قال المستقبل أو حالة الإصرار لا بعد التوبة.( )
الفرق الثانية (( القدرية )) نفاة القدر:
وهؤلاء غالوا في إثبات قدرة العبد واختياره حتى نفوا أن يكون لله مشيئة أو اختيار
أو خلق فيما يفعله العبد وزعموا أن العبد مستقل بفعله حتى غلا طائفة منهم وقالوا
إن الله تعالي لا يعلم ما يفعله العباد إلا بعد أن يقع وهؤلاء غلاة القدرية ( ) .
( وزعم هؤلاء كذبا وزورا أن الله إذا أمر العباد بأمر ونهاهم عن شئ
لا يعلم من يطيعه منهم ممن يعصيه ولا يعلم من يدخل الجنة ممن يدخل النار إلا بعدما يعلمون فينفون مرتبة العلم ومرتبة الكتابة وأول من قال بهذا القول معبد الجهني
ثم تقلده واصل بن عطاء رأس المعتزلة وعمرو بن عبيد وقد حذر النبي منهم
وخاف علي أمته من شأنهم فقال (أخاف علي أمتي من يعدي ثلاثا حيف الأئمة ،
وإيمانا بالنجوم وتكذيبا بالقدر )( ). وهؤلاء سماهم النبي مجوس هذه الأمة حيث
قالوا بوجود خالقين فعندهم الله خلق الذات والعبد خلق الفعل كما قالت المجوس النور خالق الخير والظلمة خالق الشر. قال ( لكل أمه مجوس ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم ) ( ) وقد نص مالك والشافعي وأحمد علي كفر من لم يقر بعلم الله ( ) ( وهم يمثلون لمذهبهم بالمدرس يحدد درجات الطلاب قبل الامتحان اعتمادا علي خبرته بحالهم وبعد الامتحان تكون الدرجات الحقيقية مطابقة تماما لما توقعه المدرس وهذا مثال باطل لأنه ينفي تعليق القدرة الإلهية بأفعال العباد فالمدرس ليس له قدرة وليس له دخل وليس له مشيئة في حل التلاميذ وعقولهم وليس له سلطان علي توجيه إجابتهم كما أن المدرس يريد للجميع النجاح لا الخذلان أما الله سبحانه وتعالي فهو شاء
أفعال العباد وخلقها ولو لم يشأ لما وجدت وقد أراد تعالي وجود الشر كما أراد وجود الخير ومثال المدرس ذكره الشيخ الشعراوي في كتابه القضاء والقدر وأن كان ظننا بالشعراوي أنه يقرب المسألة للناس ولا يقصد المعني الباطل أما مثال الكنترول بأن الذي يرصد النتيجة
في الكنترول يعلم النتيجة قبل ظهورها فهو أسوا وأضل لإنه علم بعد وقوع الفعل وانتهاء الامتحان ووضع الدرجات فعلمه بعد حصول الأمر وهذا يستوي فيه الخالق والمخلوق.( )
الــرد علي القـدريـة
القدرية يردون النصوص الصريحة من الكتاب والسنة التي تثبت القدر
بحجة عدم موافقتها للعقل ومن ثم يحتجون بشبهات وتساؤلات ومن هذه الشبهات :-
1- يقولون إذا كان الله قدر شيئا فلا بد أن يحدث ولا أثر لأفعالنا ولا لمشيئتنا .
والجواب : أننا نطلب الرزق ونعلم أنه لابد من السعي عليه مع يقيننا بأن الله
مقدر له قال تعالي ** وفي السماء رزقكم وما توعدون ** والأب والأم يرعيان ولديهما
مع علمهما أن الله رازقه وحافظه واحتجاجهم هو احتجاج المشركين
الذين قالوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه فهم بذلك يريدون الخروج من التكاليف الشرعية وهي كلمة حق يراد بها باطل.
2- يقولون لماذا لم يعط الله لكل إنسان إرادة وقدرة حسنة يفعل بها الخير
لماذا جعل منهم أخيارا وأشرارا ؟
والجواب : أن الله أعلم بالشاكرين وأعلم بالظالمين وهو العليم الحكيم يضع الأشياء في مواضعها وقولهم معناه لِمَ لمْ يعط الله أبا جهل الرسالة كما أعطاها النبي
محمدا فالله سبحانه عدل مع الجميع وتفضل علي البعض وهو أعلم بالمهتدين.
