الدعوة إلى الله .. مهمة تحتاج إلى صبر
حسام العيسوي إبراهيم
إن بناء وتشيد القصور ، وإقامة المشاريع العملاقة ، واستخراج الكنوز وتنقيتها من شوائب الأرض ، بل إن هدم الجبال ، وردم المحيطات ، وحفر الأنهار ، كل ذلك هين يسير بجانب تغيير سلوك إنسان ، إن تغيير السلوك يحتاج إلى أضعاف مضاعفة من الجهد المبذول في القيام بهذه المهمات الصعبة التي ذكرناها ؛ وذلك نظراً لما أودعه الله في هذا الإنسان من قوة عظيمة تفوق الجبال والبحار وكل الكائنات وذلك رغم صغر حجمه .
والدعوة إلى الله هي في جملتها حزمة من قوانين ومعارف وأخلاق وسلوكيات يحملها الداعية ليغير بها المدعو ؛ فهي ليست كلمات تقال ولكنها كالبذرة توضع في الأرض ، لو تركها الزارع وشأنها لضاعت وتغلبت عليها حشرات الأرض ؛ لكنه إذا تناولها بالعناية والرعاية والتعهد أثمرت ونفع الله بها الزارع وغيره من الناس .
قد يصيب اليأس بعض الدعاة إلى الله ، فهو يلقي بالموعظة تلو الموعظة ، وهو يفكر ويبتكر ، ثم يطبق على أرض الواقع ؛ ولكن بعد هذا المجهود قد لا يجد الثمرة المرجوة ، فيصاب الداعية باليأس من المدعوين .
وذلك يحدث لعدم رعاية المدعو وتعهده بالتربية ، أو لأن الداعية لا يبذل جهداً مع مدعويه ، أو لأن الداعية يستعجل قطف الثمرة قبل نضوجها واستوائها .
ومن خلال قرائتنا لآيات القرآن الكريم يتبين لنا تاريخاً كبيراً للدعاة والمصلحين من الأنبياء والمرسلين والصالحين ممن اختارهم الله لتبليغ دعوته ونشر رسالته ،صبروا على قومهم فلم ييأسوا حتى كتب لهم الفوز بالقلوب وإقبالها على الله عزوجل " حتى إذا استيئس الرسل وظنو أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا " [جزء من الآية 110:يوسف] ، فها هو أبو الأنبياء نوح عليه السلام يستفرغ قصارى جهده لتبليغ دعوته لقومه " قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً " [نوح :5] " ثم إني دعوتهم جهاراً (8) ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً (9) " [نوح] ومكث عليه السلام على هذه الحالة تسعمائة وخمسين عاماً " فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً " [ العنكبوت :14] وها هو خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام ينتقل من موقف إلى موقف ومن حالة إلى أخرى في الدعوة إلى الله " وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين " [ الأنعام :74] " وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان " [جزء من الآية 80: الأنعام] " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " [جزء من الآية 258 : البقرة] " إذ قال لأبيه ياأبت لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً " [42 : مريم] ، وها هو خاتم الأنبياء والمرسلين لا يكل ولا يمل في دعوته لقومه " فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً " [الكهف : 6] " لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين " [3: الشعراء ] ، وهكذا كان حال الأنبياء والمرسلين والصالحين على مر العصور كانوا يتحلون بالصبر في دعوتهم لأقوامهم ، لم تكن كلمة اليأس موجودة في قواميسهم.
وعن عائشة – رضي الله عنها- أنها قالت للنبي – صلى الله عليه وسلم – هل أتى عليك يوم كان أشدَّ من يوم أحد ؟ قال : لقد لقيتُ من قومك ، وكان أشدُّ ما لقيتُه منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي وإذا أنا بسحابةٍ قد أظلتني ، فنظرت فإذا فيها جبريل – عليه السلام – فناداني فقال : إن الله - تعالى – قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك ، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم . فناداني ملك الجبال فسلَّم عليَّ ثم قال : يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك ، وأنا ملك الجبال ، وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك ، فما شئت : إن شئت أن أطبقت عليهم الأخشبين . فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً " [متفق عليه] .
