بطل قصة اليوم استثناء في عالم البشر، إنه الشهيد الذي شيّعته الملائكة، بل الشهيد الذي اهتز لموته عرش الرحمن، إنه سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس الأنصاري الأوسي.
وسعد رضي الله عنه مثل للعقيدة الراسية، والنشاط الموصول، والحماسة الفوارة، واحتمال الصعاب والأخطار حبا لله ورسوله.
أسلم على يد مصعب بن عمير، لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يعلم المسلمين، فلما أسلم قال لبني عبد الأشهل: كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تُسلموا، فأسلموا، فكان من أعظم الناس بركة في الإسلام، وشهد بدراً، وشهد أحداً، والخندق.
موقف عظيم
جاء في أسْد الغابة لابن الأثير: ومقاماته في الإسلام مشهودة كبيرة، ولو لم يكن له إلا يوم بدر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر، وأتاه خبر نفير قريش، استشار الناس، فقال المقداد فأحسن، وكذلك أبو بكر، وعمر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الأنصار، لأنهم عدد الناس - وقد بايعوه على حمايته داخل المدينة لا خارجها - فقال سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. قال سعد:
“فقد آمنا وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به الحق، وأعطيناك مواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصُبُرٌ عند الحرب، صُدق عند اللقاء، لعل الله يريك فينا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله” فسُر رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله، ونشّطه ذلك للقاء الكفار، فكان ما هو مشهور، وكفى به فخراً.
وعن ابن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن سهل، عن عائشة أنها كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق وكانت أم سعد بن معاذ معها في الحصن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين خرجوا إلى الخندق قد رفعوا الذراري - الولدان- والنساء في الحصون مخافةً عليهم من العدو، قالت عائشة: فمر سعد بن معاذ، عليه درع له مقلّصة قد خرجت منها ذراعه، وفي يده حربة، فقالت عائشة: يا أم سعد، لوددت أن درع سعد أسبغ مما هي، فخافت عليه حيث أصاب السهم منه، قال يونس عن ابن إسحاق فرماه حبان بن العرقة، فقطع أكحله، فلما رماه قال: خذها مني وأنا ابن العرقة، فقال سعد: عرّق الله وجهك في النار، اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش فأبقني لها! فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني في بني قريظة - حيث خانوا الرسول خيانة فاجرة، فأراد سعد أن يحكم فيهم -.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصاب سعداً السهم أمر أن يُجعل في خيمة رفيدة الأسلمية في المسجد - كانت رفيدة تطبب الجرحى- ، ليعوده من قريب، وهذا أبلغ دليل على مشاركة المرأة في الحياة بصورة عملية.
استشهاد سعد
عن أبي سعيد الخدري قال: لما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ ليحضر ويحكم في قريظة، فأقبل على حمار، فلما دنا من النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (قوموا إلى سيدكم)، أو قال: (خيركم، احكُم فيهم) قال: إني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حكمت بحكم الملك).
وكان سعد لما جُرح، ودعا مما تقدم ذكره، انقطع الدم، فلما حكم في قريظة انفجر عرقه! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده، وأبو بكر، وعمر، والمسلمون، قالت عائشة: فوالذي نفسي بيده إني لأعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر، وقال عمرو بن شرحبيل: إن سعد بن معاذ لما انفجر جرحه احتضنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت الدماء تسيل على رسول الله، فجاء أبو بكر، فقال: واانكسار ظهراه، فقال له النبي عليه السلام: “مه” - اسكت - فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون.
روي أن جبريل عليه السلام نزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم معتجراً بعمامة من إستبرق، فقال: يا نبي الله، من هذا الذي فتحت له أبواب السماء، واهتز له العرش؟ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً يجر ثوبه، فوجد سعداً قد قُبض.
ولما دفنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرف من جنازته، جعلت دموعه تحادر على لحيته، ويده في لحيته.
وعن جابر بن عبد الله، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ).
وعن سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثوب حرير، فجعلوا يعجبون من لينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتعجبون من هذا؟ لمناديل سعد في الجنة أحسن من هذا).
وعن أنس، قال: لما حُملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون: ما أخفّ جِنازته! وذلك لحكمه في بني قريظة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (إن الملائكة كانت تحمله).
وقال سعد بن أبي وقاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال: (لقد نزل من الملائكة في جنازة سعد بن معاذ سبعون ألفاً ما وطئوا الأرض قبل، وبحق أعطاه الله تعالى ذلك).
لقد عاش سعد رجل مبدأ بامتياز، عاش بروح مستقلة وثابة، يفتدي الحق بكل شيء إذا تبين له، لقد كان انتسابه إلى السماء وهو بعدُ على الأرض، فجاء موته على النسق نفسه، شهادة لا مثيل لها في عالم البشر.
منقول...