ثم إن في وجود الشر من الحكمة ما لا يعلمه إلا الله كالجهاد والصبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن قيل أليس قادرا علي إيجاد هذه الخيرات دون وجود الشر . كان الجواب الله علي كل شئ قدير ولكن السؤال يناقض بعضه بعضا،إذ مقتضاه أن يوجد حرب بين المسلمين والمشركين دون وجود مشركين ،
و أن يوجد نهي عن المنكر دون وجود منكر تماما كمن يسأل ويقول أليس الله قادرا علي أيجاد طفل دون أب وأم – نعم قادر ولكن الله شاء أن يوجد الشي بأسبابه حكمة وعدلا. ( )
وفي محاورات أهل السنة مع القدرية خير دليل علي تهافت عقولهم وسفاهة أفكارهم
( يذكر أهل العلم أن أعرابيا أتي عمرو بن عبيد فقال إن ناقتي سرقت فادع الله لي أن يردها علي فقال عمرو اللهم أن ناقة هذا الفقير قد سرقت ولم ترد سرقتها اللهم ردها عليه
فقال الأعرابي الآن ذهبت ناقتي وأيست منها قال عمرو وكيف ذاك قال لأن الله إذا أراد
ألا تسرق فسرقت لم آمن أن يريد رجوعها فلا ترجع ونهض موليا.
وقال قدري لأبي عصام القسطلاني أريت إن منعني الهدي وأرثني الضلال
أيكون منصفا فقال أبو العصام إن يكن الهدي شيئا هو له فله أن يعطيه من يشاء
ويمنعه من يشاء. ودخل عبد الجبار الهمداني شيخ المعتزلة علي
الأستاذ أبي إسحاق الاسفرايني أحد أئمة السنة فقال سبحان من تنزه عن الفحشاء
فقال الأستاذ سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء قال القاضي أيشاء ربنا أن يعصي
فقال الأستاذ أيعصي ربنا قهرا فقال القاضي أرأيت إن منعي الهدي وأورثني الضلال
أحسن إليَّ أم أساء قال الأستاذ إن منعك ما هو لك فقد أساء وإن منعك ما هو له
فالله يختص برحمته من يشاء فبهت القاضي.( )
والقدرية النفاة حرموا الاستعانة بالله الواحد لأنهم زعموا أن الله لا يقدر
علي أفعال العباد وأن العبد هو الخالق لفعله فكيف يستعينون بالله علي شئ لا يقدر عليه
فهم لا يعتمدون إلا علي حولهم وقدرتهم وعملهم.
بعض الشبهات التي قد يتوهم منها تعارض بين الإيمان بالقدر والنصوص الشرعية:
أولا : قال تعالي ** يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ** الرعد ( 39 ) فكيف علم الله
ما هو كائن ثم كتبه ثم يمحو بعد ذلك ويثبت وكذا قوله ( من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه ) متفق عليه . وقد جاء في الأثر أن الله جعل عمر داود مائة بعد كان أربعين.
و الجواب أن الأرزاق والأعمال نوعان:-
1- نوع جرى به القلم وكتب في أم الكتاب فهذا لا يتغير ولا يتبدل .
2- نوع يزيد وينقص وهو ما في كتب الملائكة.
والآجل أجلان أجل مطلق يعلمه الله وأجل مقيد فإن الله يأمر الملك أن يكتب
لعبده أجلا فإن وصل رحمه فيأمره بأن يزيد في أجله ورزقه والملك لا يعلم أيزاد في ذلك أم ينقص لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر فإذا جاء الأجل لم يتقدم ولم يتأخر فكما قال ابن عباس الكتاب كتابان كتاب يمحوا الله ما يشاء منه ويثبت " الكتاب الذي بيد الملك " وكتاب لا يتغير فيه شئ وهو اللوح المحفوظ وهو المقصود بقوله تعالي ** وعنده أم الكتاب ** فاللوح المحفوظ مكتوب فيه علي سبيل المثال
أن عمر فلان مائة عام والكتاب الذي بيد الملك مكتوب فيه أن عمره ستين سنه فإن وصل رحمه فهي مائة وإلا فلا فالنتيجة النهائية مسطورة في اللوح المحفوظ والزيادة والنقصان أمر يحدث في الكتاب الذي بيد الملك كذلك الأمر في مسألة القدر والدعاء عندما يعترجان فيرد الدعاء القدر في هذه الحالة يكون مكتوبا في اللوح المحفوظ أن القدر سينزل ويرفعه الدعاء وكان ذلك في الكتاب مسطورا.
