دواء القلوب، المقرِّب لحضرة علام الغيوب
جمع الفقير إلى ربه تعالى
محمد بن عبدالرحمن بن عباد الحنبلي مذهباً والنجدي وطنا
المتوفى لرحمة الله عام 1380
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مقلب القلوب والأبصار وموقظ القلوب الغافلة بالوعظ والتذكار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه وما يقضيه من الأمور والأقدار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المجتبى المختار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار.
أما بعد:
فهذه نبذة يسيرة اقتطفتها، وموعظة بليغة اختصرتها من كتب شتى وجعلتها تذكرة لمن أصغى إليها بلا امتراء ولم أجعلها على نسق واحد، بل قد تكون العبارات والفقر كل فقرة ليست على نسق الأخرى وذلك لضيق الوقت وعدم تيسر جمعها في وقت واحد، لأنها من كتب متنوعة وأوقاتها متفرقة أعنى حال جمعها وإنما المقصود بها تذكير الغافل وتنبيه وتعليم الجاهل وأرجو أن ينفع الله به من سمعها أو قرأها أو كتبها، وقد جمعت فيها من المنقول والمعقول ما يبهر العقول على اختصارها ووجازتها وأرجو الله سبحانه وتعالى أن لا يحرمني أجرها، وأن يجعل العمل خالصاً لوجهه إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير وهو حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(فصل)
قال تعالى: ﴿وذكِّر فإنَّ الذِّكرى تنفع المؤمنين﴾.
قال العماد ابن كثير: أي إنما ينتفع بها القلوب الموقنة.
وقال بعض السلف: المؤمنة الوجلة الخاضعة لربها، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2]. وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ ﴾ [الحشر: 18- 19].
قال بعض السلف: نسوا الله تركوا طاعته فأنساهم أنفسهم أن يقدموا لها خيراً أو يعملوا لها خيراً.
(فصل)
ولما كانت المواعظ للقلوب كالسياط للأبدان، كان القرآن كله مواعظ وقصصاً وأخباراً وإنذاراً وعبراً وتخويفاً وتفصيلاً قال تعالى: ﴿ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 138].
وقال تعالى: ﴿ نحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ ﴾ [يوسف: 3].
وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111].
وقال تعالى: ﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ [إبراهيم: 9].
وقال تعالى: ﴿ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ﴾ [إبراهيم: 5].
فسننه سبحانه في الماضين عبرة للغابرين وقد جرى للأمم السالفة من العبر ما هو موعظة لمن اعتبر لاسيما ما جرى على هذه الأمة من الوقائع العظام. ما هو عظة لمن بعدهم من الجهد والجوع والأمراض والأسقام والزلازل فإن ذلك تذكرة لمن له قلب كما قال تعالى في سياق آخر سورة ق: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37].
وقد حكى العماد بن كثير في التاريخ أنه حصل في مصر وما قاربها من البلاد غلاء وجهد قال وهلك خلق كثير من الفقراء والأغنياء ثم أعقبه فناء عظيم حتى حكى الشيخ أبو شامة في الذيل أن الملك العادل كفن من ماله في مدة شهر من هذه السنة السابعة والتسعين والخمسمائة من الهجرة نحواً من مائتي ألف وعشرين ألف ميت وأُكلت الكلاب والميتات بمصر وأكل من الأطفال خلق كثير وذكر أموراً كثيرة جداً تركتها قصداً لطولها وما فيها من الأمور الهائلة فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم قال في هذه القصة ووقع في هذه السنة وباء شديد ببلاد عنيزة بين الحجاز واليمن وكانت عشرين قرية فبادت منها ثمانية عشرة قرية لم يبق منها ديار ولا نافخ نار وبقيت أنعامهم وأموالهم لا قاني لها ولا يستطيع أحد أن يسكن تلك القرى ولا يدخلها بل كان من اقترب إليها هلك من ساعته نعوذ بالله من بأس الله وعذابه وغضبه وعقابه أما القريتان الباقيتان فإنه لم يمت منهما أحد، ولا عندهم شعور بما جرى على من حولهم بل هم على حالهم لم يفقد منهم أحد ولا عندهم من أمرهم خبر فسبحان الحكيم العليم وفي القرن السادس من الهجرة النبوية أتاهم عارض فيه ظلمات متكاثفة وبروق خاطفة ورياح عاصفة فقوي الجو بها واشتد هبوبها حتى انبثَّ لها أعنة مطلقات وارتفعت لها صفقات فرجفت لها الجدران واصطفقت وتلاقت على بعد. واعتنقت وثارت السماء والأرض عجاجاً حتى قيل إن هذه على هذه انطبقت ولا يحسب إلا أن جهنم قد سال منها واد وعدا منها عاد وزاد عصف الريح إلى أن أطفأ سراج النجوم ومزقت أديم السماء ومحت ما فوقه من الرقوم فكنا كما قال تعالى: ﴿ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ ﴾ [البقرة: 19] ويردون أيديهم على أعينهم من البوارق لا عاصم لخطف الأبصار ولا ملجأ من الخطب إلا معاقل الاستغفار وفر الناس نساءً ورجالاً وأطفالاً ونفروا من دورهم خفافاً وثقالاً لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً فاعتصموا بالمساجد الجامعة وأذعنوا للنازلة بأعناق خاضعة ووجوه عانية ونفوس عن الأهل والمال سالية ينظرون من طرف خفي ويتوقعون أي خطب جلي قد انقطعت من الحياة علقهم وعميت عن النجاة طرقهم ووقعت الفكرة فيما هم عليه قادمون وقاموا على صلاتهم وودوا لو كانوا من الذين عليها دائمون إلى أن أذن الله بالركود وأسعف لها المتهجدون بالهجود فأصبح كل مسلم على رفيقه يهنئه ويرى أنه قد بعث بعد النفخة وأفاق بعد الصيحة والصرخة وأن الله قد رد له الكره وأحياه بعد أن كاد يأخذه على غرة. ووردت الأخبار بأنها قد كسرت المراكب في البحار والأشجار في القفار وأتلفت خلقاً كثيراً من السفار ومنهم من فر فلا ينفعه الفرار إلى أن قال ولا تحسب أني أرسلت القلم محرفاً والعِلْم مجوفاً فالأمر أعظم ولكن الله سلم ونرجو أن الله قد أيقظنا بما به وعظنا ونبهنا بما فيه ولهُنا فما من عباده إلا من رأى القيامة عياناً ولم يلتمس عليها بعد ذلك برهاناً فما قصا الأولون مثلها في المثلات ولا سبقت لها سابقة في المعضلات والحمد لله الذي من فضله جعلنا نخبر عنها ولا يخبر عنا.
ونسأل الله أن يصرف عنا عارض الحرص والغرور ولا يجعلنا من أهل الهلاك والثبور.