موقع الشيخ بن باز


 

  لتحميل حلقة الرقية الشرعية للشيخ أبو البراء اضغط هنا


ruqya

Icon36 صفحة المرئيات الخاصة بموقع الرقية الشرعية

الموقع الرسمي للشيخ خالد الحبشي | العلاج بالرقية الشرعية من الكتاب والسنة

الأخوة و الأخوات الكرام أعضاء منتدنا الغالي نرحب بكم أجمل ترحيب و أنتم محل إهتمام و تقدير و محبة ..نعتذر عن أي تأخير في الرد على أسئلتكم و إستفساراتكم الكريمة و دائماً يكون حسب الأقدمية من تاريخ الكتابة و أي تأخر في الرد هو لأسباب خارجة عن إرادتنا نظراً للظروف و الإلتزامات المختلفة

 
العودة   منتدى الرقية الشرعية > أقسام المنابر الإسلامية > منبر السيرة النبوية والأسوة المحمدية

الملاحظات

صفحة الرقية الشرعية على الفيس بوك

إضافة رد
 
 
أدوات الموضوع
New Page 2
 
 

قديم 24-04-2023, 10:04 PM   #1
معلومات العضو
الماحى3

افتراضي سيرة الصحابي : حمزة بن عبد المطلب ، لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب

الدرس 8/ 50 : سيرة الصحابي : حمزة بن عبد المطلب ، لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي
تاريخ : 23 / 11 / 1992 .
تفريغ : عماد علان
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا ، وانْفعنا بِما علَّمتنا ، وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الأكارم ؛ و أنا في طريقي إليكم لاحت أمامي فكرةٌ يمكن أن تكون مقدِّمةً لدروس السِّيرة ، لو أنَّ إنساناً يتيه في صحراءَ موحشةٍ ، أو في غابة فيها وحوشٌ مفترسة ، أو في أرضٍ وَعرةٍ فيها مخاطرُ ثابتةٌ، وأنت رأيته في هذه الحالة الخطيرة التي تدعو إلى الشَّفقة ، مهمتك الأولى أن تدعُوَه إلى مكانٍ آمنٍ ، إلى حصنٍ حصينٍ ، إلى بستانٍ مَحاطٍ ، إلى قصرٍ مُنيفٍ ، فإذا رضي واستجاب لك ، ودخل هذا البستان الآمن أو إلى هذا القصر المنيف ، فقد أصبح لك مهمَّةٌ ثانيةٌ ، وهي أن تعرِّفَه مداخل هذا القصر ومخارجه ، وأماكن النوم ، وأماكن الرَّاحة ، وأماكن الطَّعام فلمّا كان خارج القصر كانت له طريقة في التوجيه ، فإذا دخل إلى القصر فله طريقة أخرى ، فحينما تدعو إلى الله عز وجل ورأيتَ إنساناً شارداً تائهاً عاصيًا ، مقيماً على معصية عقيدته زائغة ، تصَوُراته غير صحيحة ، هذا الإنسان عليك أن تدعوَه إلى الله، عليك أن تقنعه بأحقِّية هذا الدِّين ، عليك أن ترشده إلى طريق الحق ، فإذا استجاب و سلك هذا الطريق عليك أن تبيِّن له الجزئيات ؛ الأمرَ الإلهي ؛ النَّهي الإلهي ؛ حقيقة الدُّنيا ، فمهمة الدَّاعية إلى الله عز وجل تجاه الإنسان الشَّارد لها طبيعة ، وبعد أن يستجيب هذا الإنسان فللدعوة طبيعة أخرى ، فحينما نخاطب إخوةً كراماً مؤمنين آمنوا بالله عز وجل ، آمنوا بوجوده ، آمنوا بكمالاته ووحدانيته ، وآمنوا برسوله و بكتابه ، هؤلاء الإخوة الأكارم الذين استجابوا لله ، يجب أن نبصِّرهم بدقائق الأفعالِ ؛ بدقائق السُّنة ؛ وبدقائق الأحكام الفقهية ؛ بطبيعة المنهج الدَّقيق الذي ينبغي أن يسيروا عليه ، هذه مهمة ثانية ، لذلك طلب العلم لا ينقطع بل يستمر ما دام المسلم حيًّا، لكن في كل طوْرٍ هناك موضوعاتٌ ينبغي أنْ نُعْنى بها ، هذا ما حصل تماماً في عهد الصحابة الكِرام ، ففي المرحلة الأولى كانت الدعوة إلى الله والإيمان وباليوم الآخر والرسُل والملائكة والقدر خيره وشَرِّه ، وكانت دعوة إلى التفكُّر في الكون ، وإلى إقام الصلاة ، ودعْوةٌ إلى ضبْط الشهوات والالْتِزام والتضْحِيَة ، والهِجْرة ، فلما اسْتجاب أصحاب النبي لله وللرسول فيما دعاهم إليه وهاجَروا معه واسْتَقَروا في المدينة ، جاءَتْ آياتُ التشريع ؛ آية الدَّيْن وأحكام الطلاق ، والزواج ، وأحْكام البيْع ، فَنَحْنُ في مسيرتنا في هذه الحياة ، نَطْلُب العلم دائِماً ولكن في كلِّ مرحلةٍ ، ونحْتاج إلى موضوعات خاصَّةٍ بها ، نحن آمنا بالله ورسوله وكتابه ، ثم نريد أنْ نقْتَدِيَ بأصْحاب النبي صلى الله عليه وسلَّم ، بهؤلاء الذين خصَّهم الله بالنبيِّ عليه الصَّلاة و السَّلام ، بهؤلاء الذين رضي الله عنهم ، بهؤلاء الذين اختارهم الله لصُحبة نبيه عليه الصَّلاة والسَّلام ، بهؤلاء الأبطال الذين وصفهم النبي عليه الصَّلاة والسَّلام فقال : "علماء حكماء كادوا بفقههم أن يكونوا أنبياء " ، هؤلاء الذين كانوا قادة ألوية النبي عليه الصَّلاة والصلاة والسَّلام ، وكانوا رسلَه إلى بقية الأمم والشُّعوب ، لذلك فقراءة سيرتهم جزءٌ أساسيٌّ من الدِّين ، بعد أن آمنتَ بالله ورسوله و كتابه واليوم الآخر ، وبعد أن التزمتَ وطبَّقتَ واستجبتَ ؛ بقي عليك أن تفهم دقائق مواقف هؤلاء الصَّحابة .
صحابيُّ اليوم ؛ هو سيِّدنا حمزة بن عبد المطَّلب ؛ عم النبي عليه الصَّلاة والسلام ، قد يقول قائلٌ : هذا الصحابي درسناه قبل ثماني سنوات ، تماماً كما تجد نصًّا في المرحلة الإعدادية، وتجده في المرحلة الثَّانوية ، والنصُّ نفسه في المرحلة الجامعية ، نحن لمَّا نريد أن نعطيَ الإخوةَ الأكارم دروسًا في السِّيرة ، ولاسيما سيرة الصَّحابة الكرام ، نريد أن نستنبط من سيرهم حقائق نستعين بها في هذه الحياة المعاصرة ، لا نريد أن ندرس هذه السِّير كتاريخ ، نريد أن ندرسها كوقائع يمكن أن نستنبط منها قواعدَ وعبراً وحقائق ومبادئ نستعين بها في تعاملنا مع الله ، ومع أهل الحق ، و مع عامة الناس فأوَّلُ ملاحظة أنه من السذاجة ، ومِن ضيق الأفق ومِن عدم النضج ، ومن أخلاق الغوغاء والعامة أن تقول : هذا أبيض وهذا أسود ؛ وليس بينهما لونٌ آخر، هذا مؤمن وهذا كافر ، هذه النظرة الحادَّةُ المتطرفة ، هذه الأحكام الحدِّية القاسية ، هذه ليست من صفات أهل الإيمان .
فمثلاً ؛ في العهد الذي أُرسِل به النبي عليه الصلاة والسلام وجاء بالقرآن الكريم ؛ كان ناسٌ في مكة غارقين في الشَّهوات ، غارقين في المعاصي والآثام ، غارقين في أكل المال الحرام، غارقين في الطُّغيان والعدوان ، غارقين في الكِبْر ، غارقين في البَطَرِ ، هؤلاء الكفَّار الفجَّار المشركون ، بينما كان في الطَّرف الثَّاني النبيُّ عليه الصَّلاة والسلام ؛ قمَّة البشر ؛ سيِّد الخلق ؛ حبيب الحق ، ومعه أصحابٌ مخلصون ؛ مجاهدون تائبون عابدون سائحون راكعون ساجدون ، هؤلاء في قمَّة الرُّقي والمجد ، وأولئك الكفرة في حضيض الدناءة والاحتقار ، والسؤالُ الآن ؛ أليس بين هؤلاء ناسٌ لا من هؤلاء و لا من هؤلاء ؟ هذا الذي أتمنَّى عليكم أن تعرفوه ، أنتَ مؤمن تصلي وتصوم ومستقيم ، وتغدو وتروح إلى مسجد ، ولك مجلس علم ، ولك إخوان ، وتعرف الحق من الباطل ، شيءٌ جميل ، وهناك شخصٌ في حياتك ؛ فاجر عاصٍ ، شارب خمرٍ ، زانٍ ، باغٍ ، عاتٍ ، أليس ممَّن حولك شخصٌ لا من إخوانك ولا من أولئك الفجرة؟ إنسان لم يُصَلِّ بعد ، لكنْ له أخلاقٌ ترضي ، وقدً لا يحبُّ الانحراف ، ويفي بالوعد ، وينجز العهد ، هذا الذي لا من هؤلاء ولا من أولئك ، ليس لك أن تُقَيِّمه تقييمًا سيِّئًا ، بل عليك أن تلتفت إليه ، فالنبي عليه الصلاة والسلام و أصحابه الكرام الذين سبقوا إلى الإسلام كانوا في قِمَّة الطُّهر والعفاف والمجد ، وكان كفَّار قريش في حضيض الدناءة والبغي و الطُّغيان ، أمَّا سيدنا حمزة فلم يكن مسلماً بعد ، لكن كان شهماً ، وكان صاحب مروءة ، شجاعاً يأبى الظلم والدناءة ، فإذا رأيتَ أيها الأخ الكريم إنساناً أخلاقيًّاً يفي بالعهد ، ولا يكذب ، لكنه ليس ملتزِمًا ، فلا ينبغي أن تُقَيّمَه تقييماً سيِّئاً لأنه تاركٌ للصلاة فقط ، هذا كما يُقال : خامةٌ طيِّبةٌ ، هذا عنصرٌ جيدٌ ، لو وجَّهته ، وسدَّدتَ خُطاه ، وعلَّمتَه ودرَّبتَه ، وفقَّهتَه ، ودفعتَه إلى الله عز وجل لاستجاب ، فمن السذاجة وضيق الأفق ، بل من الغباء أن تقول : أبيض أو أسود فقط ، بين الأبيض والأسود مئات الألوف من الألوان ؛ التي لا هي في نصاعة البياض ، ولا في قتامة السَّواد ، هذا هو الموقف المعتدل ، والمنصف ، ولو أنك كلما شاهدتَ إنساناً بعيدًا عن مسجدك ، وعن إخوانك ، أو لا يصلي ؛ فحكمتَ عليه بالكفر ولم تعبأ به ، فأنَّى لك أن تكون هادياً للناس ؟ وأنى لك أن يستخدمك الله في الدعوة إليه ؟ عندئذٍ لا تُصْلِح ، لذلك أنا أتمنَّى على الإخوة الأكارم رحابة الصَّدر ، و اتساع صدورهم لكل الناس ، لكل من هو على شاكلتهم ، أو ليس على شاكلتهم .
لا أكتمكم أنني أنطلق من فكرة ، أتمنَّى على الله عز وجل في هذا الدرس أن أوضِّحها لكم، أنتم رُوَادُ هذا المسجد ، ونحن جميعاً طرفٌ واحد ، تؤمنون بما أنا به مؤمن ، وتصدِّقون بما أنا به مصدق ، نحن جميعاً طرف واحد ، لأننا آمنَّا بالله عز وجل و آمنا بكتابه و استجبنا له ، ولكن متى ترتفعون عند الله عز وجل ؟ إذا ضممتم إليكم أناسًا من الطرف الآخر ، أنت تجلس مع إخوانك فتأنس بهم ، تحدِّثهم ويحدثونك ، تتفاعلون و تتصافون وتحلقون ، ولكن هل أضفتم إلى المجتمع الإسلامي عناصر جديدة ؟ هل حاورتم الطَّرف الآخر ؟ هل لك صديق لا يصلي ؟ هل لك صديق يحدِّث نفسه إطلاقًا في أن يأتي إلى مجالس العلم ؟ هل تقنعه بحضور مجلس علم ؟ أردتُ من هذه النقطة ومن هذا النص الذي أمامي أنه ينبغي أن تضيف إلى مجتمع المؤمنين عناصر جديدة من مجتمع غير المؤمنين ، هنا البطولة ، وأنا أثني على كل لقاء بين الإخوة الأكارم لتمتين علاقتهم بالله ، وأنا أحضُّ على هذا اللقاء ، كما قال تعالى :