ثانيا : كيف يخلق الله الشر ويقدره ؟
والجواب أن الله لم يخلق الشر المحض بل فيه خير وحكمة فالشيء الواحد
يكون خيرا باعتبار وشرا واعتبار فالله خلق إبليس يبتلي به عباده فمنهم من يمقته ويحاربه ويعاديه ويوالي الرحمن ولا يتبع الشيطان
وبالجملة فالجبر طعن في التشريع لان يلغي مسؤولية الإنسان والشريعة ثبتها أمرا ونهيا ونفي القدر طعن في التوحيد لأنه نفي لربوبية الله . والعبد فاعل ومنفعل فالعبد يصلي والله هو الذي جعله مصليا. وخرج فرعون والله أخرجه.( )
عقيدة أهل السنة في القضاء والقدر
قال شيخ الإسلام ( مذهب أهل السنة في هذا الباب ما دل عليه الكتاب والسنة
وهو أن الله خالق كل شئ ومليكه وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بنفسها وصفاتها القائمة بها كالأفعال للذوات ) أهـ . وهذا قول السلف قاطبة ما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن ولهذا اتفق الفقهاء علي أن الحالف لو قال : والله لأفعلن كذا إن شاء الله لم يحنث إذا يفعله وإن كان واجبا أو مستحبا ولو قال إن أحب الله حنث إن كان واجبا أو مستحبا.( )
ومراتب القدر أربع :
1- مرتبة العلم 2- الكتابة 3- المشيئة 4- الخلق
المرتبة الأولى : العلم
وهي أن يؤمن الإنسان إيمانا جازما بأن الله بكل شئ عليم وأنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض جملة وتفصيلا سواء كان ذلك من فعله أو من فعل مخلوقاته( ).
وعندما نتحدث عن مرتبة العلم ينبغي أن نذكر بعض الأمور التي تتعلق بهذه المرتبة :-
أولا : علم الله للأشياء تفصيلي وليس إجماليا فقط كما يدعي الفلاسفة.
ثانيا: علم الله سابق علي وجود الأشياء وهو ما يعبر عنه البعض ( بالعلم القديم )
كشيخ الإسلام في الوسطية أو العلم الأول أو العلم الأزلي قال تعالي
** وكان الله بكل شئ عليما ** فقال سبحانه كان مع أنه لم يزل ولكن لفظ كان
يرد علي من يقولون إن علم الله حادث.
ثالثا: علم الله للخمس الغيبيات لا يشاركه فيه أحد قال تعالي
{وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ** وما جاء من نصوص فيها إخبار غير الله عن شئ من هذه الخمس لم يخرجها عن كونها من الغيبيات التي استأثر الله بعلمها حيث إن المخبر عنها لا يخبر إلا بمتعلق من معلقاتها وهذا لا يخرجها عن كونها من الغيبيات التي استأثر الله بها فعندما يخبر النبي عن علامات الساعة
لا يخبر عن وقتها ، وعندما أخبر النبي عن مصارع القوم بالتفصيل فقال هذا مصرع فلان علق ذلك علي المشيئة ، ومثله ما يكتبه الملك وما يعلمه الملك
من الرزق والآجل قبل حصوله يعلقه علي المشيئة ( فيقضي ربك ما يشاء
ويكتب الملك ) فضلا عن أن ما يكتبه الملك قابل للمحو والإثبات وهو متوقف علي مشيئة الله ، ولذا نجد جبريل يقول للنبي لو رأيتني وأنا أدس من وحال البحر في فم فرعون حين قال ( أمنت أنه لا إله إلا الذي أمنت به بنوا إسرائيل وأن من المسلمين ) يونس (90) خسثية أن تدركه الرحمه فهذا دليل علي أن أحد
لا يعلم نهاية أحد وعاقبته فلا يعلم الغيب تفصليا وجزما إلا الله وما علم بالتفصيل معلق بالمشيئة وما علم جزما فقد أخبر الله به في القرءان ويبقي مجهولا
لنا باعتبار أو أكثر مما يجعله في جملة الغيبيات وقد استثني بعض أهل العلم
ما أخبر الله به رسله من الغيبيات واستدلوا بقوله تعالي ** عالم الغيب فلا يظهر علي غيبه أحد إلا من ارتضي من رسول ** وعلي القول الأول لا يكون هذا الأخبار مناقضا لتفرده تعالي بالغيب إذا إنه إخبار من جهة دون أخري.
رابعا : علم الله شامل لما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون ومعني قولنا وما لم يكن كان كيف يكون أي يعلم لو آمن فرعون كيف كان حال إيمانه
وماذا سيكون مآله وهذه الجزئية يدخل فيها ملايين التفاصيل وكل ما جاء
في القرءان بلفظ لو أو لولا فهو من هذا الباب قال تعالي ** لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ** وقال أيضا ** ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا من يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ** وقال أيضا ** ولو أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا**
وقد علم الله أن الغلام لو كبر لكفر فأماته مسلما علي الفطرة
وقولهم إن الغلام طبع يوم طبع كافرا أي لو كبر أما هو فقد مات علي الفطرة.
