إِخْلاَصُ الدِّينِ للهِ .
إخلاص الدِّين لله هو أصل الدِّين وقطبُه الذي تدور عليه رحاه ، وهو التوحيد الذي أرسل الله به الرسلَ ، وأنزل به الكتب ، وإليه دعا الأنبياءُ –عليهم الصلاة والسلام-، وعليه جاهدوا ، وبه أَمروا ، وفيه رغَّبوا .
قال الله تعالى : **فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ(2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ (3)**[الزمر:2-3]
وقال : **وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ** [البينة:5]
وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : **قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ (15)** [الزمر: 14-15] .
وقال :**قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)**[الأنعام : 162-163] .
فهذا التوحيد هو بِمثابة الأساس من البنيان .
قال ابن القيم رحمه الله : " من أراد علو بنيانه فعليه بتوثيق أساسه وإحكامه وشدَّة الاعتناء به ؛ فإنَّ علوَّ البنيان على قدر توثيق الأساس وإحكامه ، فالأعمال والدرجات بنيان وأساسها الإيمان...
فالعارف همَّتُه تصحيح الأساس وإحكامُه ، والجاهلُ يرفع في البناء عن غير أساس فلا يلبث بنيانُه أن يَسقط ؛ قال تعالى: **أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ** [التوبة:109] .
قلت : وذلك أنَّ هذه الآية نزلت في المنافقين الذين بنوا مسجدًا للصلاة فيه ، لكنَّهم لما أتوا بِهذا العمل العظيم الفضيل وقلوبُهم خِلوٌ من الإخلاص لم ينفعهم ذلك شيئًا ، بل انهار بِهم في نار جهنَّم كما الآية .
ثم قال رحمه الله : "وهذا الأساس أمران :
-الأول : صحة المعرفة بالله وأمره وأسمائه وصفاته .
- والثاني: تجريد الانقياد له ولرسوله دون ما سواه .
فهذا أوثق أساس أسَّس العبد عليه بنيانه، وبحسبه يعتلي البناءُ ما شاء. فَـأَحْكِمِ الأساسَ ، واحفظ القوَّة، ودُم على الحميَّة...(1)
*والتوحيد بمثابة الجذور من الشجرة.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى تحت عنوان ( شجرة الإخلاص ) :
فالسَّنة شجرةٌ، والشهور فُروعُها، والأيَّام أغصانُها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثَمرُها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة ، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل .
إنَّما يكون الجداد (2)، فعند الجداد يتبيَّن حُلوُ الثملر من مرِّها .
والإخلاص والتوحيد شجرة في القلب، وفروعها الأعمال، وثمرُها طِـيبُ الحياة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة ، وكما أنَّ ثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة فثمرة التوحيد والإخلاص في الدنيا كذلك .
والشرك والكذب والرياء شجرةٌ في القلب ، ثمرُها في الدنيا الخوفُ والغمُّ وضيق الصدر وظلمةُ القلب ، وثمرها في الآخرة الزَّقُّوم والعذاب المقيم ،وقد ذكر الله هاتين الشجرتين في سورة إبراهيم " (3) .
قلت يريد قول الله تعالى : **أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)** . وفيها دليل واضح على أن الإخلاص يبدأُ بالتوحيد ، وينتهي بالتوحيد ، ويُركِّز فيه بين ذلك على التوحيد .
-------
(1) الفوائد (ص204) .
(2) الجداد : قطف الثمر .
(3) الفوائد (ص: 214) .
يتبع إن شاء الله .