[ سبأ : الآية 46 ]
هذا أمرٌ إلهي أن تجلس مع إخوانك في الأسبوع مرَّة ، بحسب القرب والمكان ، وبحسب العمل والعلاقات الاجتماعية ، أنْ تلتقي إخوانك الكرام ، وتحدثهم عمَّا أفاض الله عليك ، وعما عقلتَه من درس الجمعة ، أو من درس السبت، أو من درس الاثنين ، أو من خطبة الجمعة ، عن موقف تأثَّرتَ به أشدَّ التأثُّر ؛ هذا اللقاء أنا أباركه وأحضُّ عليه ، وأتمنَّى أنْ يكون لكل واحد منكم مثل هذا اللقاء ، ولكن هذه اللقاءات ماذا تفعل ؟ توطِّن علاقة الإخوة الأكارم بربهم ، وتمتِّن علاقتهم بدينهم ، وبمنهلهم وبمشربهم الدِّيني ، وبمسجدهم ، وهذا شيء جميل ؛ ولكن ينبغي أن يكون لك نشاطٌ آخر ، هؤلاء الأخلاقيون الذين لا يرتادون المساجد ، هؤلاء الطيِّبون الذين شرَدوا عن الله عز وجل ، هؤلاء الذين تأنسون لهم ، لكنكم لا ترضون عنهم ، قد يكون هناك شخص وحش ، هناك شخص دنيء ، ساقط ، منحرف ، متكبِّر ، طاغٍ باغٍ ؛ هذا دعونا منه ، ولكنْ هناك شخص من جلدتك ، من إخوانك ، من أقرب الناس إليك ، هذا أيضًا تأنس به وترتاح له ، وكذلك هناك شخص ممن يلوذ بك ؛ قريب أو وصديق أو جار أو زميل أو صاحب بالجَنب ، هذا لا ترْضى عن سُلوكه ، ولكن ترْتاحُ له ، وحينما ترْتاحُ له ، فهذا يعْني أنه ينْطوي على نفْسٍ طيِّبَة ، هذا ينْبغي أنْ تسْعى لِإقْناعِهِ أنْ يسْلك طريق الإيمان ، وهذا الذي ترتاحُ له ولا ترْضى عن سُلوكه ينْبغي ألاّ يكون خارج الحِساب ، وخارج اهْتِمامك ، فأنت لك نشاطان ؛ نشاطٌ يتعلَّقُ بِتَمْتين علاقة إخْوانك بِرَبِّهم وبِدينهم وبِمَسْجِدِهم وبِمَنْهَلِهم ، هذا النشاط لا يُضيفُ عناصِر جديدة إلى مُجْتمع المؤمنين ، ولكن يُمَتِّن العلاقات القائِمَة ، أمّا النشاط الثاني ؛ فينبغي أنْ تُحاور الطَّرَفَ الآخر ، هذا الذي أتمناهُ عليكم ، ولذلك أيَّةُ حفْلَةٍ في بيْتٍ ، وأيَّةُ دَعْوَةٍ ، وأيَّةُ مناسبة مُفْرِحَة ، هذه البلدة التي نحن فيها - دمشق - والله أعْتَزُّ بها كثيراً ؛ ما من لِقاءٍ وما من احْتِفالٍ ، وما من زواجٍ ، وما من وِلادَةٍ إلا وهذه المُناسبات مُلْتقى فِئَة خَيِّرَة لإلْقاءِ تَوْجيهاتٍ ، فأنت لك مع إخْوانك لِقاءاتٍ دَوْرِيَّة ؛ ولكن حينما جاءَكَ موْلودٌ ؛ فما المانع أنْ تدْعُوَ أقارِبَك الذين تتَوَسَّمُ فيهم الخير إلى حفلٍ بسيط في منزلك ، وتَدْعُوَهم في أثناء اللقاء إلى سُلوك طريق الإيمان والالْتِزام بالدين ، والصُّلْح مع الله ، وإلى معْرِفَتِه ، فإن كُنت قادِراً فافْعَل ، وإنْ لم تكُن قادِراً فما الذي يمْنَعُك أنْ تدْعُوَ من يقْدُر على تَوْجيهِهِم إلى بيْتِك ، فإذا اسْتَجاب عدد من الذين شَرُدوا على الله عز وجل وتأثَّروا فهذا في صحيفتك عند الله ، ولقد سمعتُ قِصَّةً تأثَّرْتُ لها ، هذه القِصَّة أنَّ رجُلاً ممن شرد على الله ، وممن آمن أنه لا إله - دون أن أُكْمل - أيْ أنه مُلْحِدٌ ، في الخامسة والأربعين ، أو الخمسين من عُمُره اهْتدى إلى الله ، وبدأ يُصلي ، له ابنٌ صالِحًٌ ، فَمِن شِدَّة فَرَحِ ابنه أنَّ أباهُ بدأ يُصَلي ، هذا الابن أقام موْلِداً في بيْتِهِ ، ودعا أصْدِقاء والده ، بِمُناسَبَة أنَّ أباهُ بدأ يُصلي ، وكلَّف أحد علماء دِمَشْق لإِلْقاء كلمة على هؤلاء الشارِدين ، أصْدِقاء هذا المُلْحِد ؛ ألْقى عليهم كلمة فيها كُلُّ العَقْلانية والمنطق والأدِلَّة ، فهذا الابن يقول : لم ينتهِ هذا الاِحْتِفال إلا وخَمْسَةٌ من أصْدِقاء والده اصْطَلَحوا مع الله ، فالبطولة لا أنْ تُفْسِد إنْساناً على شَيْخِهِ ! دِمَشْق فيها خمسة ملايين ، كم من مُصَلٍّ فيها؟! نِصْف مليون أو أكثر ، فهؤلاء أربعة الملايين الشارِدين عن ربِّهم ابذل من نفسك لهم ، ولِهَؤُلاء الذين لا يُصَلون ، ولِهَؤُلاء الذين أُلْبِسوا شُبُهاتٍ حول الدِّين ، وظنوا أنَّ الإسلام شيءٌ قديمٌ ، وأنَّ الأديان أشياءٌ غَيْبِيَّة لا علاقة لها بِالواقع ، فأنت إذا أردتَ أنْ ترقى عند الله يجب أنْ تنْطلق في حِوار الطَّرَف الآخر ، لا أنْ تبْقى على الطَّرف الواحد ، فالبُطولة في إقْناعِ الطَّرَف الشارِد !!.
أردتُ من هذه المُقَدِّمة أنْ أبيِّن أنَّه في عهْد النبي عليه الصلاة والسلام كان النبي قِمَّةً في الحُبِّ والوَرَعِ والإقْبال والسُّمُوِّ وإنْكار الذات والشَّوْق لربِّه ، وكان أُناسٌ في مكَّةَ في حضيض الانْحِطاط والدناءة والأَثَرَة والكِبْر والبَغْي والأنانية - إن صَحَّ التعبير - والعُدْوان ، وكان أُناسٌ لم يؤمنوا بِمُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام ، وليْسوا في هذا المُسْتوى الوَضيع الذي انْحدر إليه كُفارُ قريش ، من هؤلاء سيِّدُنا حمزة بن عبد المُطَّلب رضي الله عنه وأرْضاه .
كان سيدنا حمزة مرَّةً في فناء الكعبة ، حيثُ سادة قريشٌ يتحادثون ، فجلس معهم ليسمع ما يقولون ، وكانوا يتحدَّثون عن محمد صلى الله عليه وسلم ، ولأوَّل مرَّةٍ رآهم يقلقون على مصيرهم من هذه الدعوة الجديدة ، ويُعبِّرون عن حقدهم وغيظهم وعن مرارة قلوبهم ، كان هو متفائلاً معتدلاً واقعيًّا ، فلم يبالغ هذه المبالغة ، ولم ينطوِ على هذا الحقد ، وهو ليس على دين محمد ، ولكن لا ينطوي على حقد على ابن أخيه ، ولا على كُرهٍ للحق ، هذا الذي أريده ؛ هؤلاء الذين لم يقاتلوكم في الدين ، قال الله عز وجل :

