الدرس 33/50 ، سيرة الصحابي : النعمان بن مقرن المزني ، لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
تفريغ : المهندس عبد العزيز كنج عثمان .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الأكارم ... مع الدرس الثالث والثلاثين ، من دروس سيرة صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين .
وصحابي اليوم ، سيدنا النعمان بن مقرِّنٍ المُزني ، فقد كانت قبيلة مُزينة ، تتخذ منازلها قريبةً من يثرب ، والتي أضحتْ بعد ذلك المدينة المنورة ، مدينة رسول الله صلى الله علية وسلَّم، على الطريق الممتدة بين المدينة ومكة ، وكان النبي عليه الصلاة والسلام قد هاجر إلى المدينة ، وجعلت أخباره تصل تباعاً إلى مزينة ، مع الغادين والرائحين ، لأن مزينة كانت على الطريق ، بين مكة والمدينة .
فأخبار هجرة النبي ، وأخبار بزوغ هذه الدعوة ، وأخبار من أسلم، ومن عارض الإسلام ، كانت تطرق مسامع هذه القبيلة ، لكن هذه القبيلة ، لا تسمع إلا خيراً عن رسول الله وأصحابه .
لقد كانتْ منصفة ، والمؤمن من صفاته أنه منصف ، ينصف الناس من نفسه ، وحينما يكابر الإنسان ، ويجحد ، ويبالغ ، ويمدح مَن كان قريباً منه ، ويحابي ، ويذمُّ بلا سبب ، حسدا ، وغيرةً ، وعداوةً ، إذا فعل ذلك فقد ابتعد عن إيمانه ، وعن إسلامه ، بُعْدَ الأرض عن السماء ، فأبرزُ صفة في المسلم والمؤمن أنه منصف ، ينصف الناس من نفسه ، أما الذي تراه يبالغ ، يجحد ، يطمس ، ويسلِّط الأضواء على من يحبُّه ، ويحجبها عمن لا يحبُّه ، فهذا إنسان بعيد عن مرضاة الله عزَّ وجل ، هناك أمهات يمدحن بناتهن مدحاً غير معقول ، فإذا جاءت الكنّةُ إلى بيتهم حوسبت حساباً عسيراً ، وسُلِبت كلُّ إمكانياتها ، وأُبْرزت أخطاؤها ، فهذا جحود ، وهذا ليس إسلاماً ولا إيماناً ، فهذا ابني أمدحه ، وابن الآخرين أذمُّه ، فلست حينئذٍ منصفاً ، ولست مؤمناً ، وإنّ الله يحب المنصف العادل ، ويحب الذي يقول الحق ، ولو كان مراً .
هؤلاء سرُّ إسلامهم ، وسرّ قربهم من الله عزَّ وجل ، وسبب سرعة إسلامهم ، وسبب دخول الإيمان إلى قلوبهم ، وسبب إقبالهم على هذا الدين الجديد ، أنهم أنصفوا ، ومن خلال أخبار الغادين والرائحين ، ما سمعوا إلا خيراً عن رسول الله وعن أصحابه ، وفي ذات عشيةٍ ، جلس سيِّد القوم ، الصحابي الجليل الذي ندرس عظمة موقفه في الإسلام ، جلس سيِّد القوم ، النعمان بن مقرن المزني في ناديه مع إخوته ، ومشيخة قبيلته ، فقال - واسمعوا هذا الكلام أيها الإخوة ، ودققوا فيه - .
قال : يا قوم : واللهِ ما علِمنا عن محمدٍ إلا خيراً ، ولا سمعنا من دعوته إلا مرحمةً ، وإحساناً ، وعدلاً ، فما بالنا نبطئ عنه ، والناس يسرعون إليه ؟ لماذا ؟
مرة ثانية ، والله ما علمنا عن محمدٍ إلا خيراً ، ولا سمعنا من دعوته إلا مرحمةً ، وإحساناً، وعدلاً ، فما بالنا نبطئ عنه ، والناس يسرعون إليه ؟.. أي بالتعبير الدارج ألا نغار ؟ إنسان أقبل على هذا الدين ، أقبل على ربه ، انضوى تحت لواء المؤمنين ، استقام على منهج الله ، بذل كلِّ شيءٍ في سبيل الله ، تألَّقت روحه ، أشرقت نفسه ، اطمأن قلبه ، وأنت جاره ، صديقه ، أخوه ، زميله ، ألا تغار منه ؟ فما بالنا نبطئ عنه ، والناس يسرعون إليه ؟ ما سمعنا من دعوته إلا مرحمةً ، وإحساناً ، وعدلاً ، وهكذا قال بعض العلماء :
الشريعة رحمةٌ كلُّها ، عدلٌ كلُّها ، مصلحةٌ كلُّها ، فأية قضيةٍ خرجت من الرحمة إلى القسوة، من العدل إلى الجور ، من المصلحة إلى المفسدة ، فليست من الشريعة ، ولو أُدخلت علّيها بألف تأويلٍ وتأويل ، شرعنا رحمةٌ ، وعدلٌ ، ومصلحةٌ ، وإحسان ، هذا هو الشرع .
