الإنسان بين الملَك والشيطان
للإمام ابن قيّم الجوزية رحمه الله
من عقوبة المعصية أنها تُباعد عن العبد وليه وأنفع الخلق له وأنصحهم له، ومن سعادته في قربه منه، وهو الملَك الموكل به، وتدني منه عدوه وأغش الخلق له، وأعظمهم ضررا له، وهو الشيطان؛ فإن العبد إذا عصى الله تباعد منه الملك بقدر تلك المعصية، حتى إنه يتباعد منه بالكذبة الواحدة مسافة بعيدة.
وفي بعض الآثار: إذا كذب العبد تباعد منه الملك ميلا من نتن ريحه، فإذا كان هذا تباعد الملك منه من كذبة واحدة، فماذا يكون مقدار بعده منه مما هو أكبر من ذلك، وأفحش منه؟
وقال بعض السلف: إذا رُكب الذكر عجّت الأرض إلى الله وهربت الملائكة إلى ربها، وشكت إليه عظيم ما رأت.
وقال بعض السلف: إذا أصبح ابن آدم ابتدره الملك والشيطان، فإن ذكر الله وكبره وحمده وهلله، طرد الشيطان وتولاه الملك، وإن افتتح بغير ذلك ذهب الملك عنه وتولاه الشيطان.
ولا يزال الملك يقرب من العبد حتى يصير الحكم والطاعة والغلبة له، فتتولاه الملائكة في حياته وعند موته وعند بعثه، كما قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [سورة فصلت: 30 - 31] .
وإذا تولاه الملك تولاه أنصح الخلق وأنفعهم وأبرهم، فثبته وعلمه، وقوى جنانه، وأيده الله تعالى: ﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [سورة الأنفال: 12] .
فيقول الملك عند الموت: لا تخف ولا تحزن وأبشر بالذي يسرك، ويثبته بالقول الثابت أحوج ما يكون إليه في الحياة الدنيا، وعند الموت، وفي القبر عند المسألة.
فليس أحد أنفع للعبد من صحبة الملك له، وهو وليه في يقظته ومنامه، وحياته وعند موته وفي قبره، ومؤنسه في وحشته، وصاحبه في خلوته، ومحدثه في سره، ويحارب عنه عدوه، ويدافع عنه ويعينه عليه، ويعده بالخير ويبشره به، ويحثه على التصديق بالحق، كما جاء في الأثر الذي يروى مرفوعا وموقوفا: «إن للملك بقلب ابن آدم لمة، وللشيطان لمة، فلمة الملك: إيعاد بالخير وتصديق بالوعد، ولمة الشيطان: إيعاد بالشر وتكذيب بالحق» .
وإذا اشتد قرب الملك من العبد تكلم على لسانه، وألقى على لسانه القول السديد، وإذا بعد منه وقرب الشيطان، تكلم على لسانه، وألقى عليه قول الزور والفحش، حتى يرى الرجل يتكلم على لسانه الملك والرجل يتكلم على لسانه الشيطان وفي الحديث: «إن السكينة تنطق على لسان عمر» - رضي الله عنه - وكان أحدهم يسمع الكلمة الصالحة من الرجل الصالح فيقول: ما ألقاه على لسانك إلا الملك، ويسمع ضدها فيقول: ما ألقاها على لسانك إلا الشيطان، فالملك يلقي بالقلب الحق ويلقيه على اللسان، والشيطان يلقي الباطل في القلب ويجريه على اللسان.
فمن عقوبة المعاصي أنها تبعد من العبد وليه الذي سعادته في قربه ومجاورته وموالاته، وتدني منه عدوه الذي شقاؤه وهلاكه وفساده في قربه وموالاته، حتى إن الملك لينافح عن العبد، ويرد عنه إذا سفه عليه السفيه وسبه، كما اختصم بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلان، فجعل أحدهما يسب الآخر وهو ساكت، فتكلم بكلمة يرد بها على صاحبه، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله لما رددت عليه بعض قوله قمت، فقال: «كان الملك ينافح عنك، فلما رددت عليه جاء الشيطان فلم أكن لأجلس» .
وإذا دعا العبد المسلم لأخيه بظهر الغيب أمن الملك على دعائه، وقال: «ولك بمثل».
وإذا فرغ من قراءة الفاتحة أمنت الملائكة على دعائه.
وإذا أذنب العبد الموحد المتبع لسبيله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - استغفر له حملة العرش ومن حوله.
وإذا نام العبد على وضوء بات في شِعارِهِ ملك.
فملك المؤمن يرد عنه ويحارب ويدافع عنه، ويعلّمه ويثبّته ويشجعه، فلا يليق به أن يسيء جواره ويبالغ في أذاه وطرده عنه وإبعاده، فإنه ضيفه وجاره.
وإذا كان إكرام الضيف من الآدميين والإحسان إلى الجار من لوازم الإيمان وموجباته، فما الظن بإكرام أكرم الأضياف، وخير الجيران وأبرهم؟ وإذا آذى العبد الملك بأنواع المعاصي والظلم والفواحش دعا عليه ربه، وقال: لا جزاك الله خيرا، كما يدعو له إذا أكرمه بالطاعة والإحسان.
قال بعض الصحابة - رضي الله عنهم -: إن معكم من لا يفارقكم، فاستحيوا منهم وأكرموهم.
ولا ألأم ممن لا يستحي من الكريم العظيم القدر، ولا يجله ولا يوقره، وقد نبه سبحانه على هذا المعنى بقوله: ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [سورة الانفطار: 10 - 12] أي استحيوا من هؤلاء الحافظين الكرام وأكرموهم، وأجلوهم أن يروا منكم ما تستحيون أن يراكم عليه من هو مثلكم، والملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، وإذا كان ابن آدم يتأذى ممن يفجر ويعصي بين يديه، وإن كان يعمل مثل عمله، فما الظن بأذى الملائكة الكرام الكاتبين؟ والله المستعان.