[ الممتحنة : الآية 8 ]
لو أقمتَ علاقةً مع إنسان لك ثقة بأخلاقه ، لكن لا تراه ملتزِماً ، هذا الذي أتمنَّى أن استنبطه من هذه القصَّة ، فكان سيدنا حمزة كلما طُرِح موضوعُ النبي عليه الصلاة والسلام مع أنه لم يكن على دينه ؛ لكن لم يكن ينطوي على حقدٍ دفين ، ولا على كراهية شديدة ، ولا على بغضٍ عميق ، بل كان معتدلاً ، وكان يرى أنَّ ابن أخيه على حقٍّ ، ولم يفكِّر أنْ يؤمن به ، لكنه كان يدافع عنه ، هؤلاء الحياديون ينبغي أن نقرِّبهم إلينا ؛ لا أن نبعِّدَهم عنَّا ، أحيانًا يكون أخٌ منا ملتزماً بالدين وله قريب متلبِّسٌ بمعصيةٍ أو مخالفة ، فيكَفِّرُه بها ، ويحاربه ، هذا ليس من الحكمةِ إطلاقًا ؛ هذا موقف غير حكيم ، وغير إسلامي ، ولا يُرْضي الله عز وجل ، فهذا موقفٌ مُنَفِّر ، إذْ إنه ما عاداك ، وما هاجمك ، ولا نال منك ، ولكنه ليس على شاكِلَتِك ، ليس على الْتِزامك ، فأنت عليك أنْ تُحْسن إليه ، وأنْ تصِله وتزوره وتُقَدِّم له بعض الخدمات ، وتريه منكَ الكمال ، وعليك أنْ تُرِيَهُ العِفَّة والإحسان ، حتى يُوازن فيقال : هذا إنسانٌ عظيمٌ .
هناك اسْتِنباط آخر من هذه القِصَّة ، فأكثر الأشْخاص عامِلُ السِنِّ حِجابٌ بينهم وبين الله ؛ مثلاً إذا كان أكبر من هذا الذي يدْعو إلى الله سِناًّ ؛ لا يسْتمع إليه ، لذلك دائِماً عقدة الآباء مع أبنائِهم ، فالأب يقول : هذا ابني ، أنَّى له أن يسْبِقَني ، وقد يسْبِقُ الابن أباهُ ، قال تعالى :

