قال الله تعالى في كتابه العزيز : ﴿الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ﴾ [الملك: 2]،وقال تعالى
قال تعالى : ( إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ) [ الإنسان : 2 ] ، و قال سبحانه :
(لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) [ البلد : 4 ] ، أي : في مكابدة و معاناة منذ مولده في دارٍ كلّها بلاء و عناء و كدر ، أحسن في وصفها الإمام علي رضي الله عنه لمن سأه عنها : دار أولها بكاء و أوسطها عناء و آخرها فناء .
و وَصَفَها أبو الحسن التهامي فأجاد في قوله :
جُبلت على كَدَرٍ و أنت تريدهاصفواً من الآلام و الأكدارِ
و مُكَلِّفُ الأيامِ ضدَّ طِباعِهـامُتَطَلِّبٌ في الماء جذوةَ نارِ
شاء الله تعالى ان تجري سنة الابتلاء في عباده فلا يخلو عبد مؤمن الا وقد اختبر بعدة ابتلاءات في حياته فمن الناس من يبتلى في دينه او نفسه ومنهم من يبتلى بالمرض او الفقر نقص الاموال او فقدان الولد او الزوج او الاخ فقد قال تعالى ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 155].
وقد اوضح النبي الكريم حكم الابتلاء وسنة الله في الابتلاء يقوله صلى الله عليه وسلم (أشد الناس بلاء: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلاه الله حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض ما عليه من خطيئة))؛ رواه أحمد، والبخاري، والترمذي، وابن ماجة، وغيرهم، وصححه الألباني في صحيح الجامع، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
معنى البلاء لغة واصطلاحاً:
للبلاء في اللغة معان أشهرها ما ذكره الإمام القرطبي رحمه الله عند تفسير الآية الثانية بعد المائة من سور الصافات في الجزء الخامس عشر من تفسيره .
أولاً : الإنعام ، و هو بذل النعمة للغير ، كما في قوله تعالى : ( إن هذا لهو البلاء المبين ) أي النعمة الظاهرة ؛ يقال : أبلاه الله إبلاء و بلاء إذا أنعم عليه . و قد يقال بلاه ، كما قال زهير :
فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
أي : صَنَع بهما خيرَ الصَّنِيع الذي يَبْلُو به عباده .
ثانياً : الاختبار و الامتحان بالخير أو الشر ، كما في قوله تعالى : (و نبلوكم بالشر و الخير فتنة) الأنبياء الآية 35. أي اختباراً و امتحاناً ، يُقال : بلاه يبلوه إذا اختبره ، و لا يقال من الاختبار إلا بلاه يبلوه .
و البلاء بالمعنى الثاني مرادف للابتلاء ، فهما بمعنىً ، و هو المقصود فيما نحن بصدده .
قال ابن منظور(في مادة بَلا من المجلد الرابع عشر من لسان العرب) : ( و ابْتَلاه الله : امْتَحَنَه ، و الاسم البَلْوَى و البِلْوَةُ و البِلْيَةُ و البَلِيَّةُ و البَلاءُ ، و بُلِيَ بالشيء بَلاءً و ابْتُلِيَ ؛ و البَلاءُ يكون في الخير و الشَّر ، و الجمع : البَلايا .
و يقال : أَبْلاه الله يُبْلِيه إبْلاءً حسناً إذا صنع به صُنْعاً جميلاً.
و بَلاه اللهُ بَلاء وابْتَلاه أي: اختَبره .
و التَّبالي : الاختبار .
و البَلاء : الاختبار ... الخ .
و الذي يهمنا في موضوع بحثنا هذا هو المعنى المتبادر من الابتلاء عند ذكر ما يترض له المؤمن في حياته من سراء و ضراء ، و هو الاختبار و التمحيص المقرون – غالباً – بالشدائد و المحن ، و المصائب و الفتن .
مراتب الناس من حيت الابتلاء:
ليس الابتلاء قاصراً على أحد ، و لا ينجو منه بر و لا فاجر ، و إن تباينت صوره ، و تفاوتت مراتبه و مراتب الناس فيه تبعاً لذلك .
و ما ادعى أحدٌ إيماناً بالله و رسوله إلا كان نصيب من الابتلاء كما أخبر بذلك رب الأرض و السماء فقال تعالى : ( أ لم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ . وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)العنكبوت : الآيات 1-3.
و لو نجى من هذا الابتلاء أحد لنجى منه الأنبياء و المرسلون ، و من تابعهم من الأولياء و الصالحين .
و لكن ؛ ما من نبي أوتي الكتاب و الحكمة إلا و هو معرض لأصناف البلاء حتى يبلغ رسالة الله إلى الناس ، فالأنبياء أكمل الناس إيماناً و أكثرهم بلاءً ، و ذلك لأن الابتلاء على قدر العطاء ، فقد قال ربنا تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ) المائدة الآية 48.