خامسا: هذا العلم السابق لا يحاسب الله العباد عليه بل لا يحاسبهم إلا علي
علم المشاهدة كما لا يحاسبهم علي ما سطر في اللوح المحفوظ و إنما
علي ما سطرته الملائكة من أعمالهم التي عملوها وإذا كان الله لا يحاسب العبد علي علمه السابق الذي سوف يفعله العبد ممن باب أولي لا يحاسبه علي علمه
فيما لم يكن لو كان ( ككفر الغلام ) ولذلك قالوا ( كلمة الله أعلم بما كانوا
عاملين ) في شأن أطفال المشركين ليس معناها أن الله سيدخل بعضهم الجنة وبعضهم النار بناءا علي علمه الأول و إنما قال النبي ذلك تعليما لاصحابه
أن يردوا العلم إلى الله تماما كما مات ولد للمسليمن فقالت عائشة عصفور
من عصافير الجنة فأنكر عليها النبي مع أنه هو الذي أخبر أنهم من أهل الجنة وقد عبر النبي في نص أخر بنفس اللفظ عن أبناء المسلمين مع أن هؤلاء لا يكاد يكون فيهم خلاف يذكر . نقل هذا عن الإمام أحمد بدليل أنهم يشفعون
لأهليهم فكيف لا يدخلون هم الجنان ويلحق بهذا الكلام تفسير الآيات أمثال
** وحتى تعلم المجاهدين .....** قال المفسرون يعلم علما يحاسبهم عليه وهو علم المشاهدة قال بن عباس ليعلم أي ليري.( )
المرتبـة الثانيـة : الكتابـة
وهي أن نؤمن بأن الله كتب ما هو كائن إلي يوم القيامة في اللوح المحفوظ
قال تعالي ** وكل شئ أحصيناه في إمام مبين ** قال ( أن أول ما خلق الله القلم قال له
اكتب قال ما اكتب قال اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة) رواه الترمذي في سننه
وقال أيضا ( قدر الله المقادير قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ) ( )
وتتبع هذه الكتابة كتابات وتقديرات أخري :-
1- التقدير يوم القبضتين فعن أبي الدرداء عن النبي قال ( خلق الله آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمني فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الدر وضرب كتفه
اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم فقال للذي في يمينه إلي الجنة
ولا أبالي وقال للذي في كفه اليسرى إلى النار ولا أبالي )( ) وعند شرح هذا الحديث يقول العلماء إن الله علي كل شئ قدير إلا أن قدرته تعالي مقرونة بحكمة متناهية والحكمة معناها وضع الشيء في موضعه فالله قبض من يستحق السعادة بيمنيه منة وفضلا وقبض من يستحق الشقاوة بشماله عدلا وقسطا وهو لا يسأل عما يفعل وهو يسألون .وقوله تعالي ولا أبالي يعني لا تنفعني طاعة الطائعيين
ولا تضرني معصية العاصيين.
2- الكتابة والإنسان جنين في بطن أمه .قال ( أن أحكم يجمع خلقه في بطن أربعين يوما نطفة ثم يكون علقه مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل أليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي
أو سعيد ) والظاهر أنهما كتابتان كتابه عند أربعين يوما وكتابه عند مائة وعشرين يوما وأما تحديد التنوع (فإذا مر بالنطفة ثنتان و أربعون ليلة ) كما في الحديث ذكر أو أنثي وقد ثبت في علم الأجنة أن ظهور الأعضاء التناسلية يبدأ في الأسبوع السابع والفرق بين النوعين يبدأ بعد الأسبوع السادس ويكتمل التشكيل بعد 120 يوما. ففي الأسبوع السابع تفرز انزيمات معينة عليها يتوقف نوع الجنين
وان كانت الكرموزونات يمكن من خلالها تحديد نوع الجنين في أول التلقيح
ولكن القطع النهائي هو للانزيم في الأسبوع السابع.
3- التقدير السنوي قال تعالي ** حم * والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين * فيها يفرق كل أمر حكيم **.الدخان (1-4) قال الحسن البصري
والله الذي لا إله ‘لا هو أنها لفي رمضان وأنها ليلة القدر يفرق فيها كل أمر حكيم فيها يقضي الله تعالي كل أجل وعمل ورزق إلى مثلها.
