مهارة الدعاء (بقلم الشيخ محمد العريفي)
لا أعني هنا الكلام عن فضل الدعاء .. وآدابه وشروط إجابته ..
فهذا ليس له علاقة مباشرة بما نناقشه هنا وهو مهارات التعامل مع الناس ..
وإنما أعني : كيف تجعل الدعاء مهارة في كسب الناس ؟
ومن ذلك أن تدعو الله أيضاً أن يهديك إلى أحسن الأخلاق .. كما كان الرسول
يدعو قائلاً :
(اللهم لك الحمد .. لا إله إلا أنت .. سبحانك وبحمدك .. ظلمت نفسي .. واعترفت بذنبي ..
فاغفر لي ذنوبي .. لا يغفر الذنوب إلا أنت ..
اهدني لأحسن الأخلاق .. لا يهدي لأحسنها إلا أنت ..
واصرف عني سيئها .. إنه لا يصرف سيئها إلا أنت ..
لبيك وسعديك والخير بيديك .. ) .. ( )
نعود إلى أصل كلامنا .. كيف تجعل الدعاء مهارة في كسب قلوب الناس ..؟
الناس عموماً يحبون الدعاء لهم .. حتى عند السلام عليهم ولقائهم يفرحون إن دعوت لهم ..
فمع قولك : كيف الحال وما الأخبار ؟
أضف إليها : الله يحرسك .. الله يجعلك مباركاً .. الله يثبت قلبك ..ولا تكن عبارات دعائك مستهلكة أو اعتيادية مثل : الله يوفقك .. الله يحفظك ..
نعم هي دعاء حسن لكن السامع اعتاد عليه حتى لم يعد يرن في أذنه عند سماعه ..وإن قابلت أحداً معه أولاده .. فادع لهم وهو يسمع .. الله يقر بهم عينك .. الله يجمع شملكم .. الله يرزقك برهم .. ونحو ذلك ..
أنا أحكي هذا عن تجربة .. لقد جربته كثيراً كثيراً .. فرأيته يسلب قلوب الناس سلباً ..
دعيت في ليلة من ليالي شهر رمضان قبل سنتين إلى لقاء مباشر في إحدى القنوات الفضائية ..
كان اللقاء حول أحوال العبادة في رمضان .. وكان انعقاد اللقاء في مكة المكرمة في غرفة بأحد الفنادق مطلة على الحرم .. كنا نتحدث عن رمضان .. والمشاهدون يرون من خلال النافذة التي خلفنا المعتمرين والطائفين خلفنا على الهواء مباشرة ..
كان المنظر مهيباً .. والكلام مؤثراً .. حتى إن مقدم البرنامج رق قلبه وبكى أثناء الحلقة ..
كان الجو إيمانياً .. ما أفسده علينا إلا أحد المصورين !! كان يمسك كاميرا التصوير بيد .. واليد الثانية فيها سيجارة .. وكأنه يريد أن لا تضيع عليه لحظة من ليل رمضان إلا وقد أشبع رئتيه سيجاراً !!
أزعجني هذا كثيراً .. وخنقني وصاحبي الدخان .. لكن لم يكن بد من الصبر .. فاللقاء مباشر .. وما حيلة المضطر إلا ركوبها !!
مضت ساعة كاملة .. وانتهى اللقاء بسلام ..
أقبل إليّ المصور - والسيجارة في يده - شاكراً مثنياً .. فشددت على يده وقلت .. وأنت أيضاً أشكرك على مشاركتك في تصوير البرامج الدينية .. ولي إليك كلمة لعلك تقبلها .. قال : تفضل .. تفضل ..
قلت : الدخان والسجا .. فقاطعني : لا تنصحني .. والله ما فيه فائدة يا شيخ ..
قلت : طيب اسمع مني .. أنت تعلم أن السجاير حرام وأن الله يقول .. فقاطعني مرة أخرى : يا شيخ لا تضع وقتك .. أنا مضى لي أكثر من أربعين سنة وأنا أدخن ..
الدخان يجري في عروقي .. ما فيه فااائدة .. كان غيرك أشطر !!
قلت : يعني ما فيه فائدة ؟!!
فأحرج مني وقال : ادع لي .. ادع لي ..
فأمسكت يده وقلت : تعال معي ..
قلت تعال ننظر إلى الكعبة ..
فوقفنا عند النافذة المطلة على الحرم .. فإذا كل شبر فيه مليء بالناس .. ما بين راكع وساجد .. ومعتمر وباك .. كان المنظر فعلاً مؤثراً ..
قلت : هل ترى هؤلاء ؟
قال : نعم ..
