ما هو القرض؟
القرض في اللغة : القطع.
وأما في الشرع : فهو تمليك مال لمن ينتفع به ويرد بدله.
وهو عقد إلافاق ولا يقصد به المعاوضة والمرابحة ، وإنما هو إحسان محض ، ولهذا جاز القرض مع أن صورته صورة ربا ، فإنه إذا باع درهماً بدرهم ولم يحصل ينهما تقابض كان ربا ، وإذا أقرضه درهماً وبعد شهر أعطاه إياه لم يكن ربا ، مع أن الصورة صورة رب ولا يختلف إلا بالقصد ، ولما كان المقصود بالقرض الإرفاق والإحسان صار جائزاً.
ما حكم القرض؟
المقرض : القرض في حقه مندوب ، أي : مستحب ؛ وذلك لأنه من الإحسان فيدخل في عموم قول الله تعالى : ** وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ** ، ومن حيث المعنى فإن فيه دفع حاجة أخيك المسلم ، وربما يكون القرض أحياناً أكثر ثواباً من الصدقة ؛ لأنه لا يستقرض إلا محتاج في الغالب، والصدقة أفضل من جهة أنها لا تشغل الذمة ، فإذا أعطيته لم يكن في ذمته شيء.
ويجب القرض أحياناً فيما إذا كان المقترض مضطراً لا تندفع ضرورته إلا بالقرض ،ولكن لا يجب إلا على من كان قادراً عليه من غير ضرر عليه في مؤونته ولا مؤونة عياله.
كما أنه يكون أحياناً حراماً إذا كان المقترض اقترض لعمل محرم لقوله تعالى : ** ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ** ولكنه من حيث الأصل هو بالنسبة للمقرض مندوب ؛ لأنه من الإحسان ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استقرض.
وظاهر كلام الفقهاء إنه مباح مطلقاً ، وينبغي أن يقال : إنه مباح لمن له وفاء ، وأما من ليس له وفاء فإن أقل أحواله الكراهة ، ولهذا لم يرشد النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي أراد أن يتزوج وقال : " ليس عندي شيء" إلى أن يقترض ، بل زوجه بما معه من القرآن ، فدل هذا على أنه ينبغي للإنسان مادام عنده مندوحة عند الإقتراض أن لا يقترض ، وهذا من حسن التربية ، فلهذا ينبغي للإنسان أن لا يقترض إلا لأمر لا بد منه ، هذا إذا كان له وفاء ، أما إذا لم يكن له وفاء فإن أقل أحواله الكراهة وربما نقول بالتحريم ، وفي هذه الحال يجب عليه أن يبين للمقرض حاله ؛ لأجل أن يكون المقرض على بصيرة.
هل يندب للولي على مال اليتيم أن يقرض ؟
لا ؛ لأن الله تعالى : {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن** ، لكن لو كان إقراضه من مصلحته فهنا يكون الإقراض مستحباً من وجهين : من جهة الإحسان للمستقرض ،ومن جهة الإحسان في حفظ مال اليتيم.
في ماذا يصح القرض؟
يصح القرض في كل ما يصح منه البيع فكل ما صح بيعه صح قرضه ، وهذا هو الضابط وكل ما لا يصح بيعه لا يصح قرضه ،وعلى هذا ، فالكلب لا يصح قرضه ؛ لأنه لا يصح بيعه ، والميتة لا يصح قرضها حتى لمن حلت له فإنه لا يصح قرضها ؛ لأنه لا يصح بيعها ، والمرهون لا يصح قرضه ؛ لأنه لا يصح بيعه ، والموقوف لا يصح قرضه( إلا بني آدم فيصح بيعهم ولا يصح قرضهم -المماليك ) ؛ لأنه لا يصح بيعه وهلم جرّاً.
لأن الإنسان إذا رد القرض ، وجب قبول عينه ، فيفضي إلى أن يستقرض الإنسان أمة ، ثم يجامعها مدة أيام ، ثم يردها إلى مالكها.
هل يصح القرض في الحيوان؟
نعم يصح ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بَكراً ورد خيراً منه وقال :" خيركم أحسنكم القضاء" ، وعلى هذا يجوز للإنسان إذا نزل به ضيف فجاء إلى جاره وقال : أقرضني شاة أذبحها للضيف ، فإنه يجوز.
