الحقوق الخاصة بالزوجة
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: المهر
المهر: هو العِوض الواجب للمرأة، مقابل نكاحها أو وطئها بشبهة ونحوه[1].
وله تسعة أسماء، هي: الصَّدَاق، والصدُقَة، والمهر، والأجر، والعُقْر، والنِّحلة، والفريضة، والعليقة، والحِبَاء، ويُقال: أصدقها ومهرها، وفي لغة قليلة: أمهرها[2].
وهو حق مِن آكد حقوق المرأة على زوجها، فيجب عليه أن يوفِّيَها مهرها كاملاً، بلا منَّة ولا أذى، ولا بخْس ولا مماطَلة؛ قال الله - تعالى -: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً**[3]؛ أي: فريضة واجبة، وقيل: هبة من الله للنساء، وقيل: عطية بطيب نفس، وقيل: ديانة، يقال: فلان ينتحل كذا؛ أي: يدين به[4].
قال ابن قُدامة: "قال أبو عبيد: يعني عن طيب نفس بالفريضة التي فرضها الله - تعالى - وقيل: النِّحلة: الهبة، والصداق في معناها؛ لأن كلَّ واحد من الزوجين يستمتع بصاحبِه، وجعل الصداق للمرأة، فكأنه عطيةٌ بغير عوض"[5].
وقال - تعالى -: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ**[6]، وقال تعالى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً**[7]؛ يعني: مهورهن فريضة معلومة[8].
والآيات صريحةٌ في وُجُوب المهر للزوجة، وأنه لا يجوز التواطُؤ على ترْكه، وهذا مُجمَع عليه[9]، بل لا يسقط ولو أسقطتْه المرأة، ولو شرط عليها زوجها أنه لا مهر لها، ورضيتْ بذلك، فالشرطُ باطلٌ بالإجماع؛ لأنَّ التراضي لا يُسقط ما أَوْجَبَهُ الله.
وبهذا نعلم أنَّ المهرَ ليس رُكنًا من أركان النِّكاح، ولا شرطًا من شُرُوط صحَّته، وإنما هو أثرٌ من الآثار المترتِّبة عليه، وحق واجب للزوجة على زوجها كالنفقة[10].
لكنَّها لو وهبتْه له، أو أبرأتْه منه بعد ثُبُوته لها، فلا حرج، كما في قوله - تعالى -: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا[11]**[12].
قال ابن قُدامة: "وإذا عفت المرأة عن صداقها الذي لها على زوجها، أو عن بعضه، أو وهبتْه له بعد قبْضه، وهي جائزة الأمر في مالها، جاز ذلك وصحَّ، ولا نعلم فيه خلافًا؛ لقول الله - تعالى -: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ**[13]؛ يعني: الزوجات، وقال - تعالى -: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا**، وقال علقمة لامرأته: هبي لي من الهنيء المريء؛ يعني: من صداقها"[14].
والوجوب لا يستلزم تسمية المهر عند العقْد، فيصح النِّكاح من غير تعيين المهر والاتِّفاق عليه، في قول عامَّة أهل العلم[15].
قال الكاساني: "لا خِلاف في أنَّ النِّكاح يصح من غير ذكر المهر، ومع نفْيه؛ لقوله - تعالى -: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً**[16].
رَفَعَ - سبحانه - الجُناح عمَّن طَلَّق في نكاح لا تسمية فيه، والطلاق لا يكون إلاَّ بعد النكاح، فدلَّ على جواز النِّكاح بلا تسمية"[17].
ولو دَخَلَ بها من دون تسمية المهر، أو أنه لا مهر لها، ورضيتْ بذلك الزَّوجة، فيجب لها مهرُ المِثْل، وكذلك لو ماتتِ المرأةُ قبل الدُّخول يؤخَذ مهرُ المثل منَ الزوج، ولو مات الزوج قبل الدخول تستحق مهرَ المثل مِن تَرِكتِه[18].