4- التقدير اليومي قال تعالي ** يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن ** والتقدير اليومي هو إنفاذ المقدور علي العبد فلا يتقدم ما كتب ولا يتأخر عنه إن خيرا فخير وإن شرا فشر
5- الكتابة بعد العمل قال تعالي ** إن عليكم لحافظين كراما كاتبين ** وهي التي عليها الحساب.
فائــدة :-
والكتابة كتابان كتاب يمحو الله فيه ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب هكذا فسر بن عباس هذه الآية والمعني أن اللوح المحفوظ كتب الله فيه ما هو كائن فلا يزيد و ينقص منه وهناك كتاب أخر بيد الملك مكتوب فيه أن عمر فلان ستين سنه فأن وصل رحمه فهي مائة فإن وصلا زيد عمرة وإلا فلا وهكذا حديث جنة أدم لداود ستين سنه حتى كل له عمرة مائة مكتوب في كتاب الملك أم عمر داود أربعين ويزيده أدم ستين فيكون مائة وهكذا الدعاء والقضاء مكتوب في كتاب الملك القضاء فيدعوا العبد فيمحوا الملك القضاء ومكتوب في اللوح المحفوظ ينزل القضاء فيدفعه الدعاء فالزيادة والنقصان في الارزمه والآجال نسبية لما لم يكن لو كان .( )
المرتبة الثالثة الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة
المشيئة والقدرة من صفات الله عز وجل ومعني هذه المرتبة من مراتب القضاء والقدر أن نؤمن بأن ما في الكون من حركة أو سكون و لا خير أو شر ولا أفعال اضطرارية
ولا اختيارية للمخلوقين إلا بمشيئة الله وقدرته وإرادته ، فما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن قال تعالي ** من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله علي صراط مستقيم**.
ومما سبق تتضح لنا الإجابة الصحيحة علي السؤال الذي يقول .
هل الإنسان مسير أم مخير ؟
والجواب هو ميسر فليس مسيرا بمعني أنه مجبور علي فعله فإن له مشيئة في فعله وليس مخيرا بمعني أنه لا سلطان لله عليه، فإن لله مشيئة في فعله إذاً هو مخير له قدرة ومشيئة ولكن قدرته ومشيئته تحت مشيئة الله وقدرته قال تعالي ** لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين**
ونحن عندما نثبت لله مشيئة في فعل العبد ننزه الله عن أن يوجد شئ في الكون
دون إرادته أو رغماً عنه فمن نفي مشيئة الله فهو يقول إن أفعال العباد وجدت
رغما عنه تعالي الله عما يقولون علوا كبيرا فهم وإن زعموا أنهم ينزهونه عن الظلم
إلا أنهم يصفونه في الوقت نفسه بالعجز وهكذا الأهواء تضل ولا تهدي.
والمشيئة والقدرة تجتمعان فيما كان وسيكون وتفترقان فيما لم يكن ولا هو كائن والآيات الكثيرة تدل علي عدم وجود ما لم يشأ الله وجوده لعدم مشيئته لذلك لا لعدم قدرته علية فإنه تعالي علي كل شئ قدير. قال تعالي ** ولو شاء الله ما اقتتلوا ...** وقال تعالي {ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ...** وقال أيضا ** ولو شاء الله لجمعكم علي الهدي ..**
وقال أيضا ** ولو شاء الله ما أشركوا **.( )
وعليه فإن المشيئة لا تكون إلا كونية فالإرادة والقضاء والأمر كل منها ينقسم إلي كوني وشرعي ولفظ المشيئة لم يرد إلا في الكوني قال تعالي ** وما تشاءون إلا أن يشاء الله ...**( ) ومعني هذا الكلام أن الإرادة والقضاء والأمر والإذن منها كوني وشرعي والكوني
يدخل فيه كل ما وجد سواء أحبه الله أم أبغضه فالكوني كل ما وجد وكان بكلمة
كن لذلك سمي كونيا أي كان ووجد فالله أراد وجود إبليس كونا ، وأمر مترفيها ففسقوا فيها كونا ، وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله كونا ، وإذا قضي أمرا فإنما يقول له كن فيكون كونا.
وأما الشرعي من الإرادة فهو كقوله تعالي ** يريد الله بكم اليسر **
وفي القضاء كقوله تعالي ** وقضي ربك ألا تعبد إلا إياه..** وقد فسرها بن عربي بالقضاء الكوني فكفر إذ لازم قوله أن يكون كل من عبد صنما أو غيره فقد عبد الله ,
وفي الإذن الشرعي كقوله تعالي ** أم لهم شركاء وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ** شرعا ومن الأمر كقوله تعالي{ إن الله يأمر بالعدل والإحسان** وهذا الأمر الشرعي ما عليه الثواب والعقاب.