هل يُملك القرض بالقبض؟
نعم ؛ فإذا قبضه المستقرض ملكه ، وصار ملكه عليه تاماً يجوز أن يبيعه وأن يؤجره وأن يوقفه وأن يرهنه ، وأن يتصرف فيه تصرف الملاك في أملاكهم.
هل يثبت القرض بالمثل أم بالقيمة؟
يثبت بهما جميعاً ؛ فالقرض قد يكون مثلياً أو قيمياً ؛ ويعبر عنه الفقهاء بالمتقوم ، فإن كان مثلياً فالواجب رد مثله ، وإن كان قيمياً يلزم رد قيمته.
هل يثبت القرض بالحلول وهل للمستقرض مطالبة المقرض بالوفاء حالاً؟
نعم ، حتى وإن أجله لا يتأجل ؛ لأن القرض موضوعه الحلول ، فإذا أجلناه فقد خرجنا به عن موضوعه فخالفنا مقتضى العقد ، وكل شرط يخالف مقتضى العقد فهو باطل .
فإذا قال إنسان : أقرضني صاعاً من بر ، فأقرضته إياه ملكه وثبت في ذمته بدله ، فبدل صاع البر صاع بر مثله ؛ لأنه مثلي ، فيلزمه صاع بر في ذمته ، حالاً يعني : للمقرض أن يطالب المستقرض بالوفاء حالاً ولو بعد نصف ساعة.
إذا قال المستقرض للمقرض سأوفيك بعد سنة فهل يصح هذا الشرط؟
على كلام المؤلف لا يصح هذا الشرط ويكون القرض حالاً ، والصحيح : أنه إذا أجله ورضي المُقرض فإنه يثبت الأجل ، ويكون لازماً ،ولا يحل للمقرض أن يطالب المستقرض حتى يحل الأجل.
لأن هذا لاينافي مقتضى العقد بل هو من تمام مقتضى العقد؛لأن المقصود بالقرض الإرفاق والإحسان وإذا أجلته صار ذلك من تمام الإحسان،فالأرفق للمقترض التأجيل،ولأن المطالبه به وهو مؤجل إخلاف للوعد،وإخلاف الوعد من سمات المنافقين،ولأنه ربما يكون في ذلك ضرر عظيم على المستقرض.
إذن القول الراجح:أنه يتأجل بالتأجيل،ويثبت الأجل،وليس للمقرض الحق في أن يطالب؛لأنه هو الذي رضي بتأجيله.
إذا رد المستقرض القرض فهل يلزم المقرض قبوله؟
على خلاف بين أهل العلم،والصحيح:أنه إذا رده المقترض فإنه لايلزم المقرض قبوله،لكن لو قبله فلا بأس؛لأن الحق له،ولافرق بين أن يكون مثليا أو متقوما,فإنه لايلزم القبول على القول الراجح.
لو إستقرض دراهم مكسرة أوفلوسا ثم حرمت المعاملة بها,فهل له القيمة وقت القرض,أو وقت الوفاء,أو وقت التحريم؟
فمثلا كان وقت القرض سنة ثلاث عشره,ووقت التحريم سنة خمس عشره,ووقت الوفاء سنة ست عشره,فنأخذ بقيمة سنة ثلاث عشره,أي:قيمة أول سنه للقرض,وهذا هو المذهب.
القول الثاني:أن المعتبر قيمتها وقت المنع,ووجه هذا القول أن الواجب للمقرض نفس هذه الفلوس إلى أن منعت.
القول الثالث:أن له قيمتها وقت الوفاء؛لأنها واجبة في ذمة المقترض بأعيانها إلى أن يوفي ، فيكون عليه القيمة وقت الوفاء.
وأقرب شيء أن المعتبر القيمة وقت المنع ؛ وذلك لأنه ثابت في ذمته عشرة فلوس إلى أن منعت ، يعني قبل المنع بدقيقة واحدة لو طلبه لأعطي عشرة فلوس ، ولكان الواجب على المقرض قبولها ، فإذا كان كذلك فإننا نقدرها وقت المنع.