ومهر المِثْل: هو مهرُ مثلها مِن قريباتها، كأختها، وعمَّتها، وبنت عمها، ممن يماثلنها سنًّا، وجمالاً، ومالاً، ودينًا، وعلمًا، وعقلاً، وبكارة أو ثيوبة، فإن لم يكن في نساء عصبتها مَن هو في مِثْل حالها، فمِن نساء أرحامها، كأمِّها، وخالاتها، وبناتهن، فإنْ لم يكن في نسائها إلا دونها، زيدتْ بقدر فضيلتها؛ لأن زيادة فضيلتها تقتضي زيادة المهر، وإن لم يوجدْ إلا فوقها، نقصتْ بقدر نقصها[19].
والأفضل تسمية المهر، والاتِّفاق على قدْره وجنْسه، ووقت أدائه قبل الدُّخول؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُزوج ويَتَزَوَّج كذلك، وقال للذي زوَّجه الموهوبة: ((هل من شيء تصدقها به؟))، فالتمس فلم يجد شيئًا، فقال: ((التمس ولو خاتمًا من حديد))، فذهب فطلب ثم جاء، فقال: ما وجدت شيئًا ولا خاتمًا من حديد، فقال: ((هل معك من القرآن شيء؟))، قال: معي سورة كذا وسورة كذا، قال: ((اذهب، فقد أنكحتكها بما معك من القرآن))[20]؛ ولأنه أقطع للنزاع والشقاق[21]، وأحفظ لحق المرأة، وأبرأ لذِمَّة الزوج.
وكل ما جاز أن يكون ثمنًا وقيمةً لشيء، أو أجرةً، جاز أن يكون صداقًا[22].
ولا حد لأكثره بإجماع العلماء[23]، كما لا حد لأقلِّه على الصحيح[24]، وقد دلَّت الأحاديث الصحيحة على أن قبضة السويق، وخاتم الحديد، والنعلين، وتعليم القرآن، وإسلام الزوج، يصح تسميتها مهرًا، وتحل بها الزوجة، كما دلتْ على أن المغالاة في المهر مكروهةٌ في النكاح، وأنها من قلة بركته وعُسره، وقد زوَّج سيد أهل المدينة من التابعين سعيدُ بن المسيب ابنتَه على درهمين، ولم ينكرْ عليه أحدٌ؛ بل عُدَّ ذلك من مناقبه وفضائله[25].
والواجب أداء المهر بحسب العقد المتَّفق عليه بينهما، أو العُرف السائد في بلدهما، إن لم يتفقا على خلافه؛ لأنَّ المعروف عُرفًا كالمشروط شَرْطًا، سواء كان الاتِّفاق أو العُرف بتعجيله كله، أو تأجيله كله، أو تقسيطه، أو تعجيل نصفه وتأجيل النصف الآخر؛ لقوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ**[26]، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أحق الشروط أن تُوفُوا به، ما استحللتم به الفروج))[27].
وإن شرط تعجيل نصفه وتأجيل النصف الآخر، فإن كان الأَجَل محددًا بوقتٍ معينٍ، فهو إلى أجله، وإن أطلق، فلا يحل النِّصف الآجل إلا بموت أو فراق، وعلى ذلك جرتِ العادة في كثير من ديار الإسلام[28].
المطلب الثاني: النفقة
وفيه خمسة فروع:
الفرع الأول: الدليل على وُجُوب النفقة للزوجة:
نفقة الزوجة واجبة بالكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول، وبيانها كالتالي:
أولاً: من الكتاب:
1- قول الله - تعالى -: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ**[29]، فدلَّتِ الآية على وُجُوب نَفَقة الزوجة على زوجها، وأن إلزامه بهذا الواجب من أسباب جعْل القوامة له عليها[30].
2- قوله - عزَّ وجل -: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُاللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا**[31].
وقد جاءتْ هذه الآية في سياق أحكام الزَّوجات، والخطاب فيها للأزواج، أن ينفقوا على زوجاتهم بقدر استطاعتهم، والأمر للوجوب.
