السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قالت :
في رمضان الماضي وفي ثُلثِه الثَّاني حصَل موقِفٌ عابِر أجرى مِن عينيَّ ماءهما ، وانطَق العَبرة مِن خَلدَي فصارت مكتوبةً على الخَدّ .
فبقيت متأثِّرة بهذا الموقِف لعِدَّة أيَّام ، وفي أثناء فترة الحُزن ! كان لي موعِدٌ مع طبيبة .
ذهبت إليها السَّاعة التَّاسِعة عند أذان العِشاء عِندنا وظننتني سأدخُل إليها أوَّلاً
لكنِّي وجدت رقمي هو 13 ! مِمّا اضطررت معه للبقاء في صالة انتظِار العيادة .
في وقت انتظاري جاءت قبلي نِساء وبعدي نِساء .
دخلت للمكان فسلّمت على الحاضِرات ثمّ صلّيت وبعدها اتّخذت ركنًا قصيًّا ؟!
جلست فيه وحدي أنتظِر دوري
وكانت النِّساء يتحدّثن في أمورٍ عديدة وكانت إحداهنَّ لها روحٌ خفيفة فتارةً تُطلِق تعليقات على نفسها ومرَّة تُقحِم طفلتها ، وأحيانًا تُعرِّج على الحاضرات فتلقي عليهنَّ دعابات تنطِلق بعدها أصوات الضَّحِك مِن النِّساء .
وأنا كنت أراقِب الوضع بصمت !
وحينًا تنطِق عيني بدمعة !
وحينًا أتأمَّل في الأرض أفكِّر ؟!
ولم أنزِع غِطاء وجهي كي لا تُعرَف (كواليس) ما أخبِّئ ؟!
أسندت رأسي للجِدار لعلَّ ساعات الانتظار تمرّ
ولا زالت النِّساء يتحاورن ويضحكن ويتناقشن حتى جاء دورُ كلِّ واحدة فتناقص الحضور
إلى أن جاء دوري السَّاعة الواحِدة !
فدخلت إلى الطبيبة فأنهيت أمر علاجي ثمّ عُدت للبيت .
************
تأمَّلت فيما حصل فذهبَ بي الخيال كي أصوِّر صالة انتظار العِيادة كأنَّها الحياة الدُّنيا .
لقد حضرت هي وحضر غيرها ومعهنَّ موثِقٌ مِن الطبيبة أنّها ستُدخِلهنَّ عليها
وقطعت لهنَّ وعدًا أنها لن تهمِل إحداهنَّ ولكنْ حتى يأتي الفرَج فلا بدّ مِن الانتظار .
تأمَّلت حالها ، وحال غيرها
لقد استمتعت تلك الأخوات بالانتظار ، حتى جاء الفرَج
بينما كانت الدَّقيقة عندها ثقيلةٌ ثقيــــــــــلة !
صوّرت حالها وحال الأخوات بِمَن يقدِّر اللهُ عليه بلاءً وعنده موثِقٌ مِن الله أنَّه لن ينساه ما دام يدعوه ** وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ **
وعنده إيمانٌ أنَّ الله قادِر على أن ينجيِّه ** قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ **
ويعرِف يقينًا أنّ الله هو مَن سينقِذه ويُعطيه ويُنعِم عليه ويستجيبُ له ويُكرِمه .
ومع هذه الإيمانيِّات كلّها إلا أنّه يعيش مع دمعته ! ويكتسيه حُزنه حتى غدت حياته سِلبيِّة
فلا يُشارِك مع أحد ، ولا يسعى إلى أحد ولا يُنعِش نفسه بتفاؤلٍ إيجابي .
نعم إنَّ كثيرًا مِن المسلمين حين تصيبه مُصيبةٌ ، فإنَّ أوَّل لَجَأه إلى الله
وأوَّل استعانته بالله تبارك وتعالى
ولكنَّه يعيش هذه الأمور مع إحباط شديد !
يعني يصوِّر لنفسه ويقول لها : وما حيلتي إلا الصَّبر .
ثمّ يُخرِج زفرات حرَّا ، تحرِق الجميل مِن حياته .