كيف يرد المستقرض القرض؟
برد المثل في المثليات والقيمة في غيرها ، مثال : الأقلام متقومة ، وكذلك الساعات متقومة ؛ لأن فيها صناعة مباحة ، فعلى المذهب يجب أن يرد قيمتها ، ولكن كيف تعرف القيمة ؟ نقول : ماذا يساوي هذا الشيء حين القرض ؟ ويثبت في ذمة المستقرض قيمته ، وهذا هو القول الراجح.
مثال : أقرضني شخض بعيراً والبعير متقوم ، فنقول : كم قيمته وقت القرض؟ قال : قيمته خمسة آلاف ، إذاً يثبت في ذمة المستقرض خمسة آلاف ؛ لأن غير المثلي تثبت قيمته .
لماذا لا تجعلون القيمة وقت الوفاء؟
لأنها دخلت ملك المستقرض من حين قبضها ، فاعتبرت القيمة في ذلك الوقت.
هل نسلم أن المثلي هو كل مكيل أو موزون يصح السلم فيه وليس فيه صناعة مباحة؟
الصحيح لا ، فالمثلي ماكان له مثيل مقارب ، وليس بلازم أن يكون مطابقاً ، ولهذا نعلم لو أن إنساناً أقرض بعيراً ثم أراد المستقرض أن يرد بعيراً مثله في السن واللون والسمن والكبر ، فهو أقرب إلى المماثلة من القيمة ؛ لأن القيمة مخالفة له في النوع ومقاربة له في التقدير ، لكن المماثل من الحيوان أقرب بلا شك ، ولهذا كان القول الصحيح أن المثلي ما كان له مثل أو مقارب ، وعلى هذا فالحيوان مثلي ، ولهذا استسلف النبي صلى الله عليه وسلم بكراً ورد خياراً رباعياً ، فجعله مثلياً ، ولما جاء غلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند إحدى نسائه بطعام ، ضربت المرأة - التي كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها - يد الغلام حتى سقط الطعام وانكسرت الصحفة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" إناء بإناء وطعام بطعام" ، وأخذ طعام التي كان عندها وصحفتها وردهما مع الغلام ، فهنا ضمن الإناء بالمثل مع أن فيه صناعة ، فجعله النبي صلى الله عليه وسلم مثلياً ، ولا شك أن هذا القول هو الأقرب ، وإذا تعذر الأصل رجعنا إلى البدل وهو القيمة.
بماذا يكون الإعواز؟
يكون بأمور:
1- العدم ، بأن ينقطع من السوق فلا يوجد ، فهذا إعواز لا شك.
2- الغلاء الفاحش ، فمثلاً هذا الشيء يساوي عشرة فارتفع في السوق حتى صار يساوي مائة ، فهذا غلاء فاحش مضر بالمقترض.
3- البعد الشاق بأن يكون موجوداً
لو جر القرض منفعة بالنسبة للمقرض ، فهل يصح هذا القرض؟
يحرم كل شرط جر نفعاً مثال ذلك : جاء رجل إلى شخص ، وقال : أريد أن تقرضني مائة ألف ، قال : ليس هناك مانع ، لكن أسْكُنُ بيتك لمدة شهر ، فهنا القرض جر نفعاً للمقرض ، فهذا حرام ولا يجوز.
ولماذا لا يجوز ؟! أليس المسلمون على شروطهم ؟! بلى ، لكن إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً ، وهذا أحل حراماً ؛ وذلك أن الأصل في القرض هو الإرفاق والإحسان إلى المقترض ، فإذا دخله الشرط صار من باب المعاوضة ، وإذا كان من باب المعاوضة ، صار مشتملاً على ربا الفضل وربا النسيئة ، فاجتمع فيه الربا بنوعيه.
مثال ذلك : لما استقرض مني مائة ألف ، واشترطت عليه أن أسكن داره شهراً ، صار كأني بعت عليه مائة ألف بمائة ألف ، بزيادة سكنى البيت شهراً ، وهذا ربا نسيئة وربا فضل ، ربا فضل ؛ لأن فيه زيادة ، وربا نسيئة ؛ لأن فيه تأخيراً في تسليم العوض ، ولهذا قال العلماء : كل قرض جر منفعة بشرط فهو ربا ، وقد ورد " كل قرض جر منفعة فهو ربا " ، لكنه حديث ضعيف أما معناهُ فصحيح.