فإن قلت وما الحكمة من خلق الشر ودخوله تحت الأمر الكوني
قيل الشر ليس شرا محضا و إنما فيه من أنواع الخير ما لأجلها قدره العليم الحكيم فالمرض به َعُبد الله بالصبر ، وبه تغفر الذنوب حتى يسير العبد علي الأرض وما عليه خطيئة والابتلاء للمؤمنين تمحيص للنفوس وتطهير وتربية للأرواح. وخلق إبليس لتظهر أثار أسماء الله القهرية مثل القهار والشديد العقاب والسريع الحساب وأثار أسماء الله المتضمنة لحلمه وعفوه عن التائبين والراجعين. واستخرج العبودية التي لولا إبليس
ما ظهرت كالجهاد والموالاة لله والبغض في الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن قال أليس الله قادرا أن يوجد جهاد دون وجود كفر أو يوجد صبر دون وجود أعداء قلنا نعم الله علي كل شئ قدير ولكن السؤال يناقص بعضه بعضا فمقتضاه أن يوجد جهاد للكافرين دون وجود كافرين وأن يوجد عذاب للموحدين دون وجود فجار معذبين وحكمة الله تقتضي أن توجد الأشياء بأسبابها فهو العليم الحكيم ولا يسأل عما يفعل
وهم يسألون.
و الأشاعرة يثبتون للعبد مشيئة لا أثر لها في الفعل فهم في الحقيقة جبرية ( ) والمعتزلة يوجبون علي الله أن يفعل الأصلح للعبد وهذا باطل وهم ينفون خلق الله للفعل ومشيئته له
وقد كانت هذه المسألة سبب رجوع أبي الحسن الاشعري عن الاعتزال حيث سأل أستاذه فقال ثلاثة اخوة مات أحدهم كافرا و الثاني مؤمنا والثالث صغيرا أين الأول قال في النار
وأين الثاني قال في الجنة وأين الثالث قال لا ثواب و عقاب قال فإن الصغير سيقول لربه رب لم توفينني صغيرا فلو تركتني فكبرت لآمنت ولدخلت الجنة فقال الأستاذ والله يقول لو تركتك لكفرت ففعلت الأصلح بك فقال أبو الحسن فان الأول سينادي وهو في قعر الجحيم قائلا ولم يا رب لم تتوفني صغيرا حتى لا أدخل النار فبهت الأستاذ ورجع أبو الحسن
عن مذهب المعتزلة .
وأما أهل السنة فيثبتون للعبد قدرة ومشيئة بها يقع الفعل وعليها سيحاسب ولأجلها تنسب الأعمال للعبد وتصير من كسبه يسأل عنها ويثبتون فوق ذلك مشيئة لله وقدرة تقتضي أن يكون الإنسان عبدا مربوبا فمن أضله الله فبعدله ومن هداه فبرحمته يضع الشيء
في موضعه وهذا معني العليم الحكيم وربك لا يظلم مثقال ذرة ولم يجيرهم لأن الجبر عجز ولن يدخل أهل النار النار إلا وحمد الله في قلوبهم لا يستطيعون إلى غير ذلك سبيلا.( )
المرتبة الرابعــة : الخلــق
ومعناه أن نؤمن بأن الله علم ما الخلق عاملون ثم كتب ذلك في اللوح المحفوظ ثم شاء وجوده ثم خلق أفعال العباد ومشيئتهم التي بها فعلوا الخير والشر. وهذا معني أن نؤمن بالقدر خيره وشره فنسبة الشر إلي الله هي نسبة خلق وإيجاد وليس أن تقدير الله – عز وجل – هو الشر ففعل الله ليس بشر لان فعل الله صفة من صفاته والله سبحانه وتعالي الخير كله في يديه والشر ليس إليه فليس من صفاته ولا من أفعاله شر، ولكن الشر من مخلوقاته، فالخلق غير المخلوق فليس معني أن الله خلق الشر أنه فعل الشر فمثلا الزنا شر الذي فعل الزنا العبد والذي خلقه هو الله فالله مكنه من الفعل أي خلق له قدرة وإرادة وجسما وآلة فعل بها ذلك الشر ففعل الله غير فعل العبد.
