موقع الشيخ بن باز


 

  لتحميل حلقة الرقية الشرعية للشيخ أبو البراء اضغط هنا


ruqya

Icon36 صفحة المرئيات الخاصة بموقع الرقية الشرعية

الموقع الرسمي للشيخ خالد الحبشي | العلاج بالرقية الشرعية من الكتاب والسنة

الأخوة و الأخوات الكرام أعضاء منتدنا الغالي نرحب بكم أجمل ترحيب و أنتم محل إهتمام و تقدير و محبة ..نعتذر عن أي تأخير في الرد على أسئلتكم و إستفساراتكم الكريمة و دائماً يكون حسب الأقدمية من تاريخ الكتابة و أي تأخر في الرد هو لأسباب خارجة عن إرادتنا نظراً للظروف و الإلتزامات المختلفة

 
العودة   منتدى الرقية الشرعية > أقسام المنابر الإسلامية > منبر السيرة النبوية والأسوة المحمدية

الملاحظات

صفحة الرقية الشرعية على الفيس بوك

إضافة رد
 
 
أدوات الموضوع
New Page 2
 
 

قديم 24-04-2023, 10:17 PM   #1
معلومات العضو
الماحى3

افتراضي سيرة الصحابي : أبو سفيان بن الحارث لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب

الدرس 18/50 : سيرة الصحابي : أبو سفيان بن الحارث لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي .
التاريخ : 08/02/1993
تفريغ : م . م . حسان العودة .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام : مع الدرس الثامن عشر من دروس سيرة أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وصحابي اليوم : أبو سفيان بن الحارث .
قصة هذا الصحابي تؤكد أن الحسد أحياناً يهلك صاحبه ، لولا أن الله سبحانه وتعالى تلطف به لكان من الهالكين .
المتكبر أحياناً يمنعه الحسد أن يستفيد من رجل فاقه في العلم والتقى ، فهذا الصحابي الجليل ، أبو سفيان بن الحارث قلَّ أن اتصلت الأسباب بين شخصين وتوثقت العرى بين إنسانين ، كما اتصلت وتوثقت بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين أبي سفيان بن الحارث ، يعني علاقة متينة، أخوّة صادقة ، وشائج ثابتة ، بين أبي سفيان بن الحارث وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لماذا ؟ لأن هذا الرجل أبا سفيان بن الحارث كان لِدةً من لدات رسول الله ، لدة يعني من سنه ، ومن جيله ، الآن يقال : نحن رفقاء ، كنا بالابتدائي معًا مثلاً ، نحن جيران ، أولاد سنة وحدة ، وُلِدنا في شهر واحد ، والقرابة في السن مهمة جداً ، والإنسان له شيخ وأستاذ لا شك ، لكن لا بد له من أخ في سنه يبثّه وجده ، اتخذْ مؤمناً مخلصاً تقياً ورعاً صاحباً ، فهذا الصاحب ينفعك كثيراً.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا تَصْحَبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ *
[ أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد] .
وفي الحِكَم العطاية : ((لا تصاحب من لا ينهض بك إلى الله حاله ، ومن لا يدلك على الله مقاله ، إن أحببته رفعك حاله ، وإن استمعت إليه غذتك مقالته)) .

