مُرَاجَعاتٌ فِي مفهومِ الصّدَاقَةِ عِنْدَ ابنِ الجَوزِي ، وتقسيمُ النّاسِ عندَ الخليلي .
الحمد لله وكفى وصلاةٌ عَلَى النّبي المصطفى وبعدُ :
إنّ للنّاظر في أحوالِ السّلف وطريقة معاشهم وحياتهم فوائدَ كثيرةً ، فإنّهم هم القدوة لمن بعدهم ، ومن خلال تفصّحي لبعض أجزاء من سير أعلام النبلاء ( ديوان الرجال ) لصاحب المضافة الذهبي ، وجدتُ أنّهم كثيرًا ما كانَ للواحدِ منهم صاحبٌ يعينُهُ في طريق العلم ، ويذكّره بالله ، ويؤنسُ وحشته في ظلمة الغربة ، يسهرونَ الليل حتى الصبّاح في مناقشة مسألة كما حدث مع المحمدين وغيرهم ، أو يسافرونَ ويقطعونَ الفيافي مع بعضهم بل إنّ الشعراء الجاهليين كانوا لا يقطعونَ المسافات إلا مع صاحب في السفر وما قصة الملك الضلّيل عنّا ببعيد .
السببُ في نثرَ تلكَ الكلمات على سطور الصفحات هو كلامٌ في الصّيد وصاحبه من خبرَ الناس جيّدًا ، ابنُ الجوزي الذي أسمّيه - رائد فنّ التعامل مع الحياة والنّاس ومن أراد الخبرة فعليه بأخذ دورةٍ على يديه في قراءة كتابه - وقعَ نظري على كلامٍ له جميلٍ حقّا وصدقًا .
وكنتُ قد قسمّتُ النّاس الذين ألقاهم في طريق حياتي أقسامًا فرأيتُ أنّ كلامي يشبه كلام ابن الجوزي في مراتب الناس الذين قسّمتهم من قبل أن أقرأ كلامه ، فحمدتُ ربّي أن وافقَ رسمُ حروفي لوحته الكبيرة - فحمدًا لله وشكرًا - .
سأنقلُ كلام ابن الجوزي - رحمه الله وأنزل شآبيب الرحمة على روحه وقدّسها - لكم ثمّ أتبعُ بعد كلامه كلام الفقير أبي سُليمان - غفرَ الله له زلّته - :
يقولُ عبد الرحمن بن الجوزي ، تأمّل واقرأ :
(( كان لنا أصدقاء و إخوان أعتدُّ بهم ، فرأيتُ منهم من الجفاءِ ، و تَركِ شروطِ الصّداقةِ و الأخوةِ عجائب ، فأخذت أعتب .ثم انتبهت لنفسي فقلت : و ما ينفع العتاب ، فإنهم إن صلحوا فللعتاب لا للصفاء .
فَهممتُ بِمُقاطعتِهم ، ثم تفكّرتُ فرأيتُ النّاسَ بينَ معارفَ و أصدقاءَ في الظّاهرِ وإخوةً مباطنين ، فقلتُ : لا تصلحُ مقاطعَتُهم إنّمَا ينبغي أن تَنقلَهم من دِيوانِ الأخوةِ ، إلى ديوانِ الصّداقة الظاهرة .
فإنْ لم يصلحوا لها نقلتهم إلى جملة المعارفِ ، و عاملتهم معاملة المَعارف ، و من الغلطِ أن تعاتبهم .
فقد قال يحيى بنُ معاذ : بئسَ الأخُ أخٌ تحتاجُ أن تقولَ له اذكرني في دعائِك .
و جمهورُ النّاسِ اليومَ معارفٌ ، و يندرُ فيهم صديقٌ في الظاهر ، فأمّا الأخوةُ و المصافات فذاك شيءٌ نُسِخَ ، فلا يُطمع فيه ، و ما أرى الإنسانَ تصفو له أخوةٌ من النّسب و لا ولده و لا زوجته .
فدع الطمع في الصفا ، و خذْ عن الكلّ جانبًا ، و عاملهم معاملة الغرباء .
و إيّاك أن تنخدعَ بمن يظهرَ لك الودّ ، فإنّه معَ الزمانِ يَبينُ لك الحال فيما أظهرهُ ، و ربّما أظهرَ لكَ ذلك لسببٍ ينالهُ منكَ ، و قد قالَ الفُضيلُ بنُ عياض : إذا أردتَ أن تصادقَ صديقًا فأغضبه ، فإن رأيتَهُ كما ينبغي فصادقْه .
و هذا اليوم مخاطرة ، لأنك إذا أغضبت أحداً صار عدواً في الحال .
