أحكام المسح على الخفين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعد فإن من تيسير الله عز وجل على العباد ولطفه بهم أن راعى أحوالهم المتغيرة في العبادة ولم يشق عليهم ولم يكلفهم ما لا يطيقون فشرع لهم رخصا حال المشقة. ومن تلكم الرخص العامة الواردة في الشريعة المسح على الخفين بدلا من غسل القدمين بالماء لأجل البرد والسفر والمرض ونحوه.
والمسح على الخفين مشروع بالكتاب والسنة والإجماع. فأما الكتاب فقوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ). على قراءة الجر عطفا على مسح الرأس. وأما السنة فقد ثبت عن جماعة من الصحابة حتى بلغ التواتر. وقد أخرج الشيخان عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأهويت لأنزع خفيه فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما). ولهما عن جرير: (أنه بال ثم توضأ ومسح على خفيه ثم قام فصلى فسئل فقال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صنع مثل هذا). وقد اتفق أهل العلم على هذا قال أحمد: (ليس في قلبي من المسح شيء فيه أربعون حديثا عن أصحاب النبي). وقال الحسن: (حدثني سبعون من أصحاب رسول الله أن رسول الله مسح على الخفين). وقد نقل ابن المنذر عن ابن المبارك قال : (ليس في المسح على الخفين عن الصحابة اختلاف). وهو من شعار أهل السنة ولم يخالف في هذا إلا أهل البدع.
والأظهر أنه يرخص للعاصي في سفره أن يمسح على الخفين لعموم أدلة المسح فالرخصة عامة لكل أحد ولأنه لم يرد في الشرع ما يدل على نهيه ولأن مخالفته منفكة عن جهة العبادة فلا وجه لمنعه من الرخصة وتعزيره لا يكون في منعه من فعل العبادة إنما يكون فيما ورد به الشرع فيصح مسحه وإن كان آثما ظالما لنفسه في هذا السفر الذي أنشأه في سبيل الشيطان. وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله.
والأفضل للمتطهر أن لا يتكلف لبس الخفين والمسح عليهما وإنما يفعل ما هو أرفق به فإن كان لابسا النعلين غسل قدميه وإن كان لابسا الخفين مسح عليهما لأنه لم يرد في الشرع ما يدل على مشروعية تقديم المسح على الغسل ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم تكلف ذلك وإنما هو رخصة يفعل عند الحاجة.
ويشترط لصحة المسح على الخفين ستة شروط:
الأول: أن يكون الخف ساترا لمحل الفرض يستوعب القدم حتى الكعبين ولا ينكشف منها شيء لأن هذا هو الخف المعهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم الوارد في النصوص. فإن كان لا يستر لقصره أو تخرقه أو صفائه أو رقته لم يجز المسح عليه ولا يجزئ التطهر به.
الثاني: أن يكون الخف طاهرا لأن النبي صلى الله عليه وسلم نزع خفيه لما تقذرا في صلاته كما ثبت في سنن أبي داود. فإن كان نجسا لعينه أو لطارئ عليه لم يجز المسح عليه. وإذا أصاب الخف نجاسة ثم دلكه بالتراب الطهور ونحوه طهر بذلك وصحت الصلاة به.
الثالث: أن يكون لبس الخفين بعد كمال الطهارة بعد الفراغ من الوضوء كله لحديث المغيرة. فإن لبس الخفين حال الحدث أو قبل إتمام الوضوء لم يجزئه المسح. وإن لبس خفا على طهارة ثم خلعه وهو باق على طهارته لم يحدث جاز له لبسه مرة أخرى وخلعه قبل أن يحدث فإن أحدث لم يلبسه حتى يتطهر.
الرابع: أن يكون المسح على الخفين في الحدث الأصغر من غائط وبول ونوم أما الحدث الأكبر من جنابة وحيض ونفاس فلا يجزئ المسح عليه لحديث صفوان بن عسال قال (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا مسافرين أو سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة لكن من غائط وبول ونوم). رواه الترمذي وصححه.
الخامس: أن يكون المسح في المدة المؤقتة شرعا يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر لحديث علي رضي الله عنه قال: (جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم).رواه مسلم. وأما حديث أبي بن عمارة في عدم التوقيت فحديث ضعيف لا يصح أعله أحمد والبخاري وضعف الجمهور مذهب مالك رحمه الله في عدم التوقيت.
السادس: أن يمكن متابعة المشي بالخف فإن كان واسعا يسقط عند المشي أو يتخرق لم يجز المسح عليه لأنه غير ساتر لمحل الفرض وهذا شرط متفق عليه بين الفقهاء.
وقد اشترط بعض الفقهاء شرطا زائدا وهو كون الخف يثبت بنفسه والصحيح أنه لا يشترط ذلك لعدم وروده في الشرع ولذلك رخص بعض الفقهاء في المسح على الخف إذا كانا يستمسك بغيره بالسيور والرباط.
والأظهر أنه إذا لبس خفا مغصوبا أو مسروقا ومسح عليه أجزأه ذلك وصحت صلاته مع الإثم لأن النهي لا يعود إلى ذات العبادة أو شرطها وهو منفك عن الأمر وقد أدى العبادة بشرطها.
ويجزئ المسح على الخفين إذا لبسهما بعد التيمم لعدم الماء أو العجز عن استعماله لأن التيمم طهارة شرعية تقوم مقام الماء في رفع الحدث ويمسح عليه طيلة المدة فإذا وجد الماء وجب عليه أن ينزع خفيه ويتطهر بالماء ويغسل قدميه بالماء ثم يلبسه ويمسح عليه وهذا متفق عليه عند الأئمة الأربعة.