( سورة التوبة : 23 ) .
يجب أن تختار أصدقاءك كما تختار أغلى شيء عليك ، إنك به تعرف ، الصاحب ساحب ، وَمَن جالَسَ جانَسَ ، إن صحبتَ الكبراء فأنت منهم ، إن صحبتَ العلماء فأنت منهم ، وإنَ صحبتَ أُولي الفضل فأنت منهم ، أخطر شيء في الحياة ـ والله لا أبالغ ـ صاحبُ السوء ، فإن يهلك قرينَه .
الإنسان العاقل يختار إنسانًا مؤمنًا ، أرسخ منه إيماناً ، وأشد منه ورعاً ، فهذا أبو سفيان كان لِدة من لدات رسول الله ، وتِرباً من أترابه ، وُلِدا في زمن متقارب ، ونشآ في أسرة واحدة ، وفوق هذا وذاك ، كان ابن عم النبي اللصيق "اللزم" ، بالتعبير الدارج ، كان ابن عم النبي اللصيق ، فأبوه الحارث وعبد الله والدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينحدران من صُلبِ عبد المطلب ، ابن عمه ، وتربه وابن لدته ، ثم إنه كان أخاً للنبي عليه الصلاة والسلام من الرضاعة، فقد غذَّتهما السيدة حليمة السعدية من ثدييها معاً ـ شيء جميل ـ أخ في الرضاعة ، ابن عم لصيق ، تربٌ ، لِدة ، وبَعد هذا كله كان صديقاً حميمًا للنبي عليه الصلاة والسلام قبل النبوة ، وأشد الناس شبهاً به .
إذاً المقدمة واضحة وصحيحة ، قلَّ أن اتصلت الأسباب بين شخصين ، وتوثقت العرى بين إنسانين كما اتصلتْ وتوثقتْ بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين أبي سفيان بن الحارث ، لدة، أو ترب ، ابن عم النبي اللصيق ، أخوه من الرضاعة ، غذتهم أم واحدة ، كان صديقاً حميماً للنبي صلى الله عليه وسلم ، وكان أشد الناس شبهاً برسول الله .
وهنا سؤال يطرح نفسَه ؟ حينما تأتي الرسالة لهذا النبي العظيم ، فمَن تتوقعون أن يكون أسبقَ الناس إلى الإيمان به ؟ أبو سفيان ، من كان ينبغي أن يكون أقرب الناس إليه ؟ أبو سفيان ، أقرب ، وأسبق ، ولكن الذي حصل على خلاف ذلك ، المفروض على أبي سفيان أن يكون أسبقَ الناس إلى تلبية دعوة النبي ، وأن يكون أسرعهم مبادرةً لاتباعه ، ولكن الأمر جاء على خلاف ذلك ، إذْ ما كاد النبي صلى الله عليه وسلم يظهر دعوته ، وينذر عشيرته ، حتى شبت نار الضغينة ؛ الضغينة الحقد والكراهية ، وقد يكون السبب هو الحسد .
قد يكون في بيت شاب مؤمن ، ممّا يمنع أخاه الأكبر أنْ يستفيد منه ، هذا أخي ، هذا أصغر مني ، ضيق الأفق ، خذ الحكمة ولا يهّمك ِمن أي مكان خرجت ، أحيانًا يكون الزملاء في مدرسة واحدة ، فأحدهم يقول : معقول أنا أتَّبِعه ! وسِنُّه مِن سني ! كنا معًا على مقعد واحد ، هذا كلامٌ فيه كِبْر ، والكبر والحسد مسؤولان في الدرجة الأولى عن إعراض الناس عن قبول دعوة المخلصين .
استحالت هذه الصداقة إلى عداوة ، واستحالت هذه الرحم إلى قطيعة ، واستحالت هذه الأخوة إلى صد وإعراض ، ويوم صدع النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة ربه كان أبو سفيان فارساً من أنبه فرسان قريش ، إنه فارس ملء السمع والبصر ، الحقيقة أنّ الشجاعة كانت صفةً لصاحبها في العهود السابقة ، فيها كرٌّ وفَرٌّ ، هجومٌ وطِعان .
أمّا الآن فإنك تجد جنديًّا أمام شاشة رادار يرى صورة الطائرة على شاشة الرادار ، وعنده إشارة ضرب يحركها فوق الطائرة يضغط على زر فيسقطها ، وقد يكون أشدَّ الناس جُبنًا ، الأسلحة الحديثة ليس فيها شجاعة ، إنها أجهزة معقدة جداً ، حتى إنهم قالوا : الحرب الحديثة حرب بين عقلين ، أمّا الجندي فقد يكون شارب خمر ، وقد يكون مقصرًا مع ربه ، وقد يكون جبانًا ، لكن قضية إلكترون ، وأجهزة ، وأشعة الليزر ، الشجاعة الحقيقية يوم كانت الحربُ بالسيف ، سيف لسيف ، ووجهٌ لوجهٍ .
على كلٍ كان هذا الصحابي حينما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل كان من انبه فرسان قريش ، يعني شخصية فذة ، إنه إنسان متفوق ـ بالتعبير الغربي سوبر ـ فارس ملء السمع والبصر ، كان ملء السمع والبصر ذِكْراً ، وكان شاعراً من أعلى شعرائهم كعباً ، فما إن امتلأ قلبه حقداً وضغينةً وحسداً حتّى وضع سنانه ولسانه في عداوة النبي ، وقد يكون جرح اللسان أبلغ من جرح السنان ، على كلٍ استخدم كل الأسلحة ، سنانه ولسان ، وفي محاربة الرسول ومعاداة دعوته ، وجنّد طاقاته كلها للنكاية بالإسلام والمسلمين ، فما خاضت قريشٌ حرباً ضد النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان مسعرها ، أبو سفيان ولا أوقعت بالمسلمين أذى إلا كان له فيه النصيب الأكبر ، كتلة شر ، وحسد .
لقد بدأت الدرس بهذه الكلمة ، الحسد مهلك ، بدأ بصاحبه فقتله ، فإذا كان الواحد له أخ فاقه بالإيمان فلْيتتلمذْ على يده ، ولا مانع ، والآن في الجيش هناك ضباط أمراء عميد فما فوق ، فإذا دخلوا كلية الأركان وفيها ضابط نقيب مختص في الحرب الإلكترونية ، وهو الذي يعلِّمهم ، يقفون له ، ويستعدون عند دخوله ، ويحيُّونه ، على أنه الضابط المدرِّب ، فهو الآن أرقى منهم ، وقد يكونون أرفع منه منصبًا ، وقد يكونوا عمداء ، لكن الضابط المدرِّب الآن أعلى منهم .
فإذا اتصل الإنسان برجل ، بصديق ، فلو أنه من سنِّه لا يمنعه الحسد أن يصُدَّ عنه ، استفِدْ منه ، والإنسان حينما يتواضع لله عز وجل فإنّه يكرم نفسه ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : ألا يا رُبَّ مكرم لنفسه وهو لها مهين ، الآن ترون أنه أكرم نفسه فأهانها اللهُ ، وأبت نفسه أن تؤمن برسول الله ، مع أنه ابن عمه ، وأخوه من الرضاعة ، وصديقه الحميم ، وأشبه الناس به ، وابن لدته ، وقريبه ، ومع كل ذلك فالحسد منعه أن يؤمن ، ثم إن أبا سفيان بن الحارث أطلق شيطانَ شِعره ، وسوطَ لسانه في هجاء رسول الله ، فيا للبوار والخسار .
يا أيها الإخوة الأكارم : نعوذ بالله ، أن نكون في خندق نعادي المسلمين ، وأنْ نكون في صف أعداء المسلمين ، لأنك إذا حاربتَ الله ورسوله فالله هو المنتصر ورسوله ، وأنت المهزوم الخاسر .