ولهذا لما سَأل رجلٌ الإمام الشافعي فقال له: (أيهما أفضل للرجل أن يمكَّن أو يُبتلى؟ فقال له: لا يمكَّنُ حتى يُبتلى، فإن الله ابتلى نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - فلما صبروا مكَّنهم، فلا يظن أحدٌ أن يَخْلُصَ من الألمِ أَلْبَتة) -الفوائد لابن القيم.
فأشد الناس ابتلاء هم الانبياء والرسل ثم الذين يلونهم والذين يلونهم وهكذا قصص ابتلاء الرسل والأنبياء والصالحين في القرآن والسنة كثيرة جداً، نذكر بعضها تذكيراً بسنة الابتلاء، والحكم العظيمة المترتبة عليها:
ألم تَرَ كيف ابتلى الله أبا البشر آدم عليه السلام بالسراء فكرمه و أسجد له الملائكة ، ثم ابتلاه بالضراء فأهبطه من جنة عجن إلى دار الهم و الغم و الحزن .
و ابتلى نوحاً عليه السلام في أهله و ولده بكفرهم و صدهم عن سبيل الله و إعراضهم عن دعوته إلى دين الله ، و أي ابتلاء أعظم من أن يرى الأب ابنه يغرق أمامه في موج كالجبال مع من كفر من قومه ، و هو لا يملك صرف الضر عنه و لا تحويلاً .
و ابتلي إبراهيم عليه السلام في أبيه الذي كان يصنع أصناماً تعبد من دون الله ، و ابتلي في جسمه فقذف في النار ، و ابتلي في ولده و فلذة كبده فأمر بذبحه ، و ابتلي إلى ذلك بابتلاء من نوع خاص ، و هو تحميله أمانة الإمامة ، حيث قال تعالى : ( وَ إِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) البقرة : 142 الآية.
و ابتُليَ أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام بأقوام لا يرعون ذمة و لا حرمة فقتلوا أنبياءهم و حرفوا كتبهم و شرائعهم ، وكان من آخر من قَتَلوا يحيى و زكريا عليهما السلام .
و ابتلي نبي الله يوسف عليه السلام بالطعن في أمانته حينما قال إخوته : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) ( يوسف : 77 الآية) و أُلقِيَ في غيابة الجب كما تلقى الأحجار ، و بيع في سوق النخاسة كما يباع العبيد ، و شري بثمن بخس دراهم معدودة ، و كان من اشتراه فيه من الزاهدين ، و خدم في البيوت كما يخدم العبيد ، و اتهم في عرضه تهمة يتنزه عنها العقلاء فكيف بالأنبياء ؟ و ألقي بسببها في السجن كما يلقى المجرمون ، فلبث فيه بضع سنين .
نبي الله موسى- عليه الصلاة والسلام - قد تعرض للبلاء منذ طفولته بوضعه في التابوت، ورميه في اليم، وأخذ الأعداء له، وإخراجه من بلده، وإرادة فرعون قتله، فثبت على طريقه ولم يهتز لما يتعرض له من قبل أعدائه، فأراه الله تعالى من آياته ومعجزاته، وأغرق أعداءه أمام عينه، وأنجاه بفضله ورحمته، وأعزه ونصره بعد أن كان مطارداً خائفاً، وهكذا سنة الله تعالى مع أنبيائه ورسله.
وهذا أيوب يبتلى بالمرض ويصيبه الضر ثم يكشف الله بلواه ويشفيه من مرضه.
وهذا نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم - عندما أرسله الله تعالى لقومه ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الباطل إلى الحق، ولكنهم عتوا وتجبروا واستكبروا عن قبول الحق، فوقفوا له بالمرصاد يريدون أن يتخلصوا منه ومن دعوته، فآذوه، وأدموه، وضربوه، وألقوا على ظهره سلى الجزور، فصبر وصابر، واعتمد على ربه في نصرته، ولازم دعوة قومه، حتى عرضوا عليه أن يعلوا من شأنه بينهم، أو يعطوه من أموالهم ما شاء، وغير ذلك من العروض المغرية، ولكنه أبى، ولزم صراط ربه.
هذه حياة الأنبياء ، و هذه نماذج من ابتلاء الله تعالى لهم ، و من تأمل ما لحقهم من صنوف البلاء لوجد عامته من الابتلاء بالشدائد و المحن.
و من الملاحظ أيضاً ابتلاء الكثيرين منهم في ولده لأن الولد أقرب الناس إلى أبيه ، و مصاب أبيه فيه جلل .
فهذا آدم عليه السلام ؛ يقتل أحد ولديه أخاه في أول جريمة عرفتها البشرية في إراقة الدماء .
