قال الإمام ابن حزم الأندلسي:
لولا التكليف لم يدخل النار أصلاً وقد شهد الله عز وجل بصحة هذا القول شهادة لا تخفى على مسلم وهي قوله تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولا**الأحزاب72. فحمد الله تعالى إباءة الجمادات من قبول التمييز الذي به وقع التكليف وتحمل أمانة الشرائع، وذم عز وجل اختيار الإنسان لتحملها، وسمي ذلك منه ظلماً وجهلاً وجوراً. وهذا معروف في بنية العقل والتمييز أن السلامة المضمونة لا يعدل بها التغرير المؤدي إلى الهلاك أو إلى الغنم.
ونحن خالفنا الإمام في مسألة الأمانة هذه، فقد قال هي التمييز، ونقول أن الأمانة المذكورة في اللآية هي الشريعة التي لم يتبقي منها صحيحاً لدي الثقلان إلا القرآن الكريم، فالشريعة هي الأمانة التي عرضها الله تعالي علي أعظم المخلوقات التي يعرفها الإنسان ويمكنه تصورها في خياله أو عقله حتي لو لم يراها بعينيه مثل الجبال والسماوات والأرض لا غيرهم من مخلوقات الله تعالي الملائكية أو غيرهم مما لا نعلم، فهؤلاء لا يمكن تصور عظمهم وعظم أحجامهم وقواتهم. كذلك يعلم أي إنسان بفطرته أن تلك المخلوقات الثلاثة خلقها أعظم من خلق الناس كل الناس: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون** غافر57.
وحتي إن شوهت تلك الفطرة السوية في الإنسان فإن المشاهد العاقل المميز سيعلم هذا دون شك فلو وقف أحدهم بجوار جبل لعرف علي الفور مدي ضعف وصغر حجمه أمام ذلك المخلوق العظيم. كذلك الإنسان يشعر بالتواضع والضعف حينما يبصر الأرض العظيمة الحاملة له ولكل المخلوقات الأرضية، وكذلك يشعر عندما يطالع بعينيه السماء ذلك البناء والسقف المحفوظ الحافظ للأرض والتي تظله دون عمد ترفعها. لذا عرض الله تعالي الشريعة علي تلك المخلوقات الثلاثة العظيمة (الجبال والسماوات والأرض) مخيراً إياهم في أسلوب عبادتهم لربهم وباريهم قائلاً لهم: أتريدون أن تكون بشريعة أم بالأمر؟ فقد كنت كثيراً ما أتوقف أمام هذه الآية العظيمة وأتساءل في حيرة: الأمانة التي عرضها الله سبحانه وتعالي علي السماوات والأرض والجبال فلم يقبلوها وأشفقن علي أنفسهم منها وحملها الإنسان وكان بقبولها ظلوماً جهولا، ماهي؟
لابد أن هذه الأمانة كانت عند الله تعالي ولم تكن عند الإنسان أو السماوات أو الأرض أو الجبال ثم عرضها سبحانه علي تلك الكائنات، والأمانة عندنا نحن معشر البشر هي عبارة عن شيء يعطيه أحدهم إلي الآخر لتكون عنده بمثابة أمانة لحين من الدهر ثم يعود لصحاب الأمانة ليستردها وقتما شاء، وعلي المؤتمن أن يحافظ علي الأمانة كما يحافظ علي ما يملك دون أن يكون بالفعل مالكاُ لتلك الأمانة والله تعالي أعطي الإنسان تلك الأمانة ثم سيعود ويستردها منه مرة أخري، فهو سبحانه مالكها وهي من حقه وحده فلم يجعلها سبحانه وتعالي ملك للإنسان وليست ملكه بل هو مكلف برعايتها وصيانتها حتي يردها إلي مالكها الأصلي والذي هو الله سبحانه وتعالي. بالتأكيد تلك الأمانة ليست شيء في الإنسان لأن الله تعالي عرضها عليه فلو كانت فيه لما أمكن عرضه علي الجبال والسماوات والأرض فلا يقول أحد أن الأمانة هي العقل أو الروح و أي شيء في الجسد أو القلب أو التمييز كما ذهب الإمام ابن حزم لأن الأمانة كما قلنا ليست هي شيء أصلاً في الإنسان. كذلك الأمانة ليست شيء في السماوات والأرض والجبال لأنه تعالي عرض عليهن الأمانة فلو كانت فيهن لما عرضها عليهن. كذلك ليست هي شيء ملك للإنسان أو شيء ملكه الله للإنسان باللفظ الدقيق لأنه لو ملكها إليه لكانت ملكاً للإنسان ولكان الإنسان غير آثم في تضييعها لأنها صارت ملكه فمثلاً: لو وضع عندي أحدهم أمانة ثم قال لها أنها ملكك فتصرف فيها كيفما تشاء فإنها بذلك لم تعد أمانة بل صارت ملكاً لي ولي حق التصرف فيها، ولا يجوز له أن يسميها بعد ذلك أمانة وليس له الحق في طلبها بعد أن صارت ملكاً لي. وهكذا هي أمانة الله تعالي هي شيء يعرفه الإنسان جيداً ويعلم أن الله تعالي لم يملكه إياها، ويعلم جيداً أنها عنده بمثابة أمانة لا ملك فهي ملك لله وحده يجب أن تعود إليه. فما هو هذا الشيء الذي لدي الإنسان وهو ليس ملك للإنسان؟ كذلك الأمانة هي شيء يمكن أن تؤتمن عليه الجبال والسماوات والأرض وإلا كان في عرضه سبحانه وتعالي عليهم الأمانة عبثاً، والله سبحانه يتعالي عن العبث؟ فإذا علم ما سبق فلم يتبقي إلا الشريعة أو المنهج أو الدين أو السبيل أو الوسيلة التي يمكن أن تكون بها عبادة العبد لمعبوده واسمع لقوله تعالي: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِين**فصلت11.