( سورة الأنفال : 36 ) .
هذا الذي يحارب الله ورسوله ، يريد أن يطفئ نور الله عز وجل ، يريد أن يشوه سمعة المسلمين ، أن يطعن بهم ظلماً وعدواناً ، أن يسفه دعوتهم ، أن يطعن بأخلاقهم ، تشفياً لنفسه ، لما في قلبه من الحسد ، هذا الذي وقع به أبو سفيان ، المتوقع أن يكون أقرب الناس إلى النبي، المتوقع أن يكون مكان أبي بكر ، قرابة على رحم ، على شَبَه ، على لدة ، على صداقة حميمة ، على نسب ، وطالتْ عداوة أبي سفيان بن الحارث للنبي عليه الصلاة والسلام حتى قاربت عشرين عاماً ، عشرون عاماً يناصب النبي العداء ، عشرون عاماً يهجوه بلسان مقذع ، عشرون عاماً يحاربه بسنان لا يلين ، لم يترك أبو سفيان بن الحارث في هذه الأعوام العشرين ضرباً من ضروب الكيد للنبي صلى الله عليه وسلم إلا فعله ، ولا صنفاً من صنوف الأذى للمسلمين إلا اجترحه ، وباء بإثمه .
المشكلة عند النهاية ، هذا هو العاقل ، وقبيل فتح مكة بقليل كُتب لأبي سفيان أن يسلم ، وكان لإسلامه قصة مثيرة وعتها كتب السير ، وتناقلتها آثار التاريخ ، والآن نتنحّى جانباً لندعَ الحديث لأبي سفيان نفسه ، حتى يرويَ لنا قصته المثيرة عن إسلامه ، فشعوره بها أعمق شعور ، ووصفه لها أدق وأصدق .
أنا أشعر ، أن في قصة هذا الصحابي من المواعظ والعبرة ما لا سبيل إلى حصره ، الآن أحاول إن شاء الله تعالى أن أعمق التحليل لهذه القصة المثيرة .
قال : أبو سفيان بن الحارث : لما استقام أمر الإسلام ، وقرّ قراره ، وشاعت أخبار انتصار النبي صلى الله عليه وسلم ، وتوجه إلى مكة ليفتحها ضاقت علي الأرض بما رحبت ـ أين أذهب ، ولِمَن ألتجئ ، طيلة عشرين سنة هجاء ، وعشرين سنة قتال ، والنبي دخل مكة فاتحًا وانتصر .
قال عليه الصلاة والسلام : إذا أردت إنفاذ أمرٍ تدبَّرْ عاقبته .
أحيانًا يسافر الإنسان إلى بلد أجنبي ، يتساءل : ما هذه الحياة ؟ وهل نحن من أهل الحياة ؟ خير إن شاء الله ، السيارات ، الطرقات ، محلات البيع الأنيقة ، أرض كلها خضراء ، جبال مزدهرة ، معامل ، مطارات ، فانبهر ، وغشيت عينه غشاوة ، كما غشيت قلبه فكرة ، فأخذ إقامة ، وتزوج فتاةً أمريكية ورَكَن واطمأنّ ، لكن المشكلة حينما يرى ابنته مع صاحب لها يهودي ، فلما نهره طلبوه إلى المخفر ليؤنبوه ، هو معها بدعوة من ابنتك ، فلِمَ تتعرَّض لهما ؟‍! وحينما يرى أولاده فلذات أكباده ينحرفون انحرافاً خطيراً ، ولا يستطيع أنْ يتفوَّه ، عندئذ يذوب قلبه ألماً وكمدًا ، نقول له : أين عقلك ؟ أنت حينما أردتَ أن تقيم هناك لمَ لمْ تفكر؟ مَن أقام مع المشركين فقد برئت منه ذمة الله ، وعلى كلٍّ مَن هو العاقل ؟ هو الذي يحتاط للأمور قبل وقوعها .
فهذا الصحابي قضى عشرين سنة عداء ، عشرين سنة هجاء ، وها هو قد وقع ، قال : ضاقت عليَّ الأرض بما رحبت ، وقلت : إلى أين أذهب ؟ ومن أصحب ؟ ومع من أكون ؟ ثم جئت زوجتي وأولادي وقلت : تهيؤوا للخروج من مكة ، فقد أوشك وصول محمد ، وإني لمقتول لا محالة إن أدركني المسلمون ، فقالوا لي : (زوجته وأولاده) : أمَا آن لك أن تبصر أن العجم والعرب قد دانت لمحمد بالطاعة إلى متى تبقى راكبًا رأسك ، وإلى متى العناد ؟ إلى متى الكبر؟
***
إلى متى أنت بالذات مشغول وأنت عن كل ما قدمت مسؤول
***
أما تستحي منا ويكفيك ما جرى أما تخشى من عتبنا يوم جمعنا
أما آن أن تقلع عن الذنب راجعاً وتنظر ما به جاء وعدنا
***
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ذاك لعمري في المقال شنيعُ
***
إلى متى ؟ قالوا : أما آن لك أن تبصر أن العجم والعرب قد دانت لمحمد بالطاعة ، واعتنقت دينه ، وأنت ما تزال مصراً على عداوته ، وكنت أولى الناس بتأييده ونصره .
أحياناً أيها الإخوة : تكون الزوجة أصفى من الزوج قلبًا ، وأصوب رأيًا ، وقد تنصحك نصيحة أبلغ من أية نصيحة ، ابنك قد ينصحك ، قال : وما زالوا بي يعطفونني على دين محمد، ويرغبونني فيه حتى شرح الله صدري للإسلام .
قرر أنْ يخطب ابنة الملك ، قال الحمد لله ، أنا موافق ، وأبي موافق ، وأمي موافقة ، لكن بقيتْ هي وأمها وأبوها ، فهذا الرجل أحب أن يسلم ، والطرف الثاني هل يقبلك ؟ عداوة طويلة لأنه ما حفظ خط الرجعة إطلاقاً .