و هذا نوح عليه السلام ؛ يحول الموج بينه و بين ولده فيكون الولد من المغرقين على مرأى الأب و مسمعه ، و هو ينهى عن التدخل لإنقاذه و يقال له) : ( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) سورةهود الآية 46؛ لكفره و إعراضه عن دين الله .
و هذا خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام يؤمر بذبح ولده البار إسماعيل فيسن شفرته و يتُلُّهُ للجبين امتثالاً لأمر رب العالمين ، فيكاد يذبحه لولا ما تداركه ربه به من الفداء بذبح عظيم .و هذه أم موسى تبتلى في ابنها موسى الكليم عليه السلام فلا تجد بداً من إلقائه في اليم ، و قلبها يتفطر حزناً عليه .
ابتلى الله انبيائه بكافة انواع الابتلاء في هذه الدنيا وكانوا اشد الناس ابتلاء وصبرا على البلاء عليهم السلام اجمعين فما الحكمة من الابتلاءْ؟؟
من حِكَم الابتلاء :
لا شك في مدار الأقدار على حكمة الملك الجبار ، الذي (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْأَلُونَ) ( الأنبياء : 23 الآية) و لا في أنّ الحكمة المقدرة في الخلق و التدبير قد تكون مما استأثر الله تعالى بعِلمه ، و قد تكون مما أخبر به في كتابه أو على لسان نبيّه ، و قد تكون مما وفّق من يشاء من عباده لمعرفته باستنباطه أو الاجتهاد في الوقوف عليه ، بإلهام أو دُربةٍ أو غير ذلك .
و من تأمل فيما عاناه ، أو ما وَقَعَت عليه – من معاناة غيره - عيناه من صور الابتلاء ، سيدرك و لا شك بعض الحكم الربانية في ذلك كله ، و من أَجَلّ تلك الحِكَم تمحيص المعبود لعباده ( حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) آل عمران الآية 173.
1 - فقد يكون الابتلاء لتمحيص الصف المسلم و تنقيته من الدَغَل و الدَخَل و الدُخلاء ، و من صور الابتلاء للتمحيص ما قد تتعرّض إليه الصفوة من أبناء الأمة من الكرب أو الأسر أو النفي أو القتل أو غير ذلك مما هو معروف مشاهد في كل زمان و مكان .
قال تعالى ) : (وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَ الأَنْفُسِ وَ الثَّمَرَاتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ) البقرة الآية 155.
2 - و قد يكون الابتلاء قصاصاً في الدنيا مما تقترفه أيدي العباد ، و جزاءً لهم بالسيئة على السيئة
قال تعالى : ( ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَ هَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ )
[ سبأ : 17 ] و قال سبحانه: ( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً) النساء الآية160. و قال أيضاً : (وَ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) الشورى الآية 40.
3 - كما قد ينزل البلاء على العباد رفعاً للدرجات ، أو وضعاً للآصار و تكفيراً للخطايا و السيئات .
فمما يكون لرفع درجات العباد ، و يراد لهم الخير به ما رواه البخاري في صحيحه أن أبا هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من يرد الله به خيراً يُصِبْ منه) ) . أي : يبتليه بالمصائب و المحن ليرفع درجاته و يزيد في حسناتة على ما يكون من صبره و احتسابه .
و مما يكون لتكفير السيئات ما جاء في الحديث المتفق على صحته عند الشيخين أن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفَّر الله بها عنه ، حتى الشوكة يُشاكها)
قال الإمام المناوي رحمه الله شارحاً هذا الحديث في فيض القدير : ( ما من مصيبة أي : نازلة ، و أصلها الرمي بالسهم ثم استعيرت لما ذكر ( إلا كفر اللّه بها عنه) ذنوبه أي محي خطيئاته بمقابلتها
( حتى الشوكة ) قال القاضي : حتى إما ابتدائية فالجملة بعدها خبرها أو عاطفة ( يشاكها) أي : حتى الشوكة يشاك المسلم بتلك الشوكة أي يجرح بشوكة ، و الشوكة هنا المرة من شاكه ، و لو أراد واحدة النبات قال يشاك بها ، و الدليل على أنها المرة من المصدر جعلها غاية للمصائب .اهـ.
و مما اتفق عليه الشيخان أيضاً حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (ما يصيب المسلم من هم و لا غم و لا نصب و لا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)
قال الإمام الغزالي رحمه الله : قال عيسى عليه السلام : لا يكون عالماً من لم يفرح بدخول المصائب و الأمراض عليه لما يرجوه من ذلك من كفارة خطاياه .