أتقنت العبادات ولك إساءة ، فلستَ مؤمنًا ، ولا مسلمًا ، أتقنت العبادات وعندك تقصير في الحقوق ، أتقنت العبادات ولديكَ ظلم ، وجحود ، وإجحاف ، ومحاباة ، فلست مؤمنًا ، ولست مسلمًا .
ثم قال النعمان : أمّا أنا فقد عزمتُ على أن أغدوَّ عليه إذا أصبحت ، فمَن شاء منكم أن يكون معي فليتجهَّز .
يا إخوان ... إذا للواحد مكانة ، معلم ، طبيب ، مدير مستشفى، مدير معمل ، وقام ويصلي أمام عمَّاله ، فهو قدوة بصدق ، وإذا جاءت امرأةٌ فغضَّ بصره عنها أمام عماله ، هل تعلم أن كلَّ هؤلاء يكبرون هذا السلوك ؟ فكلما علا شأنك ، وكبرت ، وكلما كان حجمك أكبر ، وقيادتك أكبر ، فأعمالك الصالحة مضاعفة بالثواب بحسب كلِّ مَن اتبعك فيها ، وكلّ واحد اقتنع بها لأنك فعلتها فكذلك ، الآن حتى يُقنعوا الناس ، وطبعاً مع الفارق الكبير ، حتى يقنعوا الناس بشراء سلعة معينة، يطلبون من نجوم الفن أن يستعملوها على مرأى من الناس ، يأخذون لهم صورًا في المجلات ، وكذا وكذا ، لأن قدوة الناس اليوم الفنانون ، نحن قدوتنا أصحاب رسول الله ، قل لي بمَن تقتدي ، أقلْ لك من أنت ،مَن هو الشخص الذي تتمنى أن تكونه ، أقل لك من أنت ؟ من هو الشخص الذي تحلم أن تكون مثله ، أقلْ لك من أنت ، المؤمن قدوته أصحاب رسول الله ، أو كبار المؤمنين والصدِّيقون ، هؤلاء قدوته .
قال لقومه : أمّا أنا فقد عزمت على أن أغدوَ عليه إذا أصبحت ، فمن شاء منكم أن يكون معي فليتجهَّز ، وكأنما مسَّت هذه الكلمات وتراً مرهفاً في نفوس القوم ، فما إن طلع الصباح حتى وجد إخوته العشرة ، وأربعمائة فارسٍ من فرسان مُزينة قد جهَّزوا أنفسهم للمضي معه إلى يثرب ، للقاء النبي صلوات الله وسلامه عليه ، والدخول في دين الله ، أنظر إلى القدوة ، لذلك في القرآن آية تشير إلى القدوة ، فهل تعرفوها ؟ قال تعالى :
( سورة الأحزاب ، الآية " 30 " )
وفي آية ثانية يقول تعالى :
( سورة الأحزاب ، آية " 31 " )
نساء النبي ، إن أحسنَّ ، يُؤْتَيْنَ أجورهن مرتين ، وإن أسأن يعاقبن مرتين ، لذلك سيدنا عمر كان إذا أراد إنفاذ أمرٍ جمع أهله وخاصَّته ، وقال : ((إني قد أمرت الناس بكذا ، ونهيتهم عن كذا ، والناس كالطير ، إن رأوكم وقعتم وقعوا ، وايم الله لا أوتينَّ بواحدٍ وقع فيما نهيت الناس عنه ، إلا ضاعفت له العقوبة ، لمكانه مني)) .
فصارت القرابة من عمر مصيبة ، وحينما ترقى إلى مستوى قيادي فلك حساب مضاعف ، فإن أطعتَ الله عزَّ وجل فلك أجرُّ طاعته ، ولك أجرُ مَن اقتدى بك ، ولك أجرُ مَن قلَّدك ، ولك أجرُّ من رأى هذا العمل عظيمًا ، واقتدى به ،يقول الطلابُ مثلاً : أستاذنا صلى في المسجد ، فهذا قدوة صارخة ناجحة ، فيقتدون به ولو بعد حين ، خرجت من المدرسة ، وقت الظهر ، فدخلتَ إلى المسجد ، وصلَّيت على مرأى من طلاَّبك ، فهذا شيء جميل ، ونبراسُ هدى ، وقدوة صالحة.
لكن النعمان بن المقرِّن المزني فقد استحيا أن يَفِدَ مع هذا الجمع الحاشد على النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يحمل له وللمسلمين شيئاً يقدِّمه ، وفي المسلمين فقراء ، وذو حاجة ، فأراد أن يقدِّم للنبي بعض الهدايا ، لكن السنة العجفاء المجدبة التي مرَّت بها مزينة لم تترك لها ضرعاً ولا زرعاً ، فطاف النعمان ببيته ، وبيوت إخوته ، وجمع كلما أبقاه القحط من غنيمات ، وساقها أمامه، وقدم بها على النبي صلى الله عليه وسلم ، وأعلن هو ومن معه إسلامهم بين يديه .