قال النبي عليه الصلاة والسلام : أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا *
[رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
ثم قال : قمت من توي وقلت لغلامي ، هيئ لي نوقاً وفرساً ، وأخذت معي ابني جعفرًا ، وجعلنا نغذّ السير نحو الأبواء بين مكة والمدينة فقد بلغني أن محمدًا نزل فيها ، ولما اقتربت منها تنكرت ـ لماذا تنكر ؟ لأن أصحاب النبي لو رآه لقتلوه ، لأنه عدوٌ لدود ، هذا عدوٌ لله ورسوله ، تنكرت حتى لا يعرفني أحد ، فأقتل قبل أن أصل إلى النبي ، وقبل أن أعلن إسلامي بين يديه ، ومضيت أمشي على قدمي نحواً من ميل وطلائع المسلمين تمضي ميممةً شطر مكة ، جماعة إثر جماعة ، فكنت أتنحى عن طريقهم فرَقاً ؛ أي خوفاً منهم ، وفرقاً من أن يعرفني أحد من أصحاب محمد ، وفيما أنا كذلك إذ طلع النبي صلى الله عليه وسلم في موكبه - رائع الآن -نسلم والنبي يفرح بنا فرحاً كثيراً ، قال : فتصديت له ووقفت تلقاءه ، وحسرت عن وجهي فما إن ملأ عينه مني وعرفني حتى أعرض ‍، أقليل ما فعلتهُ طيلة عشرين سنة حتى أعرض عنك؟ حتى أعرض عني إلى الناحية الأخرى ، فتحولت إلى ناحية وجهه ، فأعرض عني وحوّل وجهه، فتحولت إلى ناحية وجهه ، فأعرض عني وحوّل وجهه ، وفي القرآن آية تؤكد هذا المعنى ؟ هذه الآية كتبت أمام قبر النبي صلى الله عليه وسلم :
( سورة النساء : 64 ) .
إنْ لم تطبق السنة فقد جهلت حقيقة النبي ، فإذا اصطلحت مع الله فلن يقبلك الله حتى تصطلح مع نبيه ، فالمسألة ليست سهلة ؟ جاءك هذا النبي مبلِّغاً ، منذراً ، مبشراً ، صادقاً ، مخلصاً من أجل أن يهديك إلى الله فأعرضت عنه ؟ فالنبي الكريم أعرض عنه .
يقول هذا الصحابي : كنت لا أشك وأنا مقبل على النبي أن رسول الله سيفرح بإسلامي ، وأن أصحابه سيفرحون لفرحه ، لو كان هذا قبل عشرين سنة لصحّ كلامك ، أمّا بعد هذا العداء ، والجفاء ، وبعد القتال ، والهجاء ، فالقضية ليست سهلة.
يقول أحد الإخوان مسوِّفًا : غداً سأتوب !! مَن قال لك ذلك ؟ إذا تلبّس الإنسان بمعصية فالقضية ليست سهلة ، أرتكب معصية وأقول : أتوب منها ، فالتوبة دونها حجُب ، وحينما يتورّط الإنسان ، وينحرف ، ويرتكب المعصية فليس من السهل أن يعود إلى الله بعد أن كثُرت الحجُبُ بينك وبين الله .
لكن المسلمين حينما رأوا إعراض الرسول عني تجهموا لي ، وأعرضوا عني جميعاً ، فقلت: يا جماعة ، قد أسلمت !! فات الأوان ، تأخرت كثيرًا ، لقد لقيني أبو بكر فأعرض عني أشد الإعراض ، نظرت إلى عمر بن الخطاب نظرةً أستميل بها قلبه ، فوجدته أشد إعراضًا من أبي بكر ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، بل إنه أغرى بي أحد الأنصار ، فقال لي الأنصاري : يا عدو الله أأنت الذي كنت تؤذي رسول الله ، وتؤذي أصحابه ، وقد بلغت في عداوتُك للنبي مشارق الأرض ومغاربها ؟ يعني بشعرك ، وما زال الأنصاري يستطيل عليّ ويرفع صوته ، والمسلمون يتفحصونني بأعينهم ، ويُسَرُّون بما ألاقي ، حتى أبصرت عمي العباس فَلُذْتُ به ، وقلت يا عم : قد كنت أرجو أن يفرح رسول الله بإسلامي ، أمَا للإسلام بهجة ؟! أمَا يفرح أحدٌ بإسلامي ، لقد تأخرت كثيرًا ـ وهذا الكلام أقوله لكم : لا تتأخر بالتوبة أيًّا كنتَ ، حتى لا يفوت الأوان ، بعد ما صار في الستين ومعه ، ولديه علبة أدوية ، واقتحمتْ جسمه العلل ، ثم يحاول أن يتوب ، فعليك بالتوبة وأنت شاب تغلي غليان الفتوة والنشاط ، في أوج صحتك ، وفي أوج شبابك ، أمّا الآن فقد فات الأوان ، جاء وقد غرق في المعاصي ، وبعدما ملّ ، وضعفت نفسه ، وضعف جسمه ، الآن يريد المساجد وخيرها ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، ريح الجنة في الشباب.
عند ذلك أبصرت عمي العباس فلذت به ، وقلت يا عم ؛ شفاعتك ، قد كنت أرجو أن يفرح رسول الله بإسلامي لقرابتي منه ، وشرفي في قومي ، لم تعُدْ شريفًا الآن ، الشرف أن تؤمن وقد كان منه ما تعلم ، ما سلم علي ، ما قبلني ، وما نظر إليّ لا هو ، ولا الصِّدِّيق ، ولا عمر ، فكلِّمْه فيّ ليرضى عني ، فقال : لا واللهِ لا أكلمه كلمةً أبداً بعد الذي رأيته مِن إعراضه عنك ، إلا إن سنحت ليّ فرصة فإني أجل رسول الله وأهابه ، فقلت يا عم إلى من تكلني إذاً ـ وماذا أفعل ؟.