[ مريم : الآية 43 ]
فَسَيِّدُنا حمزة مع أنه كان عمَّ النبي صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك عرف قَدْرهُ وصِدْقَهُ ، وعرف أمانته وإخْلاصه وقيمته عند الله عز وجل ، فالسُّعداء أيها الإخوة ؛ لا يمْنعهم فارق السِّنِّ من أن يسْتمعوا وأن يتَّبِعوا ؛ أحْياناً يكون الشخْصُ مدير ثانويَّة لا يُمْكن أنْ يسْتجيب لِمُعَلِّمٍ عنده ، كذلك طبيبٌ كبير لا يسْتجيب لِمُمَرِّض ، مديرٌ عام لا يسْتجيب لِمُوَظَّف صغيرٍ عنده ، ففارق المرتبة الاجتِماعِيَّة و السِّن ، أو فارق المستوى الاقتِصادي ، هذا حِجابٌ بين العبد والحقّ ، فَسَيِّدُنا حمزة مع أنه كان عمَّ النبي صلى الله عليه وسلم والعمُّ مقدَّمٌ دائِماً ، وقد قيل : لا نَبِيَّ في قَوْمه ، وأزهد الناس في العالم أهلهُ وجيرانه ، شِدَّةُ القُرب حِجابٌ ، فَسَيِّدُنا حمزة وهو عمُّ النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك عرف قَدْره ، بل إن العباس رضي الله عنه لشدَّة أدبه مع رسول الله سُئِلَ مرَّةً : أيُّكُما أكبر أنت أم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : هو أكبر مني ، وأنا وُلِدْتُ قبله ، أحْيانًا أنت تحمل شهادة ، ويُلْقي الله في قلب إنسان أقلَّ منك عِلمًا ، وتكون أنت من ذوي الشهادات العاليَة ؛ يُنْطِقُهُ بالحِكمة ، ويُلقي في قلبه السكينة ، فلا يكون فارق السنِّ ، ولا فارق الشهادة ، ولا فارق المرتبة الاجتِماعِيَّة حِجاباً بينك وبين الحقّ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ مِنْهُمْ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ *
[رواه الترمذي]
مرَّ معنا حديثٌ شريف منذ يومين في درس الفجر أنَّ الرجل قد يبْدو بليغاً ، طليق اللِّسان ، ووسيمَ المنظر ، لا شأنَ له عند الله ، وقد تجد إنساناً في مقاييس البشر في الدرجة الدنيا ، وله عند الله شأنٌ عظيم ؛ كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ ، لذلك هذا الأخلاقي الذي لا يُصلي أنت ترتاحُ له ، ولكن لا ترْضى عن سُلوكه هذا الإنسان بالذات - وأنا أعْني ما أقول - لا بد أنْ يأتِيَ يومٌ يسْتجيب فيه لله عز وجل ؛ أخْلاقِيَّتُهُ ونظافَتُهُ ومُروءَتُهُ هذه تُعينه على طلب الحقّ ، فَسَيِّدنا حمزة خرج من داره مُتَوَشِّحاً قوسه ، ومُيَمِّماً وجْههُ شطر الفلاة لِيُمارِس هِوايَةً يُحِبُّها ؛ إنها الصَّيْد ، وكان صاحِبَ مهارَةٍ فائِقَة فيه ، قضى هناك بعض يومه ، ولما عاد من صَيْده ذهب كَعَادتِهِ إلى الكعبة لِيَطوفَ بها قبل أنْ يقْفِلَ راجِعاً إلى داره ، ماذا نسْتنبط من هذا ؟! الإنسانُ مُتَدَيِّن بالفِطْرة ؛ الآن اذْهب إلى أيِّ مكانٍ في العالم ؛ اِذْهب إلى شرق آسيا تجد مُثَقَّفين ودكاتِره يدخُلون معْبد بوذا ، ويُمارِسون طقوساً مُعَيَّنَة أمام صَنَمٍ كبير ، وأمام هذا الصَّنم فواكه كثيرة توضَع لِيَأكلها ليلاً ، والذين يأكُلونها هم الرُّهبان ، وحتى الإنسان الذي له مرتبة اجْتِماعِيَّة وسِياسِيَّة يقْصد كاهِناً أو عرافاً لِيَسْتَنْبِئه الغيب ، وهذه كُلُّها إشارات إلى أنَّ الإنسان مُتَدّيِّنٌ بِالفِطْرة ، فإما أنْ يتعلَّق بِالخُرافات والأباطيل والأكاذيب ، وإما أنْ يتعلَّق بالحقّ فلا بد أنْ تكون عبْداً ؛ إما أنْ تكون عبْداً لِخُرافَةٍ ، أو لِفِكْرةٍ تافِهَة مغْلوطة ، أو أنْ تكون عبْداً لله عز وجل ، فَسَيِّدُنا حمزة قبل أنْ يؤمن ويُسلم يأتي من الصَّيْد لِيَطوف بالكعبة ، ثمَّ يعود إلى بيْتِهِ ، فالتدَيُّن سُلوكٌ فِطْري ، حتى على مُستوى عامَّة الناس تجده يُقيمُ على كلَّ المعاصي ، لكنَّهُ لا بد أنْ يتبرَّك بِهذا الولِيِّ ، ولا بد أن يذْبح خروفاً على روح فلان ، فهؤلاء العُصاة والمُنْحَرِفون لهم سُلوكٌ ديني - غير صحيح طبْعاً - فالتَدَيُّن بِالفِطرة ، فإما أنْ تكون مُتعلِّقاً بالله ومنهجه ، وإما أنْ تتعلَّق بالخُرافات ، فهؤلاء الذين ينْدَفِعون للكَهَنَة من العُصاة ، ومَن شاكَلَهم إنما ينْدفِعون بِفِطْرتهم، لماذا ينْدفعون لهذا ؟! لأنّ الإنسان ضعيف يُحِبُّ أنْ يلْجأ إلى قَوِيّ ، وكل الخُرافات الدِّينِيَّة منْبعُها هذه الحاجة الفِطْرِيَّة إلى التدَيُّن ، فَسَيِّدُنا حمزة قبل أنْ يؤمن ويُسلم يأتي من الصَّيْد لِيَطوف بالكعبة كَسُلوكٍ ديني وقريباً من الكَعْبة لَقِيَهُ خادِمٌ لِعَبْد الله ، ولم تكد تبصرُه حتى قال له : يا أبا عُمارة - وهي كنية سيدنا حمزة - لو رأيتَ ما لقيَ ابن أخيك محمدٌ آنفًا من أبي الحكم بن هشام ، الذي رأى ابن أخيك هناك جالساً فانصرفَ إليه فآذاه وسبَّه ، وبلغ منه ما يكره ، فسيدنا حمزة بكل مروءته وشهامته وغيرته ، وبكل إنصافه توَشَّح سيفه ، واتَّجه ليقتصَّ من أبي الحكم بن هشام ، بحث عنه فإذا هو في جوار الكعبة ، تقدَّم نحوه ، واستلَّ قوسه ، وهوى به على رأسه فشجَّه وأدماه ، وقبل أن يفيق الجالسون من الدهشة صاح حمزة بهم وصاح في أبي جهل : أَتَشْتُمُ محمَّداً وأنا على دينه ، أقول ما يقول ؟ ألا فَرُدَّ عليَّ إن اسْتَطَعْتَ ، سيِّدُنا حمزة كان من الشَّخْصِيات اللامعة والأولى في المُجتمع الجاهِلي ، ومن عَلِيَّة القوم ؛ واحد كَألف ! وقال أيضًا : أنا على دينه أقول ما يقول ! أسلم سيِّدنا حمزة ، ولكن بِمَوْقفٍ ارْتِجالي ، وموقف دفعته إليه حَمِيَّتُهُ لابن أخيه ، وإنْصافُهُ وغَيْرَتُهُ ، أسْلم وتحَدى المُشْرِكين ، ولكن أدَعُكُم معه لِيُعبِّر عن حالةٍ نفْسِيَّة ألمَّتْ به ، يقول سيِّدنا حمزة : أدْركني النَّدَم على فِراقي دين آبائي وقَوْمي - هو أسْلم في لحظةٍ ارْتِجالِيَّة وحماسة وغَيْرة وأدْرك أنَّ متاعِبَ سَتَلْحَقُ به ، لذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام : ما دَعَوْتُ أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كَبْوَة إلا أخي أبا بكر ...." - وبِتُّ في شكٍّ من أمرٍ عظيم ، لا أكْتَحِلُ بِنَوْم ، ثمّ أتَيْتُ الكعبة وتضرَّعْتُ إلى الله - ، مفْهوم الإله مفْهومٌ عامٌ في كلِّ مكان وزمانٍ ، وفي كلِّ مِصر ، ومع أيِّ إنسان - أنْ يشرح صدْري ؛ ذكر لي أحد إخْواننا وكان من رُواد المسْجد أنَّ جماعَةً أرادوا أنْ يُشَكِّكوه في إيمانه و منهجه ، فصلَّى ركعتين قبل أن ينام ، ودعا فيهما فقال : اللهمَّ إن كان هؤلاء على الحق فأيقظني مع صلاة الفجر ، وإن كانوا على باطل فلا توقظني ، فاستيقظ قبل الفجر بساعة ، هكذا طلب من الله ، فسيدنا حمزة وقع في حيرة ، في ساعة مروءة ، و في ساعة غيرة أسلم ، ومنذ الآن فسيعاكس آباءه وأجداده - قال : ثم أتيتُ الكعبة ، وتضرعتُ إلى الله أن يشرح صدري للحقِّ ، ويُذهب عني الرَّيبَ ؛ فاستجاب الله لي ، وملأ قلبي يقيناً ، وغدوتُ إلى النبي عليه الصلاة والسلام فأخبرتُه بما كان من أمري ، فدعا الله أن يثبِّتَ قلبي على دينه ، كذلك هنا استنباط ؛ أنتَ لك علاقة مع الله مباشرة ، لك ابتهالات ، لك سؤال إلى الله ، لا شكَّ أنَّ في حياتنا أشياءَ مُحَيِّرةً ، أحياناً يلجأ إلى الله ؛ يا رب أنت تعلم و أنا لا أعلم ، دُلَّني بك عليك ، دُلَّني على رجلٍ يُحِبُّك ؛ إنْ كان هذا يُحِبُّك وتُحِبُّه فألْقِ حبي فيه ، إنْ كان هذا على الحق فاجْعَلْني أميل إليه ، فاجْعل بينك وبين الله سُؤالاً وعلاقة ، كما فعل سيِّدُنا الحمزة .
النبي عليه الصلاة والسلام حينما دخل سيِّدُنا حمزة في الإسلام كان هذا مَكْسَبًا كبيرًا لِذلك أنا أقول لكم : كُنْ شَخْصاً لامِعاً ؛ إما في الدِّراسة ، أو في العمل ، أو في التِّجارة أو في الزِّراعة أو في الصِّناعة ،ِحَيْث إذا عرف الناسُ أنَّك مؤمن بالإسلام اعتزُّوا بك ؛ هناك من يَعْتَزُّ بالإسْلام ، وهناك من يعْتَزُّ به الإسْلام ، فإذا كان ذاك مُتَفَوِّقًا ، وهو يغُضُّ بصره عن محارم الله؛ فشيء عظيم ، والناسُ لا يُطَأطئون لك إلا إذا رأوا تَفَوُّقاً في اخْتِصاصِك ، عندئِذٍ يَحْتَرِمونك ، ويَحْتَرمون دينك ، ويحْتَرمون المنهل الذي تشرب منه ، كلكم يعلم أنّه في معْركة بدْرٍ قُتِل أبو جَهْل ، وعُتْبَة بن ربيعة عبد ، وشيْبَة بن ربيعة ، وأُمَيَّة بن خلف ، وعُقْبَة بن أبي مُعيط ، والأسود بن الأسد المخْزومي ، والوليد بن عُتبة ، والنَّضر بن الحارث ، والعاص بن سعيد ، وطعْمَة بن عدِيّ ، وعشَرات من زُعَماء قريش ، ومن أعلى مُستوى من مُسْتَوَياتهم ، فغزوَةُ أُحد كانت أخْذًا بالثَّأر لِهؤلاء القتْلى ، فهذا وَحْشي الذي قتل سيِّدَنا حمزة - أنا والله العَبْدُ الفقير كنت مع صحبي موسم الحج والعُمرة نزور أُحُدًا ثلاث أو أربع مرات ، وفي كلِّ مرَّةٍ نزور قبر سيِّدنا حمزة ، وأنا أمام قبره أشعر وأقول : كم من إنْسانٍ قُتِل في هذه الدنيا ؟! الذين يموتون على فِراشِهم حَتْفَ أُنوفهم هم أكثر الناس ، ولكن الذين يُقْتلون هم كُثر ؛ ما شَعَرْتُ أنَّ أحداً كان قتْلُهُ رِفْعَةً له كهذا الصحابيِّ الجليل ، تقف أمام قبره ويمْتَلِئ قلبك إكْباراً لاسْتِشْهاده في الحق ، فأنت أيها المسلم تُوَظِّف شَخْصِيَتُك وطلاقة لِسانك واخْتِصاصك وخِبْراتك لغير الله ؟!! هل يُمْكن للمسلم أنْ يفعل هذا ؟! أنت عظيمٌ إذا عرفْتَ الله ، ووظَّفْتَ كلَّ الطاقات في سبيل الله ، فعن شعيب بن صالح قال عيسى بن مريم :