جمع بعض الغنيمات والشياه ، وقدم بهم على النبي صلى الله عليه وسلم ، مع عشرةٍ من إخوته ، ومع أربعمائة فارسٍ من مزينة ، هذا إسلام جماعي ، وبالجملة ، النبي عليه الصلاة والسلام حينما رأى ذلك سُرَّ أشدَّ السرور ، واهتزت يثربُ من أقصاها إلى أقصاها ، فرحاً بالنعمان بن مقرِّن وصحبه ، إذْ لم يسبق لبيتٍ من بيوت العرب أنْ أسلم منهم هذا الجمع الغفير ، وأسلم أحد عشر أخاً من أبٍ وأمٍ واحدة ، ومعهم أربعمائة فارس ، سرَّ النبي عليه الصلاة والسلام بإسلام النعمان أبلغ السرور ،وتقبَّل الله عزَّ وجل غُنيماته ،وأنزل فيه قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة:
( سورة التوبة )
أخوك فقير قدَّمت له شيئًا ، قد تغديه عندك مثلاً ، قدمت شيئًا ممّا عندك ، فالله يتقبّله ، وإذا قدّم إنسان إلى أخيه هدية بِنِية تمتين العلاقات ، وبِنِية إكرامه ، وبِنِية مسح شيء من الضغينة ، هذه الهدية يتقبلها الله عزَّ وجل قبل أن يتقبَّلها ، وهكذا فلْيَكُن المؤمن .
أحياناً يقدِّم أخٌ خدمةً إلى المسجد ، قد يساهم في حلِّ قضيةٍ ، أو يقضي حاجة أخيه ، أو يحل مشكلة عويصة ، أو يسدّ نقصًا ، أو يقوِّي ضعفًا ، أو يطفئ فتنةً ، أو يزيل نفورًا ، فتجد هذا الذي يدعو إلى الله يمتلأ قلوبَ الآخرين امتناناً له .
انضوى النعمان بن مقرن المزني تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم ، وشهد معه غزواته كلها ، غير وانٍ ، ولا مقصِّر .
ولما آلت الخلافة إلى سيدنا الصديق وقف معه هو وقومه من بني مزينة وقفةً حازمةً ، كان لها أثرٌ كبير في القضاء على فتنة الردة .
وكانت الأضواء مسلطة على موقف سيدنا النعمان في موقعة القادسية ، وفيما تلاها من وقعات ، ومنها وقعة نهاوند ، فكل إنسان له مجال تفوَّق فيه يُذكَر به ، فلمَّا صارت الأمور إلى الفاروق رضي الله عنه ، وقد صار للنعمان بن مقرِّن في عهده شأنٌ ما يزال التاريخ يذكره بلسانٍ نديٍ بالحمد ، رطبٍ بالثناء ، فقُبَيْل القادسية أرسل سعدُ بن أبي وقَّاص قائد جيوش المسلمين وفداً إلى كسرى يزدجرد ، برئاسة النعمان بن مقرن ، ليدعوه إلى الإسلام ، وهنا وقفة لا بدَّ منها .
أيها الإخوة الأكارم ... كما يقول العامَّة : الإسلام ليس دين السيف ، الإسلام دين العقل ، بل الإسلام دين المنطق ، الإسلام دين الدعوة السلمية ، فلا يمكن أن يشهر السيف من قبل المسلمين، قبل أن يُدعَى الكفَّار إلى الإسلام دعوةً هادئةً مبنيةً على التبيين ، والتوضيح ، والتبليغ ، فإذا رفض هذا الكافر أن يسلم ، وأن ينضوي تحت لواء المسلمين ، وأن يحميه المسلمون ، لأنّ عقيدتهم لا تسمح له أن يقاتل مع المسلمين ، لذلك تؤخذ منه الجزية ، وإذا رفض أن يسلم ، ورفض أن يدفع الجزية ، فعندئذٍ يقاتل ، لتكون كلمة الله هي العليا .
لذلك أهل سمرقند فتحت بلادهم فتحاً عسكرياً ، ثم علموا أن فتحهم ليس شرعياً ، فأرسلوا وفداً خفيةً إلى سيدنا عمر بن عبد العزيز ، وأطلعوه على ما جرى وعلى طريقة فتح بلادهم ، فما كان مِن سيدنا عمر ، كما يروي التاريخُ ، إلاّ أن أرسل قصاصة ورق ، كتب فيها ما يلي :
إلى فلان الفلاني ، قائد جيوش المسلمين في سمرقند ، ما إن يصلك كتابي هذا ، فاخرجْ من سمرقند ، وادعُ أهلها إلى الإسلام ، فإن أبَوْا فأدعُهم لدفع الجزية ، فإن أبَوْا فقاتلهم ، وافتح بلادهم مرةً ثانية .