إذاً والله يا إخوان عندما يشعر الإنسان أن الله عز وجل أعرض عنه ، وبالتعبير القرآني : لعنه ، وإذا سقط الإنسان من عين الله ، أو سقط من عين المؤمنين ، وقد ارتكب حماقة ، وارتكب معصية ، وعادى أهل الحق ، وافترى عليهم افتراء ، واللهِ الأرضُ كلها لا تسَعُه ، واللهِ لأَنْ يسقط الإنسانُ من السماء إلى الأرض فتتحطم أعضاؤه ويموت أهون ألف مرةٍ مِن أن يسقط من عين الله ، هذا يعيش في جهنم ، قلت : يا عم إلى من تكلني إذاً ؟ قال : ليس لك عندي غير ما سمعت ، فتملَّكني الهمّ ، وركبني الحزن ، ولم ألبث أن رأيتُ ابن عمي علي بن عمي أبي طالب فكلمته في أمري ، فقال لي مثل ما قال عمي العباس ، فالكل يعرض ، ولا أحد يتورط ، ولا أحد يعصي الله ثم يقول : أتوب ، لا ستجد حجبًا كثيفة دون توبتك ، عند ذلك رجعتُ إلى عمي العباس وقلت يا عم : إذا كنت لا تستطيع أن تعطِّف عليّ قلب رسول الله فكفَّ عني ذلك الرجل ، هؤلاء سوف يقتلونني ، فخلِّصْني من هذا الذي يشتمني ويغري الناس بشتمي ، فقال صفه لي فوصفته له فقال ذلك النعيمان بن حارث النجاري ، عرفته ، فأرسل إليه وقال له يا نعيمان : إن أبا سفيان ابن عم رسول الله ـ القرابة لها شأنها ، وابن أخي ، وإنْ يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ساخطًا عليه اليوم فسيرضى عنه غدًا ، فكفَّ عنه - ارحموا عزيز قوم ذل - وما زال به حتى رضي بأن يكفّ عني ، وقال : لا أعرض له بعد الساعة .
إذا كان لأحد مكانة في المسجد فلا يضحي بها ، لا يرتكب معصية ، حتى إذا عرف إخوانُه معصيته احتقروه ، فتكريمك ، والاحتفال بك ، والسلام الذي فيه مودة بالغة ، واللقاء البشوش ، والاحترام الكبير ، والمكانة العلية التي لك بالجامع ناتجة من استقامتك ، من التزامك ، من طاعة لله عز وجل ، أمّا إذا قلت : أنا عليّ هؤلاء ، أرضيهم ، وأرضي أولئك ، فإذا كشفوك سقطتَ من أعينهم ، فلا تكن لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء ، كن مع الحق فقط ، ولا بأس عليك ، فحينما يكون للإنسان مكانته يعيش بسمعته ، ويعيش بكرامته ، لأنه مستقيم أخلاقيًّا ، مطيع لله ، له إخوان يحبونه ، وهذه نعمة كبيرة ، شيء جميل جداً معزز ، مكرم ، محترم ، مبجل ، وحيثما دخلت يرحبون بك ، ولم يرحبوا بك لأنك فلان ، بل لأنك مؤمن ، وإذا كشفوك تعصي الله عز وجل ، ولك جاهلية سِرِّية ، ولك انحراف خطير ، سقطت من أعينهم.
والله كان ثمة شخص مظنة صلاح ، غلِط غلطة كبيرة ، فلما علم إخوانه بهذا الغلط لم يعُد يستطيع أن يأتي إلى المسجد ، فسقوط الإنسان أخلاقيًّا صعب جدًّا .
قال : ولما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالجحفة : جلست على باب خيمته ، ومعي ابني جعفر قائماً ، فلما رآني النبي وهو خارج من منزله ، أزاح عني بوجهه ، أعوذ بالله ، لا أمل لي ، فلم أيأس من استرضائه ، وجعلت كلما نزل بمنزل أجلس على بابه ، وأقيم ابني جعفرًا واقفاً بحذائي ، فكان إذا أبصرني أعرض عني ، وبقيت على ذلك زماناً ، فلما أشتد علي الأمر وضاق ، قلت لزوجتي : والله ليرضين عني رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لآخذن بيد ابني هذا ، ثم لنذهبن هائميْن على وجوهنا في الأرض حتى نموت جوعاً ، ما عاد يحتمل الصد ، والبعد ، والجفاء ، شيء عظيم لا يحتمل أنْ يواجهه به نبي كريم ، وكل الأصحاب سعداء بصحبته ، سعداء بقربه ، سعداء بخدمته ، والنبي معرض عني قال فلما بلغ ذلك رسول الله ، رق لي ، ولما خرج من قبته نظر إليَّ نظراً ، لكن ألين من النظر الأول ، بدأتْ الأمور تتلحلح ، فقد لان قلبه اللهم صلِّ عليه شيئًا قليلا ، وكنت أرجو أن يبتسم فلم يبتسم .
وبصراحة أقول لكم : ابتسامة من رسول الله في وجهك تعدل الدنيا وما فيها ، فكيف إذا قال النبي لأحد أصحابه والله يا معاذ إني لأحبك ، ارم سعد فداك أبي وأمي ، هذا خالي أروني خالاً مثل خالي ، إذا داعب النبيُّ إنسانًا ، وهش في وجهه وبش ، واللهِ هذه سعادة ما بعدها سعادة ، وهذا يعني أنّ الله راضٍ عنه ، لأنّ رضى النبي مِن رضى الله عز وجل .