حتى لمَّا يدعو ربَّه يدعوه بنفس انهزاميِّة .
تمامًا مثلما كانت تصنَع تلك في صالة الانتظار !
حين جعلتْ مِن ساعات انتظارها دهورًا !
بينما استمتعت الأخوات بهذه السَّاعات حتى جاء الفرَج .
إنَّ مِن غير الحِكمة أن نقول للمُبتلى افرح بِما أصابك ولا تهِلّ عبراتك ولا تحزن على ما حلَّ بِكَ .
لكِن مِن الحِكمة أن يُقال أنَّ الله تعالى لمَّا قدَّر البلاء على عبده ، هو يعلم سبحانه أنَّ هذا مِما يُحزِن عبده ويصيبه بكمَد ..
فقدّره الرحمن الرحيم الحكيم العليم كي يمحِّص عبده ويرفَع درجته .
كي يرى صبر عبده وإيمانه .
كي يغفِر زلاته حين يراه صابِرًا ، فيكفِّر عن خطاياه .
ونقول للمُبتلى لا توقِف حياتك ولا تنكفئ على نفسك .
أيَّها المُبتلى إن وعد الله حَق وإنه آتيك ما وعدك مِن الفرَج والحبور ، ولكن لا تزيد نفسك بلاءً يحُزن مُضاف .
عِش يومَك وقدِّم لنفسك وللنَّاس .
استمتع بلحظاتك التي فيها فرَح
فإنّ الدُّنيا دائرة ولئن أصابك الحُزن في جزئها فإنَّ بقيَّة الدَّائرة تنتظِر بصماتك .
لا تُهمِل حياتك ولا ذاتك
ولا تُضيَّع على نفسك فُرصًا ربما ما تكررت .
اجعل لك بصمات في نفسك ومَن حولك
لا تكدِّر عيشك بِما ابتلاك الله فإنَّ هذا يأباه أرحم الرَّاحمين .
يقول العلامة ابن سعدي – عليه رحمات الله – عن قوله تعالى ** فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ** :
جاء الحديث عن صدق وعد الله بعد الصبر؛ لأنه مما يعين على الصبر، فإن العبد إذا علم أن عمله غير ضائع بل سيجده كاملا؛ هان عليه ما يلقاه من المكاره، ويسر عليه كل عسير، واستقل من عمله كل كثير .
إنَّ الحياة لها تقلّبات
ولا عيشٌ يصفو إلا عند ربِّ البريّات في جنّاته
أمّا الدُّنيا ففيها صروف الدَّهرِ تمضي ..
ومَن أرادها صافيةً نقيَّة عاش في أحزان لا تنقضي لأنها لن تصفوَ له
ومكــلِّف الأيامِ ضِدّ طباعِها = متطلِّبٌ في الماء جذوةَ نارِ
وإذا رجوتَ المستحيلَ فـإنَّما = تبني الرجاء على شفيرٍ هارِ
وقل :
قد عشتُ في الناس أطواراً على خِلَقٍ = شتى وقاسيتُ فيها اللينَ والقُطَعا
كُلاً لبسـتُ فلا النعمـاءُ تبطـرُني = ولا تخشّعـتُ من لأوائها جزعا
لا يملأ الهولُ صدري قبـل وقعـتهِ = ولا أضــيقُ به ذرعاً إذا وقعا
ما سُدّ لي مطلعٌ ضــاقت ثـنـيتهُ = إلا وجدتُ وراءَ الضيقِ متّسعا
إنَّنا نجني على أنفسنا حين نعيش البلاء بسلبيِّة ما فرضها الله علينا .
ونضيِّع على أنفسنا فُرصًا كثيرة مِن النَّفع والفُرَص الوظيفيِّة والدِّراسة ..
لأننا انزوينا وتلحّفنا بالحُـزن في بعض مراحِل حياتنا حين اُبتلينا .
ومَن أحسنَ ظنَّه بربِّه فإنه يعيش مُستكينًا خاضِعًا لله وأحكامه مع روحٍ مُقبِلة ونفسٍ مُنتِجة تبثّ نفعها لنفسها ولغيرها .