و السببُ في نسخِ حكمِ الصّفا ، أنّ السلفَ كان همتهم الآخرةَ وحدَها ، فصفت نيّاتهم في الأخوةِ و المُخالطةِ ، فكانت دينًا لا دنيا . و الآن فقد استولى حبُّ الدّنيا على القلوبِ ، فإن رأيتَ متملقًا في بابِ الدين فأخبره تقله . )) اهـ .
ثمّ هذا كلامُ العبدِ الفقيرِ الخليلي ورحمَ الله من قرأَ من أهل الملتقى الخليلِ ،
قال الفقيرُ المكدي أبو سُليمان الخليلي :
(( تقسيم الناس عندي في قطار الحياة الذي أقوده ، هو على الشكل التالي وسأبدأ من الأدنى إلى الأعلى :
المرتبة الرابعة : العابر .
( وهو كلّ شخصٍ أراهُ مرة أو مرتين في حياتي ثم يمضي كلّ منّا في طريقهِ في هذه الحياةِ ، ولا يؤثر في مسيرِ القطارِ ، وهؤلاء أراهم كلّما توقفَ القطار - قطار الحياة أقصدُ - في أيّ محطةٍ ، لينزلَ ويصعدَ آخرين)
وهذه المرتبةُ فيها الكثير الكثير من الناس عندي .
وهذا كلام ابن الجوزي ( و جمهورُ النّاسِ اليومَ معارفٌ ) .
المرتبة الثالثة : الصاحب .
( وهو شخص زادت مراتُ الرؤية له ، وأصبحَ بيننا كلامٌ ، ومشينا مع بعضِنا ، وبقيَ معي ولم ينزل من قطاري بل نقلتهُ من مرتبة إلى أخرى.)
وهذه المرتبة فيها الكثير لكن أقلّ من المرتبة الرابعة فتنبّه - رفع الله قدركَ أخي - .
وقد وافق الكلامُ كلام ابن الجوزي اقرأ - أعزكَ الله بعزّه ونصركَ على عدوّكَ نصرًا مؤزًا - : (( فقلتُ : لا تصلحُ مقاطعَتُهم إنّمَا ينبغي أن تَنقلَهم من دِيوانِ الأخوةِ ، إلى ديوانِ الصّداقة الظاهرة ))
المرتبة الثانية : ( الصديق )
( أختبرُ الصاحب الذي في المرتبةِ الثالثةِ فإن نجح في اختباري وصدقني أبقيتُه معي وأطلقتُ عليه اسم الصديق ، وأمّا من فشلَ ، فإنّني أوقفُ القطارَ وأنزلُه في أقربِ محطةٍ وأرميه وراء ظهر القطار وأمضي في مسيري ، مع بقاء الودّ بيننا ، ولا أشعرُه أنّه فشلَ في الاختبار لأني أخاف على شعورهِ فهو إنسانٌ مثلي . ) - إلا في مراتٍ قليلةٍ حصلت معي وقلتُ له : لكن يعلمُ الله أنّي أردتُ بقولي له فشلهُ نجاحهُ وإن أساء وجهةِ نصحي - والله على ما يقولُ القلب لشهيدٌ - .
وهذه المرتبة فيها 10 أو أقل بقليل من النّاس .
ثمّ قد وافق الخط خطّ أبي الفرج ، فقال : (( و إيّاك أن تنخدعَ بمن يظهرَ لك الودّ ، فإنّه معَ الزمانِ يَبينُ لك الحال فيما أظهرهُ ، و ربّما أظهرَ لكَ ذلك لسببٍ ينالهُ منكَ ، و قد قالَ الفُضيلُ بنُ عياض : إذا أردتَ أن تصادقَ صديقًا فأغضبه ، فإن رأيتَهُ كما ينبغي فصادقْه . ))
المرتبة الأولى : ( الخليل ) .
أمّا هذه المرتبةُ فهيَ لم يصلْ إليها إلا واحدٌ أو اثنان فقط ، وهي باختصار :
من أصبحتَ تناديه يا أنا ، أرأيتم المخلّل الذي تصنعه الأمّهات في البيوتِ ، فهي تتعاهده وتضعه في مكان لمدة طويلة وكلما زادت المدة كان طعمه أحلى .
وهذا هو الخليل من تخلّل في طول الطريق فأصبح أعلى من الصديق بكثير .
قال الله (( الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ))
تخللّت المحبة في قلوبنا .
والحمد لله ربّ العالمين . )) .
وأخيرًا لا أخبرُ أحدًا في أي مرتبة هو ولن أفعلَ - إن شاء الله -
وهذا وكان الفراغُ من إنشائه في :
فجرِ الخميس 12 - من شهر الله المحرّم - 1433 ، 8 - 12 - 2011 من تاريخ النصارى ، 7.24 صباح الخير - إن شاء الله - . أبو سُليمان الخليلي