والله ما سكنت الدنيا في قلب عبد إلا التاط قلبه منها بثلاث ؛ شغل لا ينفك عناه ، وفقر لا يدرك غناه، وأمل لا يدرك منتهاه ، الدنيا طالبة ومطلوبة ، فطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى يستكمل فيها رزقه ، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يجيء الموت فيأخذ بعنقه *
[أخرجه ابن عساكر]
تجده مات لِسَبَبٍ تافِه ؛ مات وانتهى ، ونَسِيَهُ الناس - النبي عليه الصلاة والسلام وصف هذا الصحابي الجليل فقال : أسَدُ الله وأسد رسوله ! الحَبَشي الذي قتل هذا الصحابيَّ الجليل - طبْعاً أسْلم - وبعد أنْ أسْلم يرْوي كيف قتله ؟! يقول وَحْشي : كنتُ عَبْداً لِجُبَيْر بن مُطعم ، وكان عمُّ جُبَيْر قد لَقِيَ مصْرَعَهُ يوم بدْرٍ ، فقال له جُبَيْر : اُخْرج مع الناس ، وإنْ أنت قتَلْتَ حمزة فأنت عتيق ، ثمَّ أحالوه إلى هند بنت عُتبة زوجة أبي سُفْيان لِتَزيدهُ تحْريضاً ودفْعاً إلى الهدف ، وكانت هند قد فَقَدَت في معركة بدْرٍ أباها وعَمَّها وأخاها وابنها ، وقيل لها إنَّ حمزة هو الذي قتل بعض هؤلاء ، وأجْهَزَ على البعض الآخر ، من أجل ذلك كانت هند بنت عتبة زوجة أبي سُفيان أكثر القُرَشِيات تَحْريضاً للخُروج للحرب ، لا لِشَيْءٍ إلاّ لتظفر بِرَأسِ حمزة مهما يكُن الثمن ، ولقد لَبِثَت أياماً قبل الخُروج وليس لها عمل إلا إفْراغُ كُلِّ حِقْدِها في صدْر وَحْشي ، ورسْم الدَّوْر الذي يقومُ به ، كُلُّ قلائِدِها وكُلُّ أساوِرِها وأقْراطِها وخلاخِلِها وزينتها هِبَةٌ لِهذا الوَحْشي إذا قتل حَمْزة!
يقول وَحْشي : كُنتُ رجُلاً وحْشِياً حَبَشِياً ، أقذِفُ بالحَرْبة قذْف الحَبَشَة ، فقَلَّما أُخْطِئُ بها شيئاً ، ولما الْتَقى الناس خَرَجْتُ أنظر حمزة وأتَبَصَّرُهُ، حتى رأَيْتُهُ في عَرْض الناس مثل الجمل الأورق ، يَهُدُّ الناس بِسَيْفِه هداً ، ما يقِفُ أمامه شيءٌ ، فوالله بينما كنتُ أتَهَيَّأُ له أريدهُ وأسْتَتِرُ منه بِشَجَرَةٍ لِأتَقَحَّمَهُ ، أو يَدْنُوَ مني إذْ تَقَدَّمني سُباعُ بن عبد العُزَّى فلما رآهُ حمزة صاح به قائِلاً : هلمَّ إليّ ، ثمّ ضربه ضربةً فما أخْطأ رأسه ، قال عندئذٍ وَحْشي - هكذا شاءتْ حكمة الله ، قال تعالى: " ولئن متم أو قتلتم لإلى اللَّهِ تُحشَرونَ" ، أهل الدنيا يظنون أنَّ الموت مُصيبة ! لا ، الموتُ انتقال من دنيا صغيرة إلى آخرة واسعة ، هذا ما قال عنه النبي : خروج المؤمن من ضيق الدنيا إلى سَعَة الآخرة كَخُروج الجنين من ضيق الرحم إلى سَعَة الدنيا "
قال وحشي :عندئذٍ هَزَزْتُ حَرْبتي حتى إذا رضيتُ منها دَفَعْتُها حتى وقَعَتْ في ثُنَّتِهِ ، أيْ تحت سُرَّتِه ، حتى خرجت من بين رِجْلَيْه ، ونهض نحوي ثم غلب على أمْره فمات ، وأتَيْتُهُ فأَخَذْتُ حَرْبَتي ، ثمَّ رَجَعْتُ إلى المُعَسْكر ، فَقَعَدْتُ فيه ، إذْ لم يكن لي فيه حاجةٌ ، فقد قَتَلْتُهُ لأُعتَقَ ، ولما قَدِمْتُ مكَّة أُعْتِقْتُ حسب الوَعْد ، ثمَّ أقَمْتُ بها حتى دخلها النبي عليه الصلاة والسلام يوم الفتح ، فهَرَبْتُ منها إلى الطائِف ، فلما خرج وفْدُ الطائف إلى النبي عليه الصلاة والسلام لِيُسْلم ضاقَتْ عَلَيَّ المذاهب ، وقُلْتُ : ألْحُق بالشام أو اليمن أو سِواهما ، فوالله لإني في ذلك من هَمِّي وحُزْني إذْ قال لي رَجُلٌ : وَيْحَكَ إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لا يقْتُلُ أحداً من الناس يدْخُلُ في دينه - فقاتل أحبِّ الناس إلى النبي ، ومع ذلك إذا دخل الإسلام أمِنَ - فَخَرَجْتُ حتى قَدِمْتُ على النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة فلم يرني إلا قائِماً أمامه أشْهَدُ شهادة الحقِّ ؛ أشْهد أنْ لا إله إلا الله ، وأشْهد أنَّ محمَّداً رسول الله ، فلما رآني النبي قال : أَوَحْشِيٌّ أنت ؟! قلتُ نعم ، يا رسول الله، فقال : حَدِّثْني كيف قَتَلْتَ حمزة ؟ فَحَدَّثْتُهُ فلما ، فَرَغْتُ من حديثي قال : وَيْحك ! غَيِّبْ عني وَجْهَك ، اللهم هذا قَسْمي فيما أمْلك ، فأنا أملكُ أنْ أعْفُوَ عنه ، ولكن لا أمْلكُ أنْ أراه ! قتَلَ أحبَّ الناس إلى النبي صلى الله علليه وسلم ، قال : فَكُنْتُ أتنكَّبُ طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيثُ كان ، أيْ لا أُواجِهُهُ حتى لا يراني حتى قبضه الله إليه قال فلما خرجَ المُسلمون إلى مُسَيْلَمة الكَذاب - هذه بِتِلْك - صاحِبِ اليمامة خَرَجْتُ معهم وأخذْتُ حَرْبتي التي قَتَلْتُ بها حمزة فلما الْتقى الناسُ رأيْتُ مُسَيْلمة الكذاب قائِماً في يده السَّيْف وتهيَّأتُ له وهَزَزْتُ حَرْبتي حتى إذا رَضيتُ منها دَفَعْتُها عليه فَوَقَعَتْ فيه ، فإنْ كُنْتُ قد قتلْتُ خير الناس بحربتي هذه ؛ وهو حَمْزة ، فإني لأرْجو اللهَ أنْ يغفر لي إذْ قَتَلْتُ بها شرَّ الناس مُسيْلَمَة ! فهو قتل بهذه الحربة خير الناس وشرَّ الناس ؛ فلعلَّ هذه بِتِلْك .
