أزمة القدوات
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
فإن من المتفق عليه عند جميع العقلاء أن للقدوة أهميةً عظيمة لا تنكر، فهي من وسائل التربية سواء أكانت على مستوى البيت أم على مستوى المجتمع بشكل عام.
والقدوة كما تكون في الخير تكون في الشر ، وقد جاء هذان المعنيان في كتاب الله الكريم فقال تعالى عن القدوة في الخير ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا .. ) وهذا عن بني إسرائيل ، وقال عن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) أي لكم فيه قدوة في أقواله وأفعاله .
وكذلك قوله تعالى ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه .. ) الآية . أي قدوة حسنة في إبراهيم ومن معه في البراء من الكفار، وقال تعالى عن الأنبياء عموما ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) وغير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى .
وأما القدوة في الشر فكقوله تعالى عن آل فرعون ( وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون ) أي كانوا قدوة للناس لكن إلى طريق جهنم والعياذ بالله . وكذلك قوله تعالى ( وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) أن نقتدي بهم في ضلالهم وعبادتهم الأصنام من دون الله ، وغير ذلك من الآيات التي جاءت على هذا السياق .
- أهمية القدوة :
للقدوة أهمية بالغة كما تقدمت الإشارة إلى ذلك ومن هذه الأهمية ما يعود على المقتدِي ومنها ما يعود على المقتدَى به فمن أهميتها :
1) أنه بالقدوة تنتشر الفضائل أو تشيع الرذائل فإذا كانت القدوة حسنة فستعم الفضائل وإذا كانت سيئة فستشيع الرذائل ن فإن القدوات يثيروا في النفس قدرا كبيرا من الإعجاب والاستحسان والمحبة .
2) أن للمقتدى به أجرا عظيما إن كان في الخير؛ لذا كان من دعاء عباد الرحمن الصالحين ( ربنا هب لنا من أزواجنا وذرّياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ) ؛ كما أن على المقتدَى به وزرا كبيرا إن كان في الشر فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا ) رواه مسلم من حديث جرير بن عبدالله رضي الله عنه ، ويقول صلى الله عليه وسلم ( لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل ) متفق عليه من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه .
ونحن في هذا الزمان الذي انفتح فيه الناس على بعضهم واختلط المسلمون بغيرهم وأصبح الحق والباطل في صراع عظيم ، وبدأ أهل الباطل يروجون لباطلهم وذلك من خلال الإعلام والقنوات الفضائية ، فأصبحوا يُبرزون للناس أشخاصا من الساقطين والساقطات والمارقين والمارقات الأحياء منهم والأموات من الممثلين واللاعبين والمغنيين والسحرة والمشعوذين وأضرابهم يبرزونهم على أنهم أبطال وأنهم عظماء وقادة ونجوم ليتخذهم الناس قدوات وهنا مكمن الخطر . لماذا ؟
لأن اتخاذ شخصٍ ما قدوة معناه الميل القلبي له مع حبه وتعظيمه، وهنا تكون المصيبة لأنه على قدر تعلّق القلب بالقدوة السيئة يكون تركه للقدوة الحسنة ، والمسلم لا يجوز بحال من الأحوال أن يتخذ غير رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة وأسوة ، فإذا كان هوانا ينبغي أن يكون تبعا لما جاء به المصطفى صلى الله عليه وسلم كما قال ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ) فكيف بسائر التصرفات ؟!
لذلك كانت أزمتنا في هذا الزمن ( أزمة قدوات ) !!
أيها الإخوة والأخوات :
إن أردنا أن نكون قدوة صالحة حقيقية لغيرنا فعلينا بثلاثة أمور :
1) الصلاح في الباطن.
2) حسن الخلق ، .
3) موافقة القول للعمل .
فهذه أساس القدوة الصالحة ومن غيرها لا تتحقق .
فأما الصلاح في الباطن فهذا يتحقق بالإيمان بالله عز وجل والإخلاص له في العبادة ، وأما حسن الخلق فإن فيه جماع الخير كله كما قال صلى الله عليه وسلم ( البر حسن الخلق ) (1)
ونحن نلاحظ كيف أثّّر النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه رضي الله عنهم، وكيف أثّر الصحابة فيمن بعدهم إلا بهذه الأصول بل كيف انتشرت الدعوة إلى الله وعمت أرجاء العالم ودخل الإسلام كثيرا من بلاد الدنيا إلا بهذه الأصول ، فتأثر كثير من الناس بتلك الأخلاق الزاكية والأفعال الحميدة .
ولعلنا نقف مع أحد هذه الأصول الثلاثة وهو موافقة القول للعمل ، فقد شنَّع الله تعالى على قوم من المؤمنين خالف قولهم فعلهم فقال ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون () كبُر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) ، وقال عز وتعالى ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ) ؛ لذلك ينبغي أن يكون الآمر بالخير أول الناس إليه مبادرة والناهي عن الشر أول الناس عنه بُعدا كما قال تعالى عن شعيب عليه السلام ( وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ..) .
إن القدوة الصالحة بالأفعال هي أساس القبول عند الناس وعند الأسرة والأبناء وإلا كان الإنسان كالإبرة التي تكسو غيرها وهي عارية وكالطبيب الذي يداوي الناس وهو عليل !!
يا أيّــها الرجـل المعلم غيره *** هلاّ لنفسك كان ذا التعليم ؟
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى *** كي ما يصح به وأنت سقيم !
لا تنه عن خلق وتأتي مثله *** عــار عليك إذا فعلت عظيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيّها *** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يُقبل ما وعظت ويُقتدى *** بالعلم منــك وينفـع التعليم
جاءني ذات مرة رجل يشتكي من شرب أبنائه للدخان وأنه أعيته الحيل في منعهم عن ذلك، فقالت له : وأنت هل تدخن ؟ قال: نعم . قلت : إذاً كيف تريد أن ينتهوا وأنت تنهاهم بلسانك وتحثهم على الدخان بفعلك ؟!
ومن هنا نعلم أن القدوة بالفعل أعظم من القدوة بالقول بكثير ،ـ وقد وقعت حادثة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم تبين هذا الأمر ففي صحيح مسلم وغيره في قصة صلح الحديبية لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قضية الكتاب قال لأصحابه : قوموا فانحروا فوالله ما قام منهم أحد حتى قال ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت : يا رسول الله أتحب ذلك ؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك، فقام فخرج فلم يكلم أحداُ منهم حتى فعل ذلك ؛ نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه ، فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا.
فنلاحظ كيف أثّرت القدوة بالفعل تأثيرا سريعا في حين تردد الصحابة بعد أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم لأنهم قد شقّ عليهم أن يُحلّوا إحرامهم قبل أن يؤدّوا عمرتهم .
أضف إلى ذلك ما في مخالفة القول للعمل من الإثم العظيم فقد روى البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور فيها كما يدور الحمار ربحاه فيجتمع إليه أهل النار ويقولون : مالك يا فلان ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر قال: بلى ، ولكن ؛ كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه )
فنسأل الله أن يجعلنا صالحين مصلحين هادين مهديّين ، وأن يصلحنا ويصلح بنا ، ويجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر ، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وكتبه / عامر بن عيسى اللهو
المدرس في كلية المعلمين بالدمام
المملكة العربية السعودية
والله من وراء القصد........