والدليل علي خلق أفعال العباد قوله عز وجل ** والله خلقكم وما تعملون **
لها وجهان من التفسير :( )
1- أن تكون ما مصدرية فيكون التقدير وعملكم وهو الشرك
قال ( الله خالق كل صانع وصنعته).( )
2- أن تكون ما موصولة فيكون التقدير والذي تعملون وعملهم كان هو صناعة الأصنام والصنم عبارة عن مادة + صنعة لأن المنبر مثلا عبارة عن خشب وصنعة ولا يصلح أبدا أن نقول عبارة عن خشب فقط وعليه فهو مادة + عمل = صنم
والله خلقه أي خلق مادته والعمل الذي به صار صنما . فالآية علي هذا الوجه أيضا دليل علي خلق الله لأفعال العباد.
وكذلك قول الله عز وجل ** الله خالق كل شئ**. فخلق الإنسان من عدم وخلق قدرته وإرادته لآن الإنسان لم يخلق قدرته وإرادته
والذين ينفون مرتبة الخلق للأفعال يجعلون الله خالق الذات وهم خالقوا الأفعال والصفات لذلك سموا مجوس هذه الآمة حيث أثبتوا خالقين كما أثبت المجوس إلاهين فقد قال المجوس النور خالق الخير والظلمة خالق الشر.
وهذه المرتبة الأنسب فيها أن يستعمل لفظ " الجعل " بدل " الخلق " لان الخلق يشمل العموم " الله خالق كل شئ " والأفعال وردت بلفظ الجعل قال تعالي ** وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن ** قال أيضا ** وكذلك جعنا في كل قرية أكاير مجرميها **
وقال أيضا ** وجعلناهم أئمة ....** فالخلق للذات والجعل للفعل .
وتأمل تجد أن الله جعل هؤلاء أئمة وجعل هؤلاء مجرمين وقد يقال العدل
أن يساوي بينها .
فالجواب بل العدل أن يوضع الشيء في موضعه قال تعالي ** الله أعلم حيث يجعل رسالته ** وقال أيضا ** أليس الله بأعلم بالشاكرين **.
والله خلق الفعل وليس معني ذلك أنه جبر العبد عليه فالفعل يتكون من أمرين القدرة عليه والإرادة له متي تخلف أحدهما لم يخرج الفعل إلي حيز الوجود وقد خلق الله في العبد الإرادة والقدرة آلتان بهما يفعل الفعل فكان بذلك خالقا للفعل الذي ينتجح عنهما .( (
وأقرب الأمثلة في ذلك هو مثال الولد و الأم والأب فالله خلق الولد من الأب ولأم
أب + أم = ولد فالله خالق الأب وخالق الأم وخالق الولد. ومع ذلك لا يقبل بحال من الأحوال أن يرمي الوالدان ولديهما في الشارع قائلين بأن الله هو الذي خلقه فهو يتولاه لأنه مما علم عقلا وشرعا وضرورة أن لهما دورا في وجوده وتأثيرا في كونه ومسئولية عنه
مع الإقرار بأن الله خلقه كما خلقهما كذلك خلق الله القدرة والإرادة للإنسان وبهما فعل العبد الفعل الذي خلقه الله أيضا فالذي يقول إنني لست مسؤولا عن فعلي الذي خلقه الله وينسى قدرته و إرادته اللتين بهما فعل الفعل هو تماما كالأب والأم اللذين يرميان ولديهما
قائلين الله خلقه فالله خالق الجميع والعبد مسؤول عن فعله إذ إن له تأثيرا في وجوده ودورا في حصوله كدور الأب والأم في وجود الولد لولا هما ما أوجده الله ولولا قدرة العبد وإرادته ما وجد الفعل لذلك يحاسبه ربه عليه وكل ذلك بإرادة الله ومشيئته وقدرته وخلقه.( )
ومن نفي مرتبتي المشيئة والخلق فكأنه نفي مرتبتي العلم والكتابة.
وأمثال هؤلاء يقال لهم هل علم الله أن إبليس سيكفر قبل خلقه فإن قالوا لا كفروا
إذ نفوا العلم ولو قالوا نعم قيل لهم فقد خلقه الله بعدما علم أنه سيكفر إذن شاء كفره وأراده كونا إذ إنه يعلم كفره قبل خلقه ولو شاء الله ما خلقه إذ إنه تعالي علي كل شئ قدير.
ومتي وسوس الشيطان للعبد في باب القدر تذكر قوله تعالي ** لا يسأل عما يفعل
وهم مسئلون ** وقال أيضا ** وإن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها **
والمنهي عنه هو الخوض في القدر بالعقل أما بيان العقيدة الصحيحة فواجب وإلا فلماذا هذه الآيات البينات والنصوص النبوية في بيان هذا الآمر وتوضيحه.
أثر الإيمان بالقضاء والقدر في حياة المؤمن
الإيمان هو مأمن العبد عند النوائب الإيمان بربوبية الله وألوهيته وأسمائه وصفاته وقضائه وقدره وملائكته وكتبة ورسله ولقائه.