أنا قرأتُ بعض التاريخ الذي يتحدَّثُ عن فتْح القُدْس في عهْد الصَلِبيِّين ، فالصَلِبِيُّون قتلوا في القدس سبْعين ألف مُسلمٍ في يومٍ واحد ، ذبحوهم ذَبْحاً ، فلما فتح القُدْس سيّدنا صلاح الدِّين عفا عنهم جميعاً وكان أرحم بهم من أنفسهم ؛ هذا هو المؤمن ، أنا أتصَوَّر أنَّ المؤمن لو ملك عَدُوَّهُ لا يسْتطيعُ أنْ يفعل معه شيئاً إلا ِوَفْقَ منهج الله ، بِالحَرب هناك قَتْلٌ ، ولكن بعد أنْ يسْتسلم فهناك أخْلاقٌ شَرَعَها الله لنا ، فَسَيِّدُنا النبي لما أسلم وَحْشي عفا عنه ، ولكن قال له : غَيِّب عني وَجْهَك ، فماذا فعل هو ؟ قتل مُسَيْلمة بعد سيّدنا حمزة .
نُتابِعُ الحديث ؛ قال : لقد أمرتْ هندُ بنت عُتبة وَحْشِياً أنْ يأتِيَها بِكَبِد حمزة ، واسْتجاب الحَبَشِيُّ لِهذه الرغبة المذعورة ، وعندما عاد بها إلى هند ، كان يُناوِلُها الكبد بِيُمْناه ، ويتلقى قِرْطها وقلائِدها بِيُسْراه ، مُكافَأةً له على إنْجاز هذه المُهِمَّة ، النبي عليه الصلاة والسلام حينما رأى سيّدنا حمزة قد قُتِل ومُثِّل به قال : لن أُصابَ بِمِثْلِك أبداً ! أيْ هذه أكبرُ مصيبةٍ في حياتي ، هكذا كان وفاءُ النبي وحُبُّهُ صلى الله عليه وسلَّم ، وما وَقَفْتُ مَوْقِفاً قطُّ أغيَظ من مَوْقِفي هذا ، وتَرْوي بعضُ الكُتُب أنَّ أصْحابه تَمَنَّوا أنْ يُمَثِّل بقتلى قُرَيْش ، فقال عليه الصلاة والسلام كما في حديث بُرَيْدَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا فَقَالَ اغْزُوا بِسْمِ اللَّهِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا *
[ رواه الترمذي ]
وَكَرِهَ أَهْلُ الْعِلْمِ الْمُثْلَةَ .
فالنبي والمُسلمون لهم أخلاق رفيعة .
حينما انْصَرَفَ النبي من مَوْقِعة أُحد مرَّ على نِساءٍ من بني عبد الأشْهل يبْكينَ شُهَداءَهنّ ، فقال عليه الصلاة والسلام من فَرْط حنانه وحُبِّه : لكنَّ حمزة نام وما بُكِيَ له ، فَهِم أصْحابه أنه لا بد من أن تأتي النِّساء لِتَبْكي حَمْزة ، فلما سمع النبي البُكاء قال : ما إلى هذا قَصَدْتُ ، اِرْجِعْنَ يرْحَمْكُنَّ الله ، فلا بُكاء بعد اليَوْم ! كالنواح ، وضرب الوجه ، وتمْزيق الثياب ... أذكر أنني كُنتُ في جنازة فَخَرَجَتْ زوْجَةُ ذاك الشخْص المُتوفَّى إلى الطريق تُوَلْوِل حاسرة متكشفة ؛ هكذا بلا شيءٍ ، كل هذا من فِعْل الجاهِلِيَّة ، أمّا مَوْتُهُ ، واسْتِشْهادُه ... كُلُّ هذا قضاءٌ وقدَر ، والإنسانُ كلما ارْتقى إيمانه انضبطتْ أحْزانه ؛ يبْكي ويتألَّم ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ *
[رواه البخاري]
على هامِش هذه القِصّة عبرةٌ تَعْرِفونها جميعاً ؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما وقف على قَبْره قال هذه الكَلِمة : رَحْمَةُ الله عليك ، فإنَّك كُنتَ كما عَلِمْتُ - اُنظر أيها المؤمن إلى الأدب مع الله ، المؤمن لا يُزَكي على الله أحداً - وَصولاً للرحِم ، فَعولاً للخَيْرات .
مرَّةً حَضَرْتُ جنازَةً ، قام أحدُ العلماء يُؤبِّنُهُ - وهذا الأخ من أهل اليسار ، أيْ من أهل الغِنى وأحسبه صالحاً ، وقد تأثَّرْتُ لما قاله هذا العالم قال : إنَّ أخاكم أبا فلان كان مُؤذِّناً فَتَرَحَّموا عليه ؛ خمسةٌ وسِتونَ عاماً عاشَها هذا المتوفى ، ألم يسْتطِع هذا العالم أنْ يتكَلَّم عنه إلا بهذا ؟! فقُلْتُ : هذا دليل على أنَّ الإنسان مهما كان يمْلك ، ومهما قدَّم أثناء حياته ، فإذا وافَتْهُ المَنِيَّة لا يتكلَّمون عنه أكثر من خمس دقائق ، فهذه الدنيا فانِيَة ، وبُطولتنا فيها أنْ ندعَ عملاً صالِحاً نَرْقى به إلى الله .
والحمد لله رب العالمين


الكتاب: سيرة خمسين صحابي
المؤلف: الدكتور محمد راتب النابسلي
المصدر: الشاملة الذهبية

    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

 


بحث عن:


الساعة الآن 07:20 AM



Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
By Media Gate - https://mediagatejo.com