همسة لمن اصابه الله بالابتلاء
يا من ابتليت ابشر بالفرج الواسع من الله تعالى فما تضيق او تستحكم الا لتفرج وجزاء الصبر على الابتلاء عظيم عند الله تعالى فانظر الى أيوب عليه السلام ابتلاه الله بفقد الولد والمال والمرض حتى الدودة تخرج من جسده الطاهر الشريف فيعيدها الى جسده ايمانا وتسليما ورضا وثقة بما قدره الله تعالى عليه، فانظر كم هو عظيم جزاء الرضا والتسليم من العبد لربه بل والسعادة بما قسمه الله تعالى والانابة اليه ...أدركه برحمته ، وأنهى ابتلاءه ، ورد عليه عافيته إذ أمره أن يضرب الأرض بقدمه فتنفجر عين باردة يغتسل منها ويشرب فيشفى ويبرأ ( اركض برجلك هذا مغتسلٌ باردٌ وشراب) سورة ص الاية42 ( . وذلك الإنعام كانا جزاءً على ما علمه الله من عبده أيوب عليه السلام من الصبر على البلاء وحسن الطاعة ، والالتجاء إليه سبحانه ( إنا وجدناه صابرًا نعم العبد إنه أواب ) سورة ص الآية 44 .
وفي ظل ما يصيبنا في حياتنا من ابتلاء أو نسمعه عن إخواننا نستفيد من قصة أيوب عليه السلام بفوائد عظيمة أهمها ما يلي:
أولاً : أن عاقبة الصبر عاقبة حسنة حتى صار أيوب عليه السلام أسوة حسنة لمن ابتلى بأنواع البلاء .
ثانيًا : أن من امتحن في الدنيا بمحنة ، فتلقاها بجميل الصبر ، وجزيل الحمد رجيله كشفها في الدنيا مع حسن الجزاء في الآخرة .
ثالثاً : الرضا بقدر الله عز وجل والتسليم الكامل بذلك ، وهذا من شأنه أن يَعْمُر الأمن ، والإيمان قلب المؤمن ، فيعيش في غاية السعادة ؛ وإن تضجر بقدر الله ، فإنه يعيش حياة البؤس ، والشقاء ، وأن اليأس ، والبكاء لا يرد شيئاً مما فات ، وإنما التوجه إلى الله بالضراعة كما فعل أيوب عليه السلام والصبر على المكاره يزيل من النفوس الهم ، والغم.
قال الشاعر:
فَدَعْ مَا مَضى واصْبِرْ على حِكِمْةِ الْقَضَا ** فَلَيْسَ يَنَالُ الْمَرْءُ مَا فَـاتَ بِالْجُهْـدِ
رابعاً : أن في دعاء أيوب عليه السلام ومُنَاجاته ربه آداب ينبغي أن نراعيها، ونتعلمها منها : أنه عرض حاله فقط على الله عز وجل وكأنه يقول : هذه هي حالي فإن كان يرضيك هذه الآلام ، والأمراض التي تسري في أْوْصَالي ، وهذه الآلام التي تؤرقني ، وإن كان يرضيك فقري ، وزوال أموالي وأولادي إن كان يرضيك هذا ، فلا شك أنه يرضيني ، وإن كان عفوك وكرمك ورحمتك تقتضي أن ترحمني ، وتزيل ما بي من بؤس ، وألم ، فالأمر كله إليك ، ولا حول ، ولا قوة إلا بك .
خامساً : حسن التوجه بالدعاء إلى الله سبحانه والثقة بالاستجابة.
يقول الأستاذ/ سيد قطب ـ رحمه الله ـ : وقصة ابتلاء أيوب عليه السلام من أروع القصص في الابتلاء، والنصوص القرآنية تشير إلى مجملها دون تفصيل، وأيوب عليهالسلام هنا في دعائه لا يزيد على وصف حاله ** أني مسني الضر ** ووصف ربه بصفته ** وأنت أرحم الراحمين ** ثم لا يدعوا بتغيير حاله ، صبراً على بلائه ، ولا يقترح شيئاً على ربه تأدباً معه ، وتوقيراً ، فهو أنموذج للعبد الصابر الذي لا يضيق صدره بالبلاء ، ولا يتململ من الضر الذي تضرب به الأمثال في جميع الأعصار ، بل إنه ليتحرج أن يطلب إلى ربه رفع البلاء عنه ، فيدع الأمر كله إليه اطمئناناً إلى علمه بالحال ، وغناه عن السؤال وفي اللحظة التي توجه فيها أيوب عليه السلام إلى ربه بهذه الثقة ، وبذلك الأدب كانت الاستجابة ، وكانت الرحمة ، وكانت نهاية الابتلاء . قال تعالى :** فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم ** رفع عنه الضر في بدنه فإذا هو معافى صحيح..
اللهم صلي على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة أجمعين.