وعلاقة القدر بالقلب علاقة وثيقة حيث يرتبط ارتباطا مباشرا بأسماء الله وصفاته
حيث قال الإمام أحمد القدر قدرة الله
فالإيمان بعلم الله المحيط يورث العبد تواضعا فلا يغتر بعلمه دينيا أو دنيويا حيث ضل الفلاسفة وبعض من يتسمون بالمثقفين أمثال نجيب محفوظ فإعتقدوا أن العلم يغني الإنسان عن الإله وهذا ما رمز إليه نجيب محفوظ في قصته ( أولاد حارتنا ) عندما قال وقتل
الجبلاوي علي يد عرفة يقصد بالجبلاوي الإله وبعرفه العلم فهم يعتقدون أن العلم
جعل الإنسان يستغني عن الإله .والحقيقة أن علم الإنسان إلى علم الله جهل وعزة الإنسان إلى عزة الله ذل وقدرة الإنسان إلي قدرة الله عجز فشهود الذات سببه نسيان قدرة الله ، فسبحان من علم ما كان ما يكون وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون.
ولو آمنا بالجزئية الأخيرة لما سمعت قولهم لو عاش فلان حتي يري زواج ولده ظنا منهم أنه لو عاش لسعد بذلك ولكن الله أعلم بما سيكون عليه حاله لو عاش فلعله اختار ما فيه صلاحه أو صلاح من بقي بعده حيث أنه تعالي ينفرد بعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون.
والإيمان بأن الله يعلم ما يكون يورث اطمئنانا بأن الله أحاط علما بما يدبره أعداء الدين مع قدرته تعالي أن يجعل كيدهم في نحورهم ويجعل تدميرهم تدبيرهم.( )
والعلم بأن الله كتب كل شئ يورث رضي بقضاء الله وقدره وراحة في طلب الأرزاق وعدم خوف علي الأعمار والآجال فان ذلك كان في الكتاب مسطورا.
والإيمان بمشيئة الله وخلقه لافعال العباد يورث خوفا وخشية تثمر تضرعا وتذللا يتمثل في دعاء النبي ( اللهم يا مقلب القلوب والإبصار ثبت قلوبنا علي دينك ) ( )
فإن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء من أراد منها أن يقيمه أقامه ومن أراد أن يزيغه أزاغه .
فيتذلل العبد لربه أن يقيمه علي طاعته وألا يكله لنفسه فتقوده إلى الغواية والضلال فالإيمان بهذه المرتبة يجعل العبد يعبد الله خوفا ورجاء رغبة ورهبة وهكذا عباد الله الصالحون قال تعالي ** إنهم كانوا يدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين **
إذ إنهم كانوا يوقنون أن الأمر كله بيد رب العالمين وما تشاءون إلا أن يشاء
الله رب العالمين.
وإن هذه العقيدة لتنتزع كل مظهر للجبن من القلب الذي تعمره فتدفع صاحبها إلي جهاد الكفار والطغاة دون أن يحسب لوسائلهم وأساليبهم حساب لماذا ينشغل بالحساب لهم وقد ضمن له خالقه وخالقهم أن يستوفي رزقه وأجله ولماذا يجبن وهو يعلم أن المقدور نازل به لا محالة وغير المقدور لن يحيق به أبدا فما أحسن قول من قال :
أي يومي من الموت أفر يوم لا قـَدَر أو يـوم قـدر
يـوم لا قـدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجي الحذر( )
منوول للفائدة
• مولاي ضاقت بي الارجاء فخذ بيدي ..
مالي سواك لكشف الضر ياسندي ..
حسبي الوقوف بباب الذل منكسرا ً ..
امرّغ الخد في الاعتاب لم أحـدِ..
مولاي جـُّد بالرضا و العفو عن ما مضى ..
لقد اتيت ذنوبا ً اتلفت جسدي..
ساء المصير اذا لم تنجِ ِ لي املي..
طال المدى فأغثني منك بالمدد ِ..
دأبي التوسل حاشا أن تخيـّبني ..
علّي ارى لمحة ً أشفي بها كبدي ..
لم يبقى لي جـَلد ٌ يارب ترحمني..
انا المسيء ُ و انت المحسن ُ الأبدي !!
يا عالما ً بالخفايا انني دنف ٌ
رحماك يا ملجأ الراجي ,,............,, فخذ بيدي.
• والله من وراء القصد
• أخيتكم الرحيل أزفــــــــــ***فلاتنسوني من خالص دعائكم ....