هذا الوفد الذي عاد ومعه تلك قصاصة ، فيها أمرٌ إلى قائد جيش أن ينسحب من بلدٍ احتلها ، وانتصر على أهلها ، ودانتْ للمسلمين ، لم يصدِّق ، فلما قُدِّمت هذه القصاصة إلى قائد الجيش قبَّلها ، وأمر جيشه بالانسحاب ، فلما رأوا ذلك ، قالوا : نحن أسلمنا ، وابقَوْا على ما أنتم عليه .
ما هذا الدين ؟ إنسان فتح بلادًا بالحرب ، وبالضحايا ، ثم يأتيه أمرٌ على قصاصةٍ من خليفة المسلمين كي ينسحب ، لأن هذا الفتح ليس شرعياً .
فسيدنا سعد بن أبي وقاص ، قائد جيوش المسلمين ، قبل أن يحارب كسرى يزدجرد ، لا بدَّ أن يدعوه إلى الإسلام ، فإن أبى ، دعاه إلى دفع الجزية ، فإن أبى ، يقاتله ، فإذا قاتله ، فليس المقصود أن يبيده ، المقصود أن يأسره ، فلعله يسلم بطريقة المعاملة إنْ لم تفلحْ بطريقة الحوار ، هذا هو منهج الإسلام في نشر الدعوة .
فأرسل له وفدًا على رأسه النعمان بن مقرَّن ليدعوه إلى الإسلام ، ولما بلغ الوفد عاصمة كسرى في المدائن ، استأذنوا بالدخول عليه ، فأذن لهم ، ثم دعا الترجمان فقال له : سَلْهُمْ ما الذي جاء بكم إلى ديارنا ، وأغراكم بغزونا ؟ لعلكم طمعتم بنا ، واجترأتم علينا ، لأننا تشاغلنا عنكم ، ولم نشأ أن نبطش بكم ؟ هذا كلام كسرى للمترجم ، ليوجِّهه لسيدنا النعمان بن مقرن المُزني .
فالتفت النعمان بن مقرن إلى من معه ، انظروا إلى أدبه ، وإلى تواضعه ! وقال : إن شئتم أجبته عنكم ، وإن شاء أحدكم أن يتكلم آثرتُه عليَّ بالكلام ، هذا كلام النعمان ، إن شئتم تكلَّمت عنكم ، وإن أراد أحدكم الكلام تكلَّم عني ، فماذا تروْن ؟ قالوا جميعاً : بل تكلَّم أنت ، لأنه رئيس وفد ، وما اختاره سيدنا سعد إلا على علم ، قالوا : بل تكلم ، والقاعدة ، إذا عزَّ أخوك فهن أنت ، فهي ليست قضية منافسة ، أنت مع أربعة أو خمسة ، جئتم لمقابلة شخص ، وأحدكم طليق اللسان ، وقوي الحجة ، فإن أراد أن يتكلم فاتركْه يتكلم ، لكنّه إنْ قال لك : أعِنِّي ، فأَعنْهُ ، أمّا أن أنافسه، وأُسْكِتَه ، أو أن أتكلم أكثر منه ، لكي أثبت موجودية ، فليس هذا من أخلاق المؤمن .
قال لهم : إن شئتم أجبته عنكم ، وإن شاء أحدكم أن يتكلم آثرته بالكلام ، فقالوا : بل تكلم ، ثم التفتوا إلى كسرى ، وقالوا : هذا الرجل يتكلَّم بلساننا ، فاستمع إلى ما يقول .
انظُرْ إلى النظام ، فالمجتمع المسلم له أمير ، وإذا كنتم ثلاثةً في نزهة فأمِّروا أحدكم ، هذا يقول : يجب أن ننام ليلة ثانية ، هذا يجيبه : لا يجب أن ننام ، وذاك يقول : لا نتغدى الآن ، فتعُمّ الفوضى ، ويقع الخلاف ، لكنّ الأمير إنْ أمر أن ننام ليلة ثانية فأمره مسموع .
فحِمَد النعمانُ الله ، وأثنى عليه ، وصلى على نبيِّه صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : إن الله رحمنا ، فأرسل إلينا رسولاً يدلُّنا على الخير ، ويأمُرنا به ، ويعرِّفنا الشرَّ ، وينهانا عنه ، ووعدنا ، من يجبه فيما دعانا إليه ، بخيري الدنيا والآخرة .
إنّه وصف رائع للنبي عليه الصلاة والسلام .
واللهِ إنه كلام مختصر مفيد ، جامع مانع .
فما هو إلا قليل ، حتى بدَّل الله ضيقنا سَعَةً ، وذلَّتنا عزةً ، وعداواتنا ، إخاءً ومرحمةً .
والله كلامٌ بليغٌ بليغ ، وهو موجزُ فحوى دعوة النبي عليه الصلاة والسلام ، توضيح الخير ، والأمر به ، توضيح الشر ، والنهي عنه ، ووعدنا إن أجبناه إلى ما دعانا إليه ، أن يعطينا الله خيري الدنيا والآخرة ، فما هو إلا قليل ، حتى بدل الله ضيقنا سعةً ، وذلتنا عزةً ، وعداواتنا ، إخاءً ومرحمةً
أليس المسلمون في أمسِّ الحاجة ، وهم في ضيقٍ شديد اليوم ، وهم في ذلةٍ ما بعدها ذلة ، وهم في عدواةٍ فيما بينهم ما بعدها عداوة ، أليس المسلمون في أمسِّ الحاجة ، لأن يهتدوا بهدي النبي عليه الصلاة والسلام ؟ فما هو إلا قليل ، حتى بدَّل الله ضيقنا سَعَةً ، وذلَّتنا عزةً ، وعداواتنا ، إخاءً ومرحمةً .