قلت : جاؤوا من كل مكان .. بيض وسود .. عرب وأعاجم .. أغنياء وفقراء ..كلهم يدعون الله أن يتقبل منهم ويغفر لهم ..
قال : صحيح .. صحيح ..
قلت أفلا تتمنى أن يعطيك الله ما يعطيهم ؟ قال : بلى ..
قلت : ارفع يديك .. وسأدعو لك . أمن على دعائي ..
رفعت يدي وقلت : اللهم اغفر له .. قال : آمين .. قلت : اللهم ارفع درجته واجمعه مع أحبابه في الجنة .. اللهم ..
ولا زلت أدعو حتى رق قلبه وبكى .. وأخذ يردد : آمين .. آمين ..
فلما أردت أن أختم الدعاء .. قلت : اللهم إن ترك التدخين فاستجب هذا الدعاء وإن لم يتركه فاحرمه منه ..
فانفجر الرجل باكياً .. وغطى وجهه بيديه وخرج من الغرفة .
.
مضت عدة شهور .. فدعيت إلى مقر تلك القناة للقاء مباشر ..
فلما دخلت المبنى فإذا برجل بدين يقبل
عليَّ ثم .. يسلم علي بحرارة .. ويقبل رأسي .. وينحني على يدي ليقبلها .. وهو متأثر جداً ..
فقلت له : شكر الله لطفك .. وأدبك .. وأقدر لك محبتك .. لكن اسمح لي فأنا لم أعرفك ..
فقال : هل تذكر المصور الذي نصحته قبل سنتين ليترك التدخين ؟!
قلت : نعم ..
قال : أنا هو .. والله يا شيخ إني لم سيجارة في فمي منذ تلك اللحظة ..
ما أجمل الذكريات إذا كانت سارة ..
في موسم الحج قبل ثلاث سنوات
.. ذهبت لإلقاء كلمة في إحدى حملات الحج الكبرى في صلاة العصر ..
بعد الكلمة ازدحم الناس يسألون ويسلمون .. حاولت التخلص السريع لارتباطي بمحاضرة بعدهم فوراً في حملة أخرى
..
لاحظت من بينهم شاب يقدم رجلاً ويؤخر أخرى .. مستحٍ أن يزاحم الناس ..
التفت إليه .. ومددت يدي نحوه فصافحني .. ثم سألته في وسط الزحام .. : عندك سؤال ؟
قال : نعم ..
فجررته إليَّ والناس مزدحمون .. حتى اقترب ..
قلت : ما سؤالك ؟
فقال وهو مستعجل : ذهبت لرمي الجمرات .. معي جدتي وأختي .. وكان زحاماً شديداً .. و ..
انتهى من سؤاله .. فأجبته عليه ..
شممت منه خلال ذلك رائحة دخان .. فتبسمت وسألته : تدخن ؟
قال : نعم ..
قلت : أسأل الله أن يغفر لك .. ويتقبل حجك .. إن تركت التدخين من هذه اللحظة ..
سكت الشاب .. كان واضحاً من وجهه أنه تأثر بالكلام ..
مضت ثمانية أشهر ..
فذهبت لإلقاء محاضرة في إحدى المدن ..
أقبلت إلى المسجد .. فإذا شاب وقور ينتظرني عند بابه .. تفاجأت به لما رآني .. يقبل عليّ متحمساً ويسلم بحرارة ..
لم أعرفه .. لكني بادلته السلام والترحيب ..
قال : هل عرفتني ..
قلت : أشكر لك لطفك .. ومحبتك .. لكني لم أعرفك ..
قال : هل تذكر الشاب المدخن
الذي قابلته في الحج .. ونصحته بترك التدخين ؟
قلت : نعم .. نعم ..
قال : أنا هو .. أبشرك ولله الحمد أني ما وضعت السيجارة في فمي منذ تلك اللحظة .. تركت التدخين .. فصلحت كثير من أمور حياتي ..
هززت يده مشجعاً .. ومضيت .. وقد أيقنت أن الدعاء للناس في وجوههم .. وهم يسمعون .. ربما يكون أكثر تأثيراً من النصح المباشر ..ومثله لو رأيت شاباً باراً بأبيه .
. فقلت له : جزاك الله .. الله يوفقك .. الله يجعل أولادك بارين بك ..
بلا شك أن هذا الدعاء سيكون دافعاً له أكثر ..
كان النبي الكريم .. عليه أفضل الصلاة والتسليم .. مبدعاً في استعمال الدعاء لدعوة الناس وكسبهم والتأثير فيهم لتقريبهم للدين.
..بقلم الشيخ محمد العريفي