( سورة التوبة : 62 ) .
الحمد لله ، لكن ليس فيه صلى الله عليه وسلم ابتسام ، لكن النظرة ألين قليلاً ، ثم دخل النبي عليه الصلاة والسلام مكة ، فدخلت في ركابه ، وخرج إلى المسجد فخرجت أسعى بين يديه ، لا أفارقه على حال ، قال الشاعر :
***
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
***
الإلحاح على الله عز وجل مقبول ، يا رب أرجو رضاك ، يا رب أرجو رحمتك ، يا ربي أرجو توبتك عليّ ، لو أنك ما شعرت بشيء أول يوم ، اصبر لليوم الثاني ، ولليوم الثالث ، والرابع ، وقد صدق القائل في قوله :
***
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
***
ولما كان يوم حنين جمعت العرب من أهل الشرك لحرب النبي صلى الله عليه وسلم ، ما لم تجمع قط ، وأعدت للقائه ما لم تعد من قبل ، وعزمت على أن تجعلها القاضية على الإسلام والمسلمين ، وخرج النبي صلوات الله عليه في لقائه في جموع من أصحابه فخرجت معه ، ولما رأيت جموع المشركين الكبيرة قلت والله ـ الآن جاء الوقت ، فالإنسان قد تأتيه فرصة يكفِّر بها عن كل أخطائه السابقة ، لما رأى أنّ المعركة قادمة ، والمشركون كثر ، وأشداء ، قال : والله لأكفرن اليوم عن كل ما سلف مني ، من عداوة رسول الله ، وليرين النبي مني ما تقر به عينه ، قال : ولما التقى الجمعان اشتدت وطأة المشركين على المسلمين ، فدبّ فيهم الوهن والفشل ، وجعل الناس يتفرقون عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكادت تحل بنا الهزيمة المنكرة ، فإذا بالنبي فداه أبي وأمي ، يثبت في قلب المعركة على بغلته الشهباء ، كأنه الطود الراسخ ، ويجرد سيفه ، ويجاهد عن نفسه وعمن حوله ، كأنه الليث عادياً ، عند ذلك وثبتُ عن فرسي ، وكسرت غمد سيفي ، واللهُ يعلم أني أريد الموت دون رسول الله ، وأخذ عمي العباس بلجام بغلة النبي ، ووقف إلى جانبه ، وأخذت أنا مكاني من الجانب الآخر ، وفي يميني سيفي أذود به عن رسول الله ، أما شمالي فكانت ممسكةً بركاب النبي ، وبيده السيف يدافع بها عن رسول الله ، فلما نظر النبي إلى حسن بلائي ، قال لعمي العباس اللهم صلِّ عليه ، كم كان حكيماً ، قال : من هذا ؟ وهو يعرفه ، ولكن يريد أنْ يعالجه معالجة دقيقة ، ليخرج بها من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، قال : من هذا ؟ فقال العباس : هذا أخوك يا رسول الله ، هذا ابن عمك أبو سفيان ، فأرضَ عنه يا رسول الله ، فقال : قد فعلت ، وغفر الله له كل عداوة عاداني إياها ، فقد جاءت مناسبة أبلى بلاء حسن ، جاءت مناسبة وضع روحه على كفه ، دفاعاً عن رسول الله ، فاستطار فؤادي فرحاً ـ لما سمعتُ الرسول يقول له : لقد غفر الله له كل عداوة عاداني إياها ، فاستطار قلبي فرحاً برضى رسول الله عني وقبلت رجله في الركاب ، ثم التفت إليّ فقال : يا أخي ـ تأخرت علينا ـ إذا رضي النبي عن إنسان فقد دخل الجنان ـ قال له : أخي ـ كلمة أخي من رسول الله ، هو فعلاً أخوه من الرضاع وصديقه الحميم ، وتِرْبُه ، وابن عمه اللصيق ، وأشبه الناس به ، قال له أخي لعمري تقدم فضارب ـ وبهذا تمّ الصلح .
أيها الإخوة : أقسم بالله العظيم ، ما من سعادة أعظم عندنا من أن يشعر المؤمن أن الله يحبه ، وأن الله راض عنه ، ورضاء رسول الله من رضاء الله قال : ألهبت كلمات رسول الله حماستي فحملت على المشركين حملة أزالتهم عن مواضعهم ، وحمل معي المسلمون حتى طردناهم قدر فرسخٍ ففرقناهم في كل وجه قال : ظل أبو سفيان بن الحارث منذ حنين في نعيم القرب ، فالمؤمن باستقامته وإخلاصه لله ، وثقته بالله في جنة القرب .
***
لو شاهدت عيناك من حسننا الذي رأوه لما وليت عنا لغيرنا
ولو سمعت أذناك حسن خطابنا خلعت عنك ثياب العجب وجئتنا
ولو ذقت من طعم المحبة ذرة عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنا
ولو نسمتْ من قربنا لك نسمة لمتَّ غريباً واشتياقاً لقربنا
و لو لاح من أنوارنا لك لائحٌ تركت جميع الكائنات لأجلنا
فما حبنا سهلٌ وكل من ادعى سهولته قلنا له قد جهلتنا
***
وبعد فإني أقول لكم ، ولكل واحد منكم ، وأنا معكم ، يظن المرءُ أنّ الإسلام قضية ركعتين وليرتين لفقير ، فمَن كان ظنُّه هذا فهو أحمق ، ألا إن سلعة الله غالية ، وفي مسيرة الإيمان امتحانات ، وظروف صعبة يمر بها المؤمن ، فهل يثبت ؟ قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: واللهِ إني لأحبك ، قال له : انظرْ ماذا تقول ، انتبه لكلامك ، هذه كلمة خطيرة ، قال له : واللِه إني أحبك يا رسول الله ، قال له : انظر ماذا تقول ، قال له : واللهِ إني أحبك ، قال له : إن كنتَ صادقاً فيما تقول فَلَلْفَقْرُ أقربُ إليك من شرك نعليك ـ لا تغلطوا في فهم الحديث ، إذا أنت أحببت رسول الله ، ولديك صفقة تجارة فيها ثلاثة أرباع المليون خلال أسبوع ، ولكنْ فيها مادة محرمة ، أتقبَلها ؟ ضعْها تحت قدمك ، وظيفة راقية جداً فيها مكاسب كثيرة جداً لكن لا ترضي الله ؟ أتقْبلها ؟ لا ، وأَلْف لا ، لا تقبلها ، سفرة لبلد غربي تقبلها إذا كانت لغير الله ؟ لا تقبلها ، فإذا أراد الإنسان أنْ يستقيم فلا بد أنْ يضحي ، ولا يقبل إلا ما هو حلال يرضي الله تعالى ، وهنا يكون الإيمان ، ويكون لك الفلاح .
كان أبو سفيان بعد وقعة حنين ينعم بجميل رضى النبي عنه ، ويسعد بكريم صحبته ، من خجله منه ، وقيل : إنه لم يرفع نظره إليه أبداً ، هذه العشرون سنة كسرت نفسه وحجّمته ، ما رفع نظرًا له أبداً ، ولا ثبت نظره في وجهه حياء منه ، وخجلاً من الماضي معه ، منذ أن رضي عنه ما نظر في وجهه ، إلا وأطبق عينيه ، فقد دخل في النعيم ، ودخل في الجنة .
والله يا إخوان ، عندنا جنة في الدنيا ، تتحقّق للمؤمن بالقرب من الله ، ولكن لا بد أنْ يضحّي ، ويستقيم ، فاضبط شهواتك ، واحضر مجالس العلم ، وآثر الله ورسوله على كل شيء.
وجعل أبو سفيان يعض بنان الندم على الأيام السود التي قضاها في الجاهلية ، المؤمن الصادق أيها الإخوة إذا تذكر جاهليته ، أو تذكر أيام المعاصي والفجور يذوب مثل الشمعة ندمًا ، وجعل أبو سفيان يعض أصابع الندم على الأيام السود ، التي قضاها في الجاهلية محجوباً عن نور الله ، محروماً من كتاب الله .