إذًا المؤمنون متراحمون ، متآخون ؛ أمّا مجتمع الضغينة ، والحقد ، والحسد ، والغيرة ، والبغضاء ، والطعن ، والتبخيس ، فهذا مجتمعٌ نتن ، وهذا مجتمعٌ ليس مجتمعاً مسلماً ، هذا مجتمعٌ لا نزهو به ، ولا نفتخر به أمام أعداء الإسلام .
وقد أمرنا أن ندعوَ الناس إلى ما فيه خيرهم ، وأن نبدأ بمن يجاورنا .
سبب مجيئي إليكم ، أن الإسلام أمرنا أن ندعوَ إليه ، وأن نبدأ بمَن هو في جوارنا ، إنسان ما تعلَّم في جامعة ، ولا في مدرسة ، ابن الصحراء ، لكن الإيمان أطلق لسانه ، لكنّ حبَّ الله عزَّ وجل جعل كلامه موزوناً ، دقيقاً ، فاسمعوها مرة ثانية :
قال : إن الله رحمنا ، فأرسل إلينا رسولاً يدلنا على الخير ، ويأمرنا به ، ويعرِّفنا الشرَّ ، وينهانا عنه ، ووعدنا إن أجبناه إلى ما دعانا إليه أن يعطينا الله خيري الدنيا والآخرة ، فما هو إلا قليل حتى بدّل الله ضيقنا سعةً ، وذلتنا عزةً ، وعداواتنا ، إخاءً ومرحمةً ، وقد أمرنا أن ندعوَ الناس إلى ما فيه خيرهم ، وأن نبدأ بمن يجاورنا ، فنحن ندعوكم إلى الدخول في ديننا ، وهو دينٌ حَسَّنَ الحسَنَ كلَّه ، وحضَّ عليه ، وقبَّح القبيح كلَّه ، وحذَّر منه ، وهو ينقل معتنقيه من ظلام الكفر وجوره ، إلى نور الإيمان وعدله .
الحمد لله الذي أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم ، إلى أنوار المعرفة والعلم ، الحمد لله الذي أخرجنا من وحول الشهوات إلى جنات القربات ، ينقل معتنقيه ، من ظلام الكفر وجوره ، إلى نور الإيمان ، وعدله ، فإن أجبتمونا إلى الإسلام ، خلَّفنا فيكم ، كتاب الله ، وأقمناكم عليه ، على أن تحكموا بأحكامه ، ورجعنا عنكم ، وتركناكم ، وشأنكم .
صرتُم إخواننا ، لكم مثل ما لنا ، وعليكم مثل ما علينا ، إن أجبتمونا إلى الإسلام خلَّفنا فيكم كتاب الله - نبقي عندكم كتاب الله - ومن يعلِّمكم إياه ، وأقمناكم عليه ، على أن تحكموا بأحكامه ، ورجعنا عنكم ، وتركناكم وشأنكم ، فإن أبيتم الدخول في دين الله ، أخذنا منكم الجزية ، وحميناكم .
يعني أنّ الجزية بدل نقدي .
فإن أبيتم إعطاء الجزية حاربناكم .
هذا منهج .
فاستشاط يزدجرد غضباً ، وغيظاً مما سمع وقال : إني لا أعلم أمةً في الأرض كانت أشقى منكم ، ولا أقلَّ عدداً ، ولا أشدَّ فرقةً ، ولا أسوأ حالاً .
من أنتم ؟ هذه هي الحقيقة ، كنا في الجاهلية كذلك ، مثلاً مدَّ رجلٌ شريف رجله في قومه ، فقال : من كان أشرف مني فليضربها ، فضربها رجل ، ونشبت حربٌ دامت عشر سنين ، أكلت الأخضر واليابس ، كان الرجلُ منهم يضع ابنته في التراب ، وهي حية ، فتصور طفلة مثل الوردة ، عمرها سنة ونصف ، متعلقة بأبويها ، فأخذها أبوها ، وحفر لها حفرة ، ثم وضعها في التراب ، و ردمه فوقها ، هذا ليس بشَرًا ، إنه وحشُ فلاةٍ حقًّا .... هذا ما كانوا عليه قبل الإسلام.
( سورة التكوير )
كان الرجال العشرة يشتركون على امرأة واحدة ، فيتزوجوها بالتناوب ، وإذا جاءها مولود، اختارتْ منهم واحدًا فنسبَتْه إليه ، وصار له أبًا ، إنها جاهلية بأتمّ معنى الكلمة .