انظر إلي قوله تعالي: ائتيا طوعا أو كرها. ستجد أنه سبحانه وتعالي لا يخيرهما بين الإيمان أو الكفر ولكن يأمرهما بالدخول في عبادته وطاعته سبحانه (شأنهم كشأن كافة المخلوقات) فقال تعالي: ائتيا. وهذا أمر لا طلب ولا رجاء ولا سؤال ولا استفهام بل هو أمر الهي كوني لا يرد ولا يمكن رده بحال لكنه سبحانه وتعالي يخيرهما بين الأسلوب الذي يريدا أن يدخلا به في عبادة الله تعالي فقال لهما: طوعاً أو كرها. فاختارت السماوات والأرض الطوع، اختارا أن يكونا متعبدين لله تعالي بلا شريعة بل التعبد بالأمر المباشر فهي أي السماوات والأرض تفعل وتتفاعل وتعبد الله تعالي كما أراد لها الله تعالي أن تعبده دون شريعة يعمل فيها المخلوق عقله فهم يعبدون الله تعالي بالأمر فالله يأمر وهي تطيع وتنفذ ما أراد وهذه هي عبادتها وكذلك الملائكة وكافة مخلوقات الله تعالي مسخرون بأمر الله حاشا الجن والإنس فالأخيران اختارا أن يتعبدا لله تعالي بشريعة. فالإنسان حين قبل الأمانة وهي الشريعة ومن خلال تلك الشريعة سيعلم الإنسان كيف يريد ربه أن يعبده فالإنسان بحال لا يمكن أن يعرف ماذا يرضي الله تعالي أو يحبه أو يسخطه ويغضبه أو يأمر به أو ينهي عنه إلا من خلال تلك الشريعة والتي سينزلها الله تعالي علي أنبيائه ورسله المصطفين من البشر فتكون بالنسبة إليهم أمانة وعهد من الله تعالي إليهم فمن صدق بها وصانها وعمل بما فيها كان بذلك حافظاً للأمانة التي بين يديه، وذلك لو قابل الله تعالي بها عندما يحين أقرب الوقتين، وقت الموت أو البعث ومن أداها نجا ومن خانها وأتلفها هلك فثبت قولنا بفضل الله تعالي من أن الأمانة هي الشريعة التي أنزلها رب العباد علي رسله من الناس ليتعبد بها الناس إلي ربهم الذي خلقهم من أجل عبادته والانضمام إلي المنظومة الكونية العالمة العابدة المسلمة لرب الكون تلك الشريعة والتي لم يتبقي منها الآن صحيحاً إلا القرآن الكريم فكل الشرائع السابقة حرفت وزورت، وأن القرآن الكريم سيرفع من الصحف والصدور يوما ما فيسترد الله تعالي بهذا أمانته وهذا من علامات يوم القيامة الكبري أو كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتي لا يدري ما صيام ولا نسك ولا صدقة، ويسري علي كتاب الله في ليلة فلا يبقي في الأرض منه آية، وتبقي طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا علي هذه الكلمة يقولون لا إله إلا الله فنحن نقولها. (خرجه السيوطي عن حذيفة وصححه الألباني) فثبت بهذا قولنا من أن القرآن هو ما تبقي من هذه الأمانة الربانية، وأن هذه الأمانة سوف يستردها الله تعالي فيرفعها من الصحف والصدور.
ثم إذا كان الله تعالي يعرض تلك الأمانة أياً ما كانت علي السماوات والأرض والجبال والإنسان وجب من ذلك بالضرورة أن التمييز موجود في كل من هذه المخلوقات الأربعة وإلا كان عرض الأمانة علي من ليس فيه عقل أو تمييز أمراً لا معني له، وهذا يدل علي عبث عارض الأمانة وعارض الأمانة هو الله تعالي المنزه عن العبث، فدل هذا علي أن الأمانة المذكورة هي شيء غير التمييز ، فثبت قولنا من أنها الشريعة ذاتها والحمد لله رب العالمين.
(كتاب الإنسان؛ تأليف: إسماعيل مرسي أحمد)