( سورة هود : 28 ) .
وقال تعالى :

( سورة القلم : 2 ) .
المؤمن في سعادة ، واللهِ لا تستطيع سبائك الذهب اللامعة ، ولا سياط الجلادين اللاذعة أن تصرفاه عنه ، أحد أحد ، قال له : أتحب أن يكون محمد مكانك ، قبل صلبه ، (سيدنا خبيب) ، قبل أن يصلب ، أتحب أن يكون محمد مكانك ، قال : لا والله لا أحب أن أكون في بيتي وأهلي ، وعندي عافية الدنيا ونعيمها ، ويصاب رسول الله بشوكة ، ماذا فعل هذا الصحابي الجليل ؟ قال أقبل على كتاب الله يقرؤه ليلاً ونهاراً ، ويتفقه في أحكامه ، ويتملى من عظاته ، وأعرض عن الدنيا وزهرتها ، وأقبل على الله بكل جارحة من جوارحه ، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم رآه ذات يومٍ يدخل المسجد فقال لعائشة رضي الله عنها : يا عائشة أتدرين مَن هذا؟ قالت : لا والله ، قال إنه ابن عمي أبو سفيان ، انظري إليه إنه أول من يدخل المسجد وآخر من يخرج منه، ولا يفارق بصره شراك نعليه أبداً .
بالمناسبة لا يسمح لك الله أنْ تكون داعية إذا كانت نفسك تحمل على أحد ، ثم إنّ النبي صافاه ، وقال له : أنت أخي ، أخي لعمري ، فإذا كان عندك استعداد أنْ تضع كل مشكلاتك مع الناس تحت قدمك ، وأن تأخذ بيدهم إلى الله عز وجل ، فالله عز وجل يسمح لك أن تدعو إليه، ولما لحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى حزن عليه أبو سفيان حزن الأم على وحيدها ، لا على ابنها ، بل على وحيدها ، وبكاه بكاء الحبيب على حبيبه ، ورثاه بقصيدة ، فهو شاعر ، فهذه مناسبة تجود بها القرائح الشعرية ، ورثاه بقصيدة من أَرَقِّ المراثي ، تفيض لوعةً وشجوناً ، وتذوب حسرة وأنينًا .
وفي خلافة الفاروق رضي الله عنه أحسّ أبو سفيان بدنو أجله ، فحفر قبره بنفسه ، ولم يمض على ذلك غير ثلاثة أيام حتى حضرته الوفاة ، كأنه مع الموت على ميعاد ، فالتفتَ إلى زوجته وأولاده وأهله وهم يبكون حوله ، ماذا قال لهم : لا تبكوا علي ، ولا تحزنوا ، فو الله ما تعلقت بخطيئة منذ أسلمت ، فهو مطمئن ،هكذا فليكنِ المؤمن ، تربية النبي كانت راكزة ، رباه تربية توبة ، أنا أعتقد والله أعلم أنّ النبي من أول لقاء فرح بإسلامه ، لكن باعتبار عشرين سنة عداء، فمَن أخذ البلاد من غير حرب يهُنْ عليه تسليمها ، وحتى رضي عنه مضتْ فترة طويلة ، ثم فاضت روحه الطاهرة فصلى عليه الفاروق نفسه ، وحزن لفقده ، هو وأصحابه الكرام وعدوا موته جللاً حل بالإسلام وأهله ، هذه قصة أبي سفيان بن الحارث ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم .
وليس من السهل أن تتوغل في المعاصي ، وتعود متى أردت إلى الله ، وهذا هو المغزى ، ليس من السهل التوغل في المعاصي ، ثم تعود متى شئت إلى الله ، لا ، إنّ الله عزيز .