هل يجوز للمقترض أن يعطي المقرض أجود مما أقرضه أو هدية بعد الوفاء؟
نعم يجوز . مثال ذلك : رجل أقرض شخص مائة ألف ثم أوفاه ، ثم أعطى المقترض سيارته للمقرض ليتمتع بها لمدة عشرة أيام ، مكافأة له على إحسانه ، فهذا لا بأس به ؛ لأن هذا من باب المكافأة ، والمسألة ليست مشروطة حتى نقول إن هذا شرط جر نفعاً.
وكذلك إذا أعطاه أجود فإنه لا بأس به ، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رد خياراً رباعياً بدلاً عن بكر وقال : " خيركم أحسنكم قضاء " .
وكذلك إذا أعطاه هدية بعد الوفاء ، فإن ذلك جائز ، ولو أعطاه أكثر بلا شرط فإنه على المذهب لا يجوز ، والفرق أن الأجود في الصفة ، والأكثر في الكمية ، فلا يجوز.
والصحيح أنه جائز بشرط ألا يكون مشروطاً ، بأن يقترض منه عشرة ثم عند الوفاء يعطيه أحد عشر فإنه لا بأس ؛ لأنه إذا جازت الزيادة في الصفة جازت في العدد؛ إذ لا فرق ، أما لو كان قبل الوفاء فإنه لا يجوز ؛ لأنه يؤدي على أن يهاديه المقترض كلما مضى شهران أو ثلاثة أشهر ، وبهذا يزيد في تأخير الطلب ، ثم يكون كالربا الزائد لكل شهر أو لكل سنة.
إذا كان من عادة المقترض أن يهدي الذي أقرضه بعد رجوعه من السفر فهل للمستقرض قبول الهدية؟
نعم ، إذا كان من عادته أن يتبرع له في مثل هذه المناسبة ، فإنه لا بأس أن يقبل وإن لم يحتسبه من دينه؛ لأن الحامل له ليس هو الاقتراض ، بل الحامل له هو المودة و المصاحبة بينه وبين صاحبه.
هل تحسب الضيافة من الدين؟
يقول الفقهاء : تحسب الضيافة من الدين ، يقال : كم أكلت من تمرة ، ومن خبزة ، ومن برتقالة؟ ويحسب من الدين ، وهذا هو المذهب .
لكن ذكر صاحب الفروع أنه يتوجه ألا يحسب ذلك من الدين ؛ لأن الضيافة ما جرت العادة أنها تعتبر هدية ، إلا إذا كان الرجل المقرض تعمد ذلك ، بأن كان البلد يوجد فيه فنادق ومطاعم ، وقال المقرض : بدلاً من أن أخسر في الفندق ، أنزل على من أحسنت عليه بالقرض ، فإذا تعمد ذلك فربما نقول : هذا لا يجوز ؛ لأنه جر إلى نفسه نفعاً.
إذا طالب المقترض المقرض الوفاء بالدين في بلد آخر فهل يلزمه الوفاء في البلد التي عينها؟
إذا كان لا يلحق به ضرر لزمه الوفاء ، مثاله : أقرضه دنانير في مكة وطالبه بها في المدينة ، فيلزمه الوفاء إذا كان معه الدنانير ؛ لأنه لا ضرر عليه ، القيمة واحدة في مكة أو في المدينة.
إما إذا كان في بلد يختلف عن البلد الذي أقرضه فيه ، فهنا قد يلحقه ضرر ، فقد تكون قيمته أغلى ، وحينئذٍ نقول : لا يلزمه الموافقة.
إذا كان لحمل هذه القرض مؤونة فماذا يفعل؟
إذا طالب المقرض المقترض بماله بغير بلد القرض ، فإن كان لحمله مؤونة ، فإنه لا يلزم المقترض أن يدفع المثل ، وإنما يدفع القيمة ، إلا إذا كانت القيمة في بلد القرض أكثر منها في بلد الطلب ، فحينئذٍ يدفع المثل ؛ لأنه لا ضرر عليه ، وكُلٌّ يعرف أنه إذا اشترى مائة صاع من المدينة بمائتين أحسن مما لو اشتراها من مكة بثلاثمائة ، وحينئذٍ يُلزم بدفع المثل.