قال كسرى : إني لا أعلم أمةً في الأرض كانت أشقى منكم ، ولا أقل عدداً ، ولا أشدَّ فرقةً، ولا أسوأ حالاً ، لكن الإسلام رفع هذه الأمة ، قال الله عزَّ وجل :
( سورة آل عمران : آية " 103 " )
حوار طويل ، وقد كنا ، نَكِل أمركم إلى ولاة الضواحي ، إذا كان الشيء قليل الأهمية ، يوكلون مساعدًا ، أو مدير ناحية ، أو مدير المنطقة ، أما إذا كان البلد مهِمًّا فيبعثون أرقى وزير، قال : وقد كنا نكِل أمركم إلى ولاة الضواحي ، فيأخذون لنا الطاعة منكم ، ثم خفف شيئاً من حدته، وقال : فإن كانت بكم الحاجة ، أي الفقر ، هي التي دفعتكم إلى المجيء إلينا ، أمرْنا لكم بقوتٍ إلى أن تخصِب دياركم ، وكسونا سادتكم ، ووجوه قومكم ، وملَّكنا عليكم ملكاً من قبلنا ، يرفق بكم.
كلام استعلاء ، أنا أعتقد أنكم جئتم لأنكم جماعة فقراء ، فسوف نطعمكم ، ونكسوكم ، ونولِّي عليكم ملِكاً من قِبَلنا يرفق بكم .
فردَّ عليه رجل من الوفد رداً أشعل النار من جديد ، فغضب يزدجرد ، قال : لولا أن الرسل لا تُقْتَل لقتلتكم ، يبدو أنه استفزّه ، قوموا فليس لكم شيءٌ عندي ، وأخبِروا قائدكم أني مرسِلٌ إليه رستم ، حتى يدفنه ، ويدفنكم معاً في خندق القادسية ، لقد غضب ، وأنتم مصيركم القتل في خندق القادسية .
طبعاً هم في بلاده ، وهم ضعاف جداً .
ثم أمر فأتي له بحِملٍ من التراب ، وقال لرجاله : حمِّلوه على أشرف هؤلاء ، وسوقوه أمامكم ، على مرأىً من الناس ، حتى يخرج من أبواب عاصمة ملكنا ، فقالوا للوفد ، من أشرفكم؟ يريدون أنْ يحملوه ترابًا ، ويمشوا به في الطريق ، كي يذلَّونه ، لأنهم في نظره أسرى عنده ، انظر إلى التضحية ، فبادر إليه عاصم بن عمر ، أحد صغار الوفد ، فقال له : أنا أشرفهم، فحمَّلوه عليه ، حتى خرج من المدائن ، ثم حمل الترابَ على ناقته ، وأخذه معه ، لسعد بن أبي وقَّاص ، وبشّره بأن الله سيفتح على المسلمين ديار الفرس ، ويملِّكهم تراب أرضهم، ثم وقعت وقعة القادسية ، واكتظ خندقها بجثث آلاف القتلى ، ولكنهم لم يكونوا من جند المسلمين ، إنما كانوا ، من جنود كسرى .
انظر إلى هذه المواقف ما أجلَّها ، أحد أعضاء الوفد الصغار ، توقيراً لرئيسه ، ولبقية الوفد، قال : أنا أشرفهم ، احمله عليّ ، وكان هذا الحملُ وسامَ شرفٍ علَّقه على صدره .
حينما هُزِم الفرس في معركة القادسية شرَّ هزيمة ، جمعوا جموعهم ، وجيَّشوا جيوشهم ، حتى اكتمل لهم ، مائةٌ وخمسون ألفاً من أشدَّاء المقاتلين ، للمعكرة الثانية ، معركة نهاوند ، وتفاصيل القادسية تعرفونها ، فلما وقف الفاروق على أخبار هذا الحشد العظيم ، عزم أن يمضي إلى مواجهة هذا الخطر الكبير بنفسه ، لكن وجوه المسلمين ، ثنوه عن ذلك ، وأشاروا عليه ، أن يُرسل قائداً يعتمد عليه ، في مثل هذا الأمر الجلل ، فقال عمر : أشيروا عليّ برجلٍ ، لأولِّيَه ذلك الثغر ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، أنت أعلم بجندك ، فقال : واللهِ لأولِّيَنّ على جند المسلمين رجلاً يكون إذا التقى الجمعان أسبقَ من الأسنة ، إنه النعمان بن مقرن المزني ، صار سيدنا النعمان قائد معركة نهاوند ، فقالوا: هو لها ، أي واللهِ أصبتَ ، قد كان النعمانُ رجلاً كألْف ، قالوا : هو لها ، فكتب إليه يقول :
مِن عبد الله عمر بن الخطاب ، إلى النعمان بن مقرن ، أما بعد.. فإنه قد بلغني أن جموعاً من الأعاجم كثيرةً ، قد جمعوا لكم بمدينة نهاوند، فإذا أتاك كتابي هذا ، فسِرْ بأمر الله ، وبعون الله ، وبنصر الله ، بمَن معك مِن المسلمين ، ولا توطئهم وعراً فتؤذيهم .
