تقول لغة العرب: خفض فلان الشيء يخفضه خفضاً هبط به، والخفض نقيض الرفع، والتخفيض هو التسكين وتهوين الأمر، فهو تفعيل من الخفض بمعنى الدعة والسكون، ومنه قول أبي بكر لعائشة رضي الله عنها: “خفضي عليك” أي: “هوني الأمر عليك ولا تحزني له” والجناح يطلق في حقيقته على ما يخفق به الطائر عند الطيران وقد يطلق الجناح على يد الانسان او عضده او جانبه كما يطلق الجناح على الناحية وخفض فلان جناحه لفلان أي ألان له جانبه وتواضع معه وترفق في معاملته وكأن الانسان يهبط بنفسه كما يفعل الطائر عند هبوطه وذلك ليرفع غيره في المعاملة فكأن خفض الجناح كناية عن اللين والرفق ومن هنا يأتي المعنى الأخلاقي لهذا التعبير: “خفض الجناح”.
مكانة رفيعة
ولقد ذكر القرآن المجيد فضيلة “خفض الجناح” في ثلاثة مواطن: الأول في سورة الحجر حيث يقول: “لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين”، والموطن الثاني في سورة الاسراء حيث يقول: “وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا”، والموطن الثالث في سورة الشعراء حيث يقول: “وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون”.
نلاحظ بادئ ذي بدء أن الخطاب في موطنين من هذه المواطن الثلاثة يتجه الى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء الخطاب في الموطنين بأسلوب الأمر والطلب وفي هذا ما فيه من إشارة الى علو مكانة هذه الفضيلة الأخلاقية القرآنية ومن تشريف لها عن طريق مطالبة الرسول بها أكثر من مرة ليكون خير قدوة للناس في الاستمساك بهذا الخلق الكريم كما نلاحظ ان المواطن الثلاثة كلها قد جاء فيها الحديث القرآني عن خفض الجناح لصيغة الأمر والطلب وذلك دليل على مدى العناية التي يعطيها كتاب الله تبارك وتعالى لهذه الفضيلة.
التواضع للوالدين
وإذا كان خفض الجناح عاماً شاملاً كل المؤمنين، فإن خفض الجناح جاء الأمر به خاصاً متعلقاً بشخصين عزيزين غاليين يعلو حقهما على حقوق سواهما ذلكما هما الأب والأم اللذان يقول القرآن للولد عنهما “واخفض لهما جناح الذل من الرحمة” أي تواضع لهما فوق طاعتهما وحفظ حقوقهما ورعاية حرمتهما فاخفض لهما جناح الذل بلين المنطق وجميل اللقاء ولطف المعاملة وحسن المداراة والمبادرة الى الخدمة والصبر على أمرهما وترك التبرم بمطالبهما ومما يقوي دلالة خفض الجناح على الرفق واللين والرحمة ان مادة “الجناح” لم تستعمل في لغة القرآن إلا في موطن تدل على اللين والأمن والرحمة والتكريم. فلننظر الى ما يقول القرآن في سورة طه: “واضمم يدك الى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء” ويقول في سورة القصص: “واضمم إليك جناحك من الرهب” أي لتضبط نفسك ويزول خوفك. ويقول في سورة فاطر: “الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة” ويقول في سورة الأنعام: “وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم” ويقول في سورة الأنفال: “وان جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله”.
القدوة النبوية
ولقد كان سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام مثلاً يحتذى في خفض الجناح ولين المعاملة فقد كان يلقي بأذنه الى من يحدثه فلا ينصرف عنه حتى يتم المتحدث ما يريد من حديث وإن طال. وكان إذا ما صافحه أحد لم ينزع يده من يد مصافحه حتى يكون المصافح هو الذي ينزع وكان لا يقطع على أحد حديثه وكان يحسن لقاء من يسعى إليه فكأنه أقرب الناس إليه وكان يبسط رداءه لضيفه حتى يجلس عليه وإذا غاب عنه أحد أصحابه سأل عنه فإن كان مسافراً دعا له وان كان مريضاً عاده وللرسول صلوات الله وسلامه عليه أحاديث تدعو الى اللين والرفق وخفض الجناح منها قوله: “إن الله يحب الرفق في الأمر كله” “من يحرم الرفق يحرم الخير كله” “أيما وال ولي فرفق ولان رفق الله تعالى به يوم القيامة” “تدرون من يحرم على النار يوم القيامة؟ كل هين لين سهل” وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يذكر الولاة الرعاة بخفض الجناح للناس فيقول لهم: “أيها الرعاة، ان للرعية عليكم حقاً فاعلموا انه لا شيء أحب الى الله ولا أعز من حلم إمام ورفقه” ونصح علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعض ولاته فيما يتعلق بمعاملة الناس فقال له: “فالبس لهم جلباباً من اللين تشوبه (تمزجه) بطرف من الشدة وداول بين القسوة والرأفة وامزج لهم بين التقريب والإدناء والإبعاد والإقصاء”.
وهذه الكلمات من الخليفتين الراشدين تبين لنا ان خفض الجناح ليس استسلاماً ولا هواناً ولا تدليلاً وانما هو استعمال اللين في مواطنه والرفق في مواضعه مع مزج ذلك بالحزم. ولقد عني رجال التربية الروحية والأخلاق في الاسلام بالدعوة الى خفض الجناح بكلماتهم المضيئة فقال أبو عون الأنصاري: “ما تكلم الناس بكلمة صعبة إلا وإلى جانبها كلمة ألين منها تجري مجراها” وقال ابن الحسين الرازي: “الخير كله في بيت ومفتاحه التواضع والشر كله في بيت ومفتاح الكبر” وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي: “أنفع التواضع ما نفى عنك الكبر وأمات منك الغضب”. وقال عروة: “كل نعمة محسود عليها إلا التواضع”.
أمد الله بتأييده وتوفيق وكرمه كل من خفض جناحه للمؤمنين.
منقول ...