قولُه: "ونُحِبُّ أَهْلَ العَدْلِ والأَمانَةِ، ونُبْغِضُ أَهْلَ الجَورِ والخيانَةِ"
ش: وهذا من كمالِ الإيمانِ وتمامِ العبوديَّة، فإنَّ العبادَةَ تتضمَّنُ كمالَ الـمَحَبَّةِ ونهايتَها، وكمال الذُّلِّ ونهايتُه، فمحَبَّةُ رسُلِ اللـهِ وأنبيائِه وعبادِه المؤمنينَ مِنْ مَحبَّةِ اللـهِ، وإنْ كانت المَحَبَّةُ التي للهِ لا يَستحِقُّها غيرُهُ(1)، فغيرُ اللـه يُحَبُّ في اللـهِ، لا مَعَ اللـه(2)، فإنَّ المُحِبَّ يُحِبُّ ما يحبُّ محبوبُهُ، ويُبغِضُ ما يُبغِضُ، ويُوالي مَنْ يُواليه، ويُعادي مَن يُعَاديه، ويرضى لرضائه، ويَغْضَبُ لغَضَبه، ويأمرُ بما يَأمُرُ به، ويَنهى عَمَّا يَنْهى عنه، فهو مُوافقٌ لِمَحبوبه في كلِّ حالٍ(3).
(1) من ضروب الشرك أن تحبَّ المخلوق كحبِّ اللـه أو أشد حباً، كما قال تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون اللـه أنداداً يحبونهم كحب اللـه، والذين آمنوا أشدُّ حباً لله**. وعلامة ذلك تظهر في الطاعَة والاتباع، فأيُّهما تُقدم طاعته واتباعه على الآخر، يكون هو المعبود المحبوب، كما قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون اللـه فاتبعوني يُحببكم اللـه**. وقال: {وإن أطعتموهم إنكم لمشركون**. وذلك بتقديم طاعتهم على طاعة اللـه. ونحو ذلك قوله تعالى: {قالوا وهم فيها يختصمون تاللـه إن كُنَّا لفي ضلالٍ مبين إذْ نسويكم بربِّ العالمين**. وذلك يكون في الخوف والرجاء، والحب والاتباع والطاعة. قال ابن تيمية رحمه اللـه في الفتاوى (17/145): فمن جعل لله نداً يحبه كحب اللـه، فهو ممن دعا مع اللـه إلهاً آخر، وهذا من الشرك الأكبر ا-هـ.
(2) قال ابن تيمية رحمه اللـه في الفتاوى 10/607: لا يجوز أن يُحب شيء من الموجودات لذاته إلاَّ هو سبحانه وبحمده، فكل محبوبٍ في العالَم إنما يجوز أن يُحبَّ لغيره لا لذاته، والرب تعالى هو الذي يجب أن يُحب لنفسه، وهذا من معاني إلهيته {ولو كان فيهما آلهة إلاَّ اللـه لفسدتا**. فإن محبة الشيء لذاته شرك، فلا يحب لذاته إلاَّ الله، فإن ذلك من خصائص إلهيته، فلا يستحق ذلك إلاَّ الله وحده، وكل محبوب سواه لم يُحب لأجله فمحبته فاسدة.. ا-هـ.
(3) وذلك أوثق وأعظم عرى الإيمان، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "أوثق عرى الإيمان الموالاة في اللـه، والمعاداة في اللـه، والحب في اللـه، والبغض في اللـه". وهذا لا يقوم به إلاَّ من كمل إيمانه، وكان إيمانه كالجبال، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن أحبَّ لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان". ومن تأمَّل أكثر أنواع الشرك تسللاً لنفوس الناس، يجدها تأتي من جهة الولاء والبراء، فمنهم من يوالي ويُعادي على أساس الانتماء القومي!! ومنهم مَن يوالي ويُعادي على أساس الانتماء الوطني أو القبلي!! ومنهم مَن يوالي ويُعادي على أساس الانتماء الحزبي أو المشيخي!! ومنهم من يوالي ويعادي على أساس التعصب للسلطان والحاكم!! ومنهم من يوالي ويعادي على أساس المصلحة الدنيوية، ومن أجل الدرهم والدينار وما أكثرهم في زماننا.. وهذا كله يُعتبر نوع من أنواع الشرك، أعاذنا اللـه منه، وجعلنا ممن يوالون ويعادون فيه، ابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى.
ومن تمام الدين والولاية أن يغضب المرء لغضب اللـه، ويرضى بكل ما يرضي اللـه تعالى، أما أن تُنتهك محارم اللـه، ويضيع الدين، ويسود الكفر والفساد والفجور ثم هو لا يغضب لله، ولا يحرك ساكناً، ولا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، فهذا ليس من أولياء اللـه، مهما تظاهر بالعلم، والزهد والورع، واتسع صيته بين الناس.
قال ابن القيم رحمه اللـه في الأعلام (2/177): وأي دينٍ وأي خيرٍ فيمن يرى محارم اللـه تُنتهك، وحدوده تُضاع، ودينه يُترك، وسنة رسول اللـه -صلى الله عليه وسلم- يُرْغَبُ عنها وهو بارد القلب ساكت اللسان؟! شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق، وهل بلية الدين إلاَّ من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مُبالاة بما جرى على الدين؟ وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذَّل، وجدَّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه!، وهؤلاء -مع سقوطهم من عين اللـه ومقت اللـه لهم- قد بُلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب، فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل.
وقد ذكر الإمام أحمد وغيره أثراً أن اللـه سبحانه أوصى إِلى ملكٍ من الملائكة أن اخسف بقرية كذا وكذا، فقال: يارب كيف وفيهم فلان العابد؟ فقال: به فابدأ، فإنه لم يتمعَّر وجهُهُ فيَّ يوماً قط.
وذكر أبو عمر في كتاب التمهيد أن اللـه سبحانه أوحى إِلى نبي من أنبيائه أن قل لفلان الزاهد: أما زهدك في الدنيا فقد تعجَّلتَ به الراحة، وأما انقطاعك إلي فقد اكتسبت به العز، ولكن ماذا عملت فيما لي عليك؟ فقال: يارب وأي شيء لك علي؟ قال: هل واليتَ فيَّ وليّاً أو عاديت فيَّ عدوّاً؟؟ ا-هـ. فتأمل وتدبر.
تهذيب شرح العقيدة الطحاوية