هناك أسلوب في قيادة الجيش ، إنْ أُتعِب الجندي فهذا غلط ، يجب أن تريحه ، وأن تعلي مكانته ، وأن ترفع معنوياته ، وأن توفِّر كلَّ طاقته للمعركة ، لا أن تجهده قبل المعركة .
قال له : ولا توطئهم وعراً ، فتؤذيهم ، فإن رجلاً واحداً من المسلمين ، أحبُّ إلي من مائة ألف دينارٍ ، والسلام عليك .
رجل واحد من المسلمين أحبُّ إليَّ من مائة ألف دينار ، تفرح بالجزية ، تضحِّي لي بمسلم ، والقائد لا ينجح في الحرب إلا إذا شعر الجندي أن حياته غالية جداً على قيادة الجيش ، أما نحن فنقول : إنّ عندنا أعدادًا كبيرة لا يهمنا الأمر ، هذه بعض المجتمعات التي رفعت شعارَ لا إله ، من عقيدتها في الحرب أنها تكسح الألغام بالقوى البشرية ، أي إنْ وُجِد حقل ألغام أُرسِلت سرية، فيتفجَّر الألغام بها ، فيتمّ كسحها ، فإذا شعر الجندي أنه رخيص على قيادته ، وليس له قيمة فلن يحارب على الإطلاق ، أما إذا شعر أنه غالٍ جداً على قيادته ، والقيادة مستعدة لبذل كل شيء لإنقاذ حياته ، فحينئذٍ يكون شجاعاً ، هذه أسرار قوة الجيش ، قال له : إن رجلاً واحداً من المسلمين ، أحبُّ إليَّ من مائة ألف دينارٍ ، والسلام عليك .
هبَّ النعمان بجيشه للقاء العدو ، وأرسل أمامه طلائع من فرسانه ، لتكتشف له الطريق ، فلما اقترب الفرسان من نهاوند توقَّفت خيولهم ، فدفعوها فلم تندفع ، فنزلوا عن ظهورها ، ليعرفوا ما الخبر ؟ فوجدوا حوافر الخيل ، فيها شظايا من الحديد ، تشبه رؤوس المسامير ، فنظروا إلى الأرض ، فإذا العجم قد نثروا في الدروب المؤدية ، إلى نهاوند حسكَ الحديد ، ليعوِّقوا الفرسان والمشاة عن الوصول إليهم .
أخبرَ الفرسانُ النعمان ، بما رأوا ، وطلبوا منه أن يمدَّهم برأيه .
ونرجوا التوجيه ، أي تفضل ، وتصرف ، فأنت قائد ، الطريق أصبح غير سالك ، كله فيه أشواك الحديد ، وهذه الأشواك دخلت في سنابك الخيل ، وأعاقتها عن الحركة .
فأمرَهم أن يقفوا في أمكنتهم ، وأن يوقدوا النيران في الليل ، ليراهم العدو ، عند ذلك ، يتظاهرون بالخوف منه ، والهزيمة أمامه ، ليغروه باللحاق بهم ، وإزالة ما زرعه من حسك الحديد ، فنجحت الخطةُ ، وجازت الحيلة على الفرس ، فما إن رأوا طليعة جيش المسلمين تمضي منهزمةً أمامهم ، حتى أرسلوا عمَّالهم ، فكنسوا الطرق من الحسك ، فكرَّ عليهم المسلمون ، واحتلوا تلك الدروب ، وعسكرَ النعمانُ بن المقرن المزني بجيشه على مشارف نهاوند ، وعزم على أن يباغت عدوه بالهجوم ، فقال لجنوده : إني مكبرٌ ثلاثاً ، المباغتة ، المباغتة من علامات نجاح المعركة ، إني مكبرٌ ثلاثاً ، فإن كبَّرتُ الأولى فليتهيَّأْ مَن لم يكن قد تهيَّأ ، وإن كبَّرت الثانية ، فليشددْ كلُّ رجلٍ منكم سلاحه على نفسه ، وإن كبرتُ الثالثةَ فإني حاملٌ على أعداء الله فاحملوا معي .
كبرَّ النعمان بن مقرنٍ تكبيراته الثلاث ، واندفع في صفوف العدو ، كأنه الليث عادياً ، وتدفق وراءه جنود المسلمين تدفُّقَ السيل ، ودارت بين الفريقين رحى معركةٍ ضروس ، قلَّما شهد التاريخُ لها نظيراً ، كانت من أشهر معارك المسلمين في فتح بلاد الفرس ، تمزَّق جيش الفرس شرَّ ممزق ، وملأت قتلاه السهل والجبل ، وسالت دماؤهم في الممرات والدروب ، فزلق جواد النعمان بن مقرن بالدماء فصُرع ، وأصيب النعمان نفسه إصابةً قاتلة ، فأخذ أخوه اللواء من يده ، وسجَّاه ببردةٍ كانت معه ، وكتم أمره على المسلمين ، وما أخبر أحدًا ، ولما تمَّ النصر الكبير الذي سمَّاه المسلمون فتح الفتوح ، سأل الجنودُ المنتصرون عن قائدهم الباسل ، فرفع أخوه البردة عنه، وقال : هذا أميركم ، قد أقرَّ اللهُ عينه بالفتح ، وختم له بالشهادة .