والصحيح أن الخف إذا كانت فيه خروق يسيرة عرفا يجزئ المسح عليه دفعا للحرج لأنه يشق التحرز من ذلك في كثير من الأحوال والشريعة جاءت بمراعاة هذا المعنى في العبادات حتى في تطهير النجاسات ولأنه يسير لا يؤثر في الحكم. أما الخف الذي خروقه أو شقوقه كثيرة عرفا فلا يجزئ المسح عليه لأنه لا يعرف لبسه عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصدق عليه الاسم الشرعي للخف لأن الأصل في الخف أن يكون ساترا للفرض وإطلاق الاسم في النصوص ينصرف للخف الصحيح ولم يرد دليل خاص على التسامح في ذلك والقول بالرخصة العامة لا ينضبط والاعتماد على وصف خفاف الصحابة مجرد احتمال لا تثبت بمثله الأحكام وقد يحمل على حالة الضرورة والأئمة الأربعة لا يرخصون بالمسح على الخف إذا كانت خروقه فاحشة.
والكندرة والبسطار والبوت إن كان طويلا يستر محل الفرض ويغطي الكعبين جاز المسح عليه وإن كان قصيرا لا يغطي الكعبين لم يجز المسح عليه لأنه ليس ساترا للفرض وهذا قول عامة الفقهاء خلافا للأوزاعي.
وتبتدأ مدة المسح من أول مسحة بعد الحدث لأن الشارع علق الحكم بالمسح لا الحدث فناسب ابتداء المدة منه أما الحدث فهو سبب مبيح للمسح.
وإذا ابتدأ المسح حال الإقامة ثم سافر أتم مسح مسافر. وإذا ابتدأ المسح حال السفر ثم أقام أتم مسح مقيم في كلا الحالتين يبني على ما مضى ولا يستأنف المدة من جديد لأن العبرة حينئذ بآخر حاله فالحكم انتقل إليه وتعلق به ولا يشرع الاحتياط في ذلك. وإذا شك في ابتداء المدة وقت الإقامة أو السفر بنى على الإقامة لأنه اليقين وما زاد مشكوك فيه. وإذا شك في انتهاء المدة ولم يترجح له شيء عمل باليقين وخلع خفه.
وصفة المسح أن يبل يديه بالماء ثم يمسح بهما مفرجتي الأصابع على ظاهر الخف من أصابع قدميه إلى أصل ساقه ويكفي أكثره ولا يشترط استيعابه. ولا يجزئ الاقتصار على مسح عقبيه أو أسفله لقول علي رضي الله عنه: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه). رواه أبوداود. وذكر بعض الفقهاء أن المستحب أن يسمح باليد اليمنى الرجل اليمنى وباليسرى اليسرى ولكن لم يرد في الشرع هذه الصفة المخصوصة في حديث صحيح وما روي في ذلك عند البيهقي ضعيف لانقطاعه فالأمر في ذلك واسع سواء مسح عليهما دفعة واحدة أو مسح اليمنى ثم اليسرى. ولو مسح بأي طريقة أجزأ ذلك كما نص عليه أحمد. ولا يشرع تعميم المسح على جميع الخف ظاهره وباطنه وما روي في السنن معلول لا يصح. والسنة أن تكون مسحة واحدة ولا يشرع الزيادة على ذلك لظاهر النصوص ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم مسح أكثر من مرة. ولا يشرع غسل الخفين بدل المسح وهو من التنطع والاعتداء في الطهارة.
ويجوز المسح على الجورب (الشراب) من صوف وقطن وغيره وقد روي فيه أحاديث عن المغيرة بن شعبة وغيره ولا يصح في هذا الباب شيء وإنما العمدة على آثار الصحابة فقد روي عن تسعة من الصحابة والقياس الصريح على الخف يقتضيه. ويشترط في المسح عليه أن يكون ثخينا لا يشف ما رواءه من البشرة فإن كان رقيقا شفافا لا يجزئ المسح عليه عند عامة الفقهاء. ولا يشترط أن يكون منعلا خلافا للشافعي وأبي حنيفة.
وإذا لبس خفين أحدهما فوق الآخر فإن ابتدأ المسح على الخف التحتاني ثم لبس خفا فوقه تعلق الحكم بالتحتاني واستمر في المسح عليه ولا يجزئه المسح على الفوقاني وإن ابتدأ المسح على الفوقاني تعلق الحكم به ولم يمسح على التحتاني فإن نزع الفوقاني انقطعت مدة المسح ولم يكمل مسحه على التحتاني واستأنف المسح من جديد. ويجوز له إذا لبس خفا على خف قبل أن يحدث أن يمسح ما شاء منهما.
وإذا كان الخف مخرقا أو مشقوقا أو قصيرا لا يستر القدم فلبس عليه أو تحته خفا آخر يغطي النقص في الخف الأول صارا بمنزلة البطانة والظهارة للخف الواحد وجاز المسح عليهما بشرط أن يستديم لبسهما فإذا خلع أحدهما بطل المسح لفوات الشرط.
وتبطل طهارة الماسح بأمور ثلاثة:
1- حصول الحدث الأكبر.
2- خلع الخف.
3- انكشاف القدم أو بعضها.
وإذا بطلت توضأ وغسل قدميه ولبس خفيه ثم استأنف المسح من جديد.
ولا تبطل الطهارة بانتهاء مدة المسح إذا كان الماسح باقيا على طهارته لم يحدث وإنما يبطل المسح فقط فلا يجزئه المسح مرة أخرى بعد انتهاء المدة حتى يلبس الخفين على طهارة.
خالد بن سعود البليهد
عضو الجمعية العلمية السعودية للسنة