التزام الحق وإقامة العدل
الشيخ عبدالرحمن بن محمد الدوسري
ورد في "المشكاة" عن عائشة - رضي الله عنها - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أتدرون مَن السابقون إلى ظل الله - عز وجل - يوم القيامة؟))، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سُئلوه بذلوه، وحكموا للناس كحُكْمِهم لأنفسهم))[1].
في هذا الحديث مَوْعظة وضياء للمتقين، الذين يَخْشَوْن ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون، فيه أحسن وعد مِن الله لمن رضي بالحق أخذًا وردًّا، قولاً وفعلاً، وحكم للناس بمِثْل ما يحكم هو لنفسه، أو بمثل ما يجب أن يحكم له به، فلا يتعاظَم في نفسه ويرى أنَّ له ميزة على غيره، فيبطر الحق ويغمط الناس، فيكون متكَبِّرًا بغيضًا إلى الله وإلى خلْقه، ولا يُعادي الحق إذا صدر على غير يديه، شأن أهل الغطرسة الذين تفاقم شرُّهم في هذا الزمان مِنْ محدثي الفوضى والبلبلة في الأمة، فيكون منهم، ولا يمتنع من أداء الحقوق بُخلاً أو ظلمًا، أو عتوًّا أو نُفُورًا؛ فيحيق به وعِيد الله في العاجل أو الآجل، بل يقبل الحق قولاً وفعلاً، سواء صدر له أو عليه، وسواء صدر مِن عدو أو صديق، ومن بعيد أو قريب، ويعطي كل ذي حق حقَّه كائنًا مَن كان، وبذا أمَر الله عبادَه في قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8].
أي: لا يحملنكم بُغضكم وعداؤكم لقومٍ على ترْك العدل واطراح الحق، مهما عادوكم وأبغضوكم، أو عاديتموهم وأبغضتموهم، فالنكرة في سياق النفي تقْتَضي العموم، هذا مع أن البغض والعداء لا يجوز أن يصدرَ إلا مِن أجل الله، ومع ذلك فالله - سبحانه - يحذر من أن يحمل ذلك البُغض على الجور في المعامَلة، وترْك الإنصاف، أو يكسب شيئًا يحيد به عن الحق.
فالدينُ الإسلامي يعتني بتزكية النفس، وطهارة القلب، وإصلاح الضمائر من الفساد الناشئ من مرض القلوب المعرِضة عن ذِكر الله وما نزل من الحق؛ فإنه مَن مَرِضَ قلبُه بفتنة الشبهات أو الشهوات، انصرف عن قبول الحق، وانغمس في النّزعات العَصَبيَّة، والشهوات النفسيَّة، والمطامع النفعيَّة الانتهازيَّة؛ كما هو مُشاهَد اليوم ممن تخلقوا بالأخلاق الأوربية، وتقبلوا مذاهبها، وطبقوا مبادئها، على الرغم مِن أن أكثرها مُغاير لشرع الله، بل فيه تبديل لِملة إبراهيم، وتقديم بين يدي الله ورسوله، وجعل الخيرة في الأمور لهم دون ما قضى الله ورسوله، فتجد العربي يُعامل العربي - ولو كان يهوديًّا أو نصرانيًّا أو باطنيًّا - أحسن مما يعامل المسلم بكثير، وقد ينظر بعض العرَب المتفرنجين إلى المسلم من غير العرب كنظرتهم إلى الصِّهْيوني، مقتدين بشعارات محترفي السياسة في الحكومات العلمانيَّة من الذين لَم يلتفتوا إلى حكم الله في ورد ولا صدر، فيحمل أوزارهم مَن تحتهم مِن المسلمين المستضعفين الذين تعمل كل دول العالم ضدهم، فأين هذا من الحق والعدل والإنصاف الذي يأمر به الدِّين الإسلامي في كتاب الله وسنة رسوله - عليه الصلاة والسلام؟
ففي هذه الآية وهذا الحديث وغيرهما أمْرٌ من الله ورسوله بإقامة العدْل، والتزام الحقّ قوْلاً وعملاً، وأخذًا وردًّا، دون أن يؤثِّر على المسلم في ذلك بُغض أو عداوة، أو عنصريَّة في اللون، أو عصبية للجنس، أو الاختلاف في الوطن أو الحكم، ويقول الله زيادة عن هذا: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10].
فَمَن فرَّق بينهم لغاية من الغايات النفسيَّة، فهو مُخطئ، وأشد منه جُرمًا المفَرِّقُ بينهم لاعتقاد أحقية المبادئ والمذاهب الأوربيَّة من جنسيَّة ووطنيَّة وأهداف مذهبيَّة مادية، ومَن يواصل ذلك فإنَّ عملَه هو عين المحادة والمشاققة لله ورسوله.
فمتى ينتبه المخدوعون بالمخططات الاستعمارية الثقافية التي أفسدتِ العقائد والأخلاق والضمائر؟ فليعلم كل واحد أنه إذا أراد منفعة أخيه أو صديقه أو محبوبه، فليحكم له أو عليه بالحق، وليطبق العدْل؛ ليطهره مِنَ الظُّلم والسحت، فإنه إذا حكم له بما لا يستحق، أو حاباه في شيء، فقد ضرَّه وهدم ضميره، وأغرى غيره أيضًا على سوء الفعل، وارتكب الغِش والخيانة مِن جميع الأطراف والنواحي، وإذا لَم يقبل الحق لنفسه ويدفعه من نفسه على الصورة المرضية، فهو مُطفف يستوفي لنفسه ما لا يوفيه لغيره، ويُدخِل نفسه في الوعيد بالوَيْل الشديد في سورة (المطفّفين)، وفَّقنا الله للرشد والهداية، وجنَّبنا موارد الظالمين.
[1] ذكره التبريزي في "مشكاة المصابيح" برقم: (3711)، وأخرجه الإمام أحمد في "المسند"، (6/ 67 - 69).
وسند الحديث ضعيف؛ فيه ابن لهيعة: صدوق، خلط بعد احتراق كتبه، ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرها، كما قال الحافظ في "التقريب" (3563)، وقد تكلَّم فيه أغلب أئمة الجرح والتعديل، وقد جعل علماء المصطلح في كُتُبهم روايته مثالاً لرواية المختلط بسبب فَقْد كتبه، ولكن في الآية الكريمة التي ساقها المؤَلِّف - رحمه الله - كفاية لِمَا أرادَه مِن مَوْضُوع البحْث.