واليوم إنْ ذهبتَ إلى مدينة مشهد بأقاصى إيران - ألف كيلو متر عن العاصمة طهران - تجد جوامع ، ومساجد ، وهذا الفضل لهؤلاء الصحابة الكرام ، الذين فتحوا هذه البلاد ، ونشروا دين الله في الخافقين.
فملخص الملخص ، أيها الإخوة ... نحن ماذا فعلنا ؟ نحن كمسلمين ، ماذا فعلنا ؟ لا جنة من دون عمل ، ومن دون تضحية ، ومن دون بذل ، وأقل شيء أنْ تطلب العلم ، وأنْ تعلِّم ، وأقل شيء يمكن أن تقدمه للمسلمين أنْ تتعلم القرآن ، وأن تعلِّمه ، وأن تفعل الخير ، وأن تطعم الفقراء، وأن تنصر الضعفاء ، وأن تزيل البأساء عن البائسين ، وأن تسهم في خدمة مجتمعك المسلم ، فمِن دون عمل أنتَ تستهلك جهود الآخرين ، وتأخذ ما عندهم ، لكنْ أنْ تصلي وتصوم، وتظن أن هذا هو الإسلام ؟ لا والله ، الإسلام عمل ، ولو فَهِم الصحابة الكرام الإسلام كما نفهمه اليوم ، واللهِ لما خرج الإسلام من مكة إطلاقاً ، ولبقي في مكة ، فانظرْ إلى أين وصلوا ، وأين هذه نهاوند ؟ هذه في شرق المدائن ، وفي أعماق بلاد الفرس ، لقد وصل الإسلامُ إلى الصين .
لكن انظرْ إلى هذا الوفد الجريء ، وإلى رئيس الوفد ، هذا الذي يتكلم ، ويخاطب كسرى ، لقد عرَّف بالإسلام تعريفًا رائعًا ، وأشاد بالإسلام وبالنبي ، وأنّ اللهَ رحمنا الله بالنبي ، الذي عرّفنا بالحق ، وأمرنا به ، وعرّفنا بالشرّ ونهانا عنه ، ووعدنا بأنّ مَن يستجيب لما دعاه بخيري الدنيا والآخرة ، فما هو إلا قليل حتى بدل الله ، ضيقنا سعةً ، وفقرنا غنىً ، وعداوتنا محبةً ، وقد أمرنا أن ندعوَ إلى الإسلام الناس جميعاً ، وأن نبدأ بمَن هم في جوارنا ، هذا الكلام بليغ ، دقيق، واضح .
ويا أيها الأخ الكريم ... إن لم تكن الأمور واضحةً في ذهنك وضوح الشمس ، وإنْ لم تكن حياتك مفعمةً بما تعتقد ، وبما تنطلق ، فالطريق إلى الله لا يزال طويلاً ، لكنّ الحقيقة أن الصحابة الكرام على اختلاف مشاربهم ، وانتماءاتهم ، وعلى اختلاف أصولهم ، وقبائلهم ، صبَغَهُم الإسلام جميعاً بصبغةٍ واحدة .
( سورة البقرة : آية " 183 " )
الإيمان رفع شأنهم ، ويجب أن تعلموا أيها الإخوة ، أن الله هو هو ، إلههم إلهنا ، ربهم ربنا، إذًا فينا تقصير ، وهذا بسببنا ، فإذا توهَّمنا أن الله عزَّ وجل لا يعاملنا كما عاملهم ، لأننا لسنا مثلهم ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ وَمَنْ آذَى اللَّهَ يُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ *
(الترمذي وأحمد)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ *
(متفق عليه)
حينما اقترب أجل النبي عليه الصلاة والسلام ، نظر إلى أصحابه الكرام ، فأعجبه سمتُهم ، وأعجبه إقبالُهم على ربهم ، فقال : قال - موسى - : ((يا رب إني وجدت في التوراة نعتَ قومٍ حلماء علماء ، كادوا أن يبلغوا بفقههم حتى يكونوا أنبياء ، فَمن هم ؟ قال : تلك أمة أحمد ، يا موسى أُعطُوا العلم الأول الآخر ، قال : يا رب إني وجدت في التوراة قوما توضع المائدة بين أيديهم فما يرفعونها حتى يغفر لهم فمن هم؟ قال: أولئك أمة أحمد)) .
(الدر المنثور ، للسيوطي ، تفسير الآية 144من سورة الأعراف)
فأنا أرى أن قدوتنا أصحاب رسول الله ، في ورعهم ، في عباداتهم ، في إقبالهم، في بذلهم، في تضحياتهم .
والحمد لله رب العالمين
الكتاب: سيرة خمسين صحابي
المؤلف: الدكتور محمد راتب النابسلي
المصدر: الشاملة الذهبية