وعلى هذا النهج من الصبر على المدعوين سار الصحابة – رضوان الله عليهم- فها هو مصعب بن عمير – رضي الله عنه - عاد إلى نبيه فاتحاً للقلوب ، فاستحق بحق أن يلقبه النبي – صلى الله عليه وسلم – بمصعب الخير ، فذات يوم كان مصعب جالسًا ومعه سعد بن زرارة وهو يعظ الناس ففوجئ بقدوم أسيد بن حضير سيد بني عبد الأشهل بالمدينة وهو يكاد ينفجر من فرط الغضب على ذلك الرجل الذي جاء من مكة ليفتن قومه عن دينهم، فوقف مصعب أمام أسيد وقد كان ثائرًا، ولكن مصعب انفجرت أساريره عن ابتسامة وضاءة وخاطب أسيد قائلاً: أو لا تجلس فتستمع؟ فإن رضيت أمرنا قبلته وإن كرهته كففنا عنك ما تكره. قال أسيد: أنصفت. وركز حربته وجلس يصغى وأخذت أسارير وجهه تنفرج كلما مضى مصعب في تلاوة القرآن وفي شرح الدعوة للإسلام, ولم يكد يفرغ من كلامه حتى وقف أسيد يتلو الشهادتين. سرى النبأ في المدينة كالبرق فجاء سعد بن معاذ وتلاه سعد بن عبادة وتلاهم عدد من أشراف الأوس والخزرج. وارتجت أرجاء المدينة من فرط التكبير. وفى موسم الحج التالي لبيعة العقبة قدم من يثرب سبعون مسلمًا من بينهم امرأتان، وكان ذلك فاتحة مباركة لهجرة الرسول إلى المدينة.
وهاهم الدعاة والمصلحون في كل عصر يسيرون على نهجه – صلى الله عليه وسلم – وصحابته – الكرام – فها هو البنا – رحمه الله !
يزور ثلاثة آلاف قرية في مصر من جملة الأربعة آلاف قرية ، كان ينتقل من محافظة إلى أخرى في يوم واحد ، بل إنه كان يصلي الظهر في مركز كذا بمحافظة كذا ويصلي العصر في مركز آخر بمحافظة أخرى ، لم يكن البنا تذوق عيناه طعم النوم إلا ساعات معدودة ، بل دقائق معدودة ينامها في وسائل المواصلات ، ومع ذلك كان البنا _رحمه الله ! يعرف حق ربه ، كان يقف بين يديه بالليل بعد انقضاء النهار بتعبه ومشقته ، وكأن هذا الإتصال بينه وبين ربه هو شحنته التي كان يتزود بها لتكملة المسير .
ذات يوم كان أحد قيادات الإخوان يتنقل في إحدى محافظات الصعيد ، ووجد جبلاً شاهقاً يرى الناس من فوقه كحجم النمل الصغير ، فحدثه مرافقه : ياأستاذ ، أتعرف هذا الجبل ، ذات يوم صعدته مع الإمام البنا لدعوة الناس عليه ، ووجد البنا أناساً منعزلين عن الحياة ، فأخذ يحدثهم عن دعوة الإسلام بأسلوب يحمل الحب والشفقة عليهم .
هكذا أخي الداعية ، لا يستطيع أحدنا أن يحمل دعوة الخير إلا إذا حمل مؤهلاتها ، وعرفنا أن أهم مؤهلات الداعية هي الصبر على المدعو والإشفاق عليه ، وتحمل المشاق في سبيل هدايته ودعوته ، وتعريفه بربه – عزوجل .
إن خلق اليأس ليس في قواميس الدعاة إلى الله ، فهم يبذلون ويجتهدون ويتيقنون أن الله معهم ولن يترهم أعمالهم ، فهم لذلك لا يألون جهداً في دعوة غيرهم ، ولا يعدمون وسيلة في الوصول إلى قلوب المدعوين ، فهم يعلمون أن هداية فرد خير من الدنيا وما فيها ، وخير مما طلعت عليه الشمس ، بل خير من حمر النعم .
جعلنا الله وإياكم من الداعين إليه ، الدالين خلقه إلى دينه ودعوته ، وأن يفتح الله لنا وبنا وعلينا .