ذُو الوَجْهَيْن في النَّار
هذه المقالة أعجبتني وهي بقلم: د. وائل محيى الدين الزرد
من الطبيعي جداً أن يكونَ الإنسانُ له لسانٌ واحدٌ في الدنيا والآخرة، وهذا مستقرٌ في أذهان الناس جميعاً، ويظهر أننا –هنا - أمامَ إنسانٍ بلسانيينِ في الدنيَا وفي الآخرةِ أيضاً، ولكنْ لسانا الآخرةِ من نارٍ والعياذ بالله، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَجِدُ مِنْ شَرِّ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ" رواه البخاري.
وهذا ليس بظلمٍ ولا حيفٍ فالجزاء من جنس العمل ولا يظلم ربك أحداً، فمن أتى الناس بوجهٍ طلقٍ وعباراتٍ ملؤها الثناءُ والترحابُ وأسمع الناسَ عبارات الحب واللطف والشوق والتحنان، وضَمَرَ في قلبه غشاً وغلاً وحقداً وحسداً، فما أن يزولَ وَجهُ الذي مُدِحَ ويَغربَ خيالُ الذي رُحِّبَ به إذا بلسانه ينال منه ومن عرضه وكرامته كَأَنلَّمْتَكُنبَيْنَكُمْوَبَيْنَهُمَوَدَّةٌ، ليكون بذلك من شرارِ النَّاس عند الله وعند رسوله وعند المؤمنين أيضاً فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "... وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَيَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ" رواه البخاري.
تجد في الناس إخواناً في العلانية، يصافح بعضُهم بعضاً، ويوَدُّ بعضُهم بعضاً، فإذا خلا كل منهم لآخر لَعَن أخاه وسبه واغتابه وشتمه، وهم على صراط واحد، وعلى عقيدة واحدة، إخوانٌ لكن في العلانية، فإذا كانوا في السريرة رأيتَهم أعداءَ متباغضين متلاعنين يحذر بعضُهم من بعض، يأبى أحدهم إلا أن يكون بوجهين ليكون ذا لسان من نار يوم القيامة، فعَنْ عَمَّارٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كَانَ لَهُ وَجْهَانِ فِي الدُّنْيَا كَانَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِسَانَانِ مِنْ نَارٍ" رواه أبو داود في سننه.
ورحم الله القائل:
وَكَمْ مِنْ صَدِيق وُدُّهُ بِلِسَانِهِ *** خُؤْونٍ بِظَهْرِ الْغَيْبِ لا يَتَذَمَّمُ
يُضَاحِكُنِي عُجْبًا إِذَا مَا لَقِيتُهُ *** وَيَصْدِفُنِي مِنْهُ إِذَا غِبْتُ أَسْهُمُ
كَذَلِكَ ذُو الْوَجْهَيْنِ يُرْضِيكَ شَاهِدًا *** وَفِي غَيْبِهِ إِنْ غَابَ صَابٌ وَعَلْقَمُ
إنَّ ذا الوجهين لا يحبُّ لأنه جبانٌ خَوَّارٌ عديمُ الصدق فاسدُ القلب خَرِبُ الطوية لا يعيرُ نظرَ اللهِ إليه انتباهاً، قد جعل اللهَ أهونَ الناظرين إليه، استهان بأعراض الناس واستخف بغيبة المؤمنين، وقد كان بعض السلف يقول: "ما ذُكِرَ عندي إنسانٌ إلا مثلته جالساً، فقلت في غيبته ما أحب أن يسمع".
تدخل في مجلس تحمل في قلبك كل الحب وتمني الخير للجالسين ويرحب بك الجميع غير أنك ما أن تقوم حتى يتولى ذَمَّك أكثرُهم ترحاباً وأكثرُهم تحبباً، يلمزك بكذا ويهمزك بكذا، ينذر ويحذر - بإخلاص- ولو أنصف لأمسك لسانه عن الخوض في الأعراض ولانتهى عن ذكر الناس بالسوء لكنه النفاق الذي يأبى إلا أن يخرج على ألسنة من لا يحبون للمؤمنين الخير والعياذ بالله.
إن حال ذي الوجهين يشابه إلى حد كبير حال المنافقين الذين يجيدون بجدارةٍ فَنَّ الغش والخداع القائم على إظهار البسمة وإبطان الحقد والحسد، والقائم على طيب اللقاء وتبادل البسمات وإعلان الشوق وبث المودة وكلمات الحب والثناء، وفي الخلوة غيبةٌ ونميمةٌ واستهزاءٌ وسخريةٌ وهمزٌ ولمزٌ، كالمنافقين تماماً ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [سورة البقرة – الآية: 14].
فَكَمْ مُضْمِرٍ بُغْضًا يُرِيكَ مَحَبَّةً *** وَفِي الزَّنْدِ نَارٌ وَهُوَ فِي اللَّمْسِ بَارِدُ
ذو الوجهين يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلبُ، قد أسرك ظاهِرُهُ وأبغضك باطِنُهُ، ليته يتمنى لك الخير إذاً لنصحك ولكنه يتركك لتقع فيبتسم في وجهك قائلاً: "لا بأس" وإذا أدرت ظهرك شحذ لسانه وأظهر ما أضمر من سوء وبأس، قد قتله الحسد والغل ويظهر لك أنه معك كالفُل، يصافحك بيده مبتسماً مبجلاً يقوم من مجلسه إذا رآك، ويُعْمِلُ في إشاعةَ الفاحشة وبثِّ الرذيلة عندما يغيب عنه محياك، ولو أنصف لكان من إخوان الصدق ولكن:
أُحِبُّ مِنَ الإخْوانِ كُلَّ مُوَاتي *** وَكلَّ غَضِيض الطَّرْفِ عَن عَثَرَاتي
يُوَافِقُنِي في كُلِّ أَمْرٍ أُرِيدُهُ *** ويحفظني حياً وبعدَ مماتي
فَمِنْ لِي بِهذَا ؟ لَيْتَ أَنِّي أَصَبْتُهُ *** لَقَاسَمْتُهُ مَالِي مِنَ الْحَسَنَاتِ
تَصَفَّحْتُ إخْوَاني فَكانَ أقلَّهُمْ *** على كثرةِ الإخوان أهلُ ثقاتي