( سورة الزمر : 53 )
فعلى المسلم ألاّ يتورط ، فلا يعصي ، ولا يضحي بسمعته عند المؤمنين ، فسقوطه من أعينهم أمرٌ فادح جلل ، مكانتك لها ثمن ، المودة لها ثمن ، الحب له ثمن ، النبي قال : الجماعة رحمة ، أنت منضم إلى جماعة مؤمنة ، محبوب ، مكرم ، معزز ، ومفارقة الجماعة خسارة ، فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الشَّيْطَانَ ذِئْبُ الْإِنْسَانِ كَذِئْبِ الْغَنَمِ يَأْخُذُ الشَّاةَ الْقَاصِيَةَ وَالنَّاحِيَةَ وَإِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ وَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَالْعَامَّةِ *
(رواه أحمد)

(التوبة ، الآية 118)
أيْ الثلاثة الذين خُلِّفوا ، فمَن كان المؤدِّب ؟ إنّه الله عز وجل ، وفي درس اليوم من المؤدِّب؟ إنّه النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن بوحي من الله عز وجل ، وقد يؤدِّب ربنا إنسانًا أسرف على نفسه ، وتقبل توبته ، وليحذرْ أنْ يعود إلى الذنوب ثانية ، فالعاد إلى الذنب كالمستهزئ بربه ، وقد تكون الخاتمة وبيلة .
دخل النبي على بعض أصحابه وكان مريضاً ، فقال : يا رسول الله ادعُ الله لي أن يشفيني ، أن يرحمني ، فقال : يا رب ارحمه ، قال : فجاء الوحي للنبي فقال يا محمد : كيف أرحمه مما أنا به أرحمه ، وعزتي وجلالي لا أرحم عبدي المؤمن ، ولا أقبض عبدي المؤمن وأنا أحب أن أرحمه إلا ابتليته بكل سيئة كان عملها ، سقماً في جسده ، أو إقتاراً في رزقه ، أو مصيبة في ماله أو ولده حتى أبلغ منه مثل الذر فإذا بقي عليه شيء شددت عليه سكرات الموت حتى يلقاني كيوم ولدت أمه .
كان للواحد منا جاهلية ، فإنه سبحانه يطهره ، فلْيرضَ وليسلِّمْ ، ولْيتحمل ، فهذا لصالحه ، وهذه المعالجة كانت لصالح هذا الصحابي ، إعراض شديد انتهى بالرضي ، والله عز وجل لا يتخلى عن المؤمن ، ولكن لا تملَّ ، وكن عبدًا ملحاحاً .
***
لا تسألن بني آدم حاجة وسَلِ الذي أبوابه لا تُحجَبُ
الله يغضب إن تركت سؤاله و بني آدم حين يسئل يغضب
***
الإنسان يغضب إذا سئل ، والله جل جلاله يغضب إذا لم يسأل .
والحمد لله رب العالمين .
***
الكتاب: سيرة خمسين صحابي
المؤلف: الدكتور محمد راتب النابسلي
المصدر: الشاملة الذهبية

    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

 


بحث عن:


الساعة الآن 01:46 PM



Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
By Media Gate - https://mediagatejo.com