قال القرطبي في الآية: "أي: لينفق الزوجُ على زوجته، وعلى ولده الصغير على قدْر وسعه، حتى يوسع عليهما إذا كان موسعًا عليه، ومَن كان فقيرًا، فعلى قدر ذلك"[32].
3- قوله - عز وجل -: {وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا**[33].
فالضمير في قوله: {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ** راجع إلى الوالدات المذكورات في أول الآية، فدلَّت الآية على أنه يجب على والد الطفل نفقةُ الوالدات، وكسوتهن بالمعروف[34].
إلى غير ذلك من الآيات، وهي كثيرة[35].
ثانيًا: من السنَّة:
1- ما رواه جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناسَ في حجة الوداع في عرفات، فقال: ((فاتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله[36]، ولكم عليهن أن لا يوطئن فُرُشَكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك، فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقُهن وكسوتُهن بالمعروف))[37].
فقوله: ((ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف))، يدل على أن ذلك واجب لهن؛ فإن ((على)) تفيد الوجوب.
2- عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخلتْ هند بنت عتبة - امرأة أبي سفيان - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني، ويكفي بنيَّ، إلا ما أخذتُ من ماله بغير علمه، فهل عليَّ في ذلك من جناح؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خُذي من ماله بالمعروف، ما يكفيك ويكفي بنيك))[38].
فهذا الحديثُ صريح في وُجُوب نفقة الزوجة على زوجها، وأن ذلك مقدَّر بكفايتها، ولو لم تكن نفقتها واجبة عليه، لم يأذنْ لها بالأخذ من ماله بغير إذنه[39].
والأحاديث في الباب كثيرة.
ثالثًا: الإجماع:
فقد أجمعتِ الأمةُ على وُجُوب نفقة الزوجة على زوجها، إذا سلمتْ نفسها إليه، وكان الزوج بالغًا[40].
قال ابن قدامة: "وأما الإجماع، فاتَّفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن، إذا كانوا بالغين، إلا الناشز منهن، ذكره ابن المنذر[41]، وغيره"[42].
رابعًا: المعقول:
وذلك أن المرأة محبوسة على زوجها؛ لمنفعته ورعاية حقه، فكانت نفقتُها عليه؛ لأن نفع حبسها عائد إليه[43].
فالنفقة جزاء الاحتباس، وكل مَن كان محبوسًا لمنفعةٍ تعود إلى غيره، كانتْ نفقته عليه، وذلك كالوالي، والقاضي، والمفتي، والمضارب، والعامل على الصّدقات، ونحوهم[44].
الفرع الثاني: شُرُوط وُجُوب النَّفَقة للزوجة:
لا تَجِبْ نفقة الزوجة على الزوج إلا بشرطين:
الشرط الأول: أن تسلمَ المرأة نفسَها إلى زوجها، وتمكِّنه من الاستمتاع بها على الوجه الواجب عليها، سواء حصل الدخول بها، أم لم يحصل، ما دامت باذلةً نفسها له، وليس ثمة مانع من قِبلها يمنعه حقه فيها.
فأما إن منعتْ نفسها، أو منعها أولياؤها، أو تساكتا بعد العقد، فلم تبذل ولم يطلب، فلا نفقة لها؛ لأن النفقة تجب في مقابلة التمكين المستحق بعقد النكاح؛ فإذا وُجد استحقت، وإذا فُقد لم تستحق شيئًا[45].
الشرط الثاني: أن تكون كبيرة يُمكن وطؤها، فإن كانت صغيرة لا تحتمل الوطء[46]، فلا نفقة لها؛ لأن النفقة تجب بالتمكين منَ الاستمتاع، ولا يتصور ذلك مع تعذُّر الاستمتاع، فلم تجب لها النفقة، كما لو منعها أولياؤها من تسليم نفسها[47].
ولأن المرأة الناشز الخارجة عن طاعة زوجها، لا يلزم الزوجَ نفقتُها، فهذه أولى؛ لأن تلك يمكن للزوج أن يقهرها، ويستمتع بها كرهًا، وهذه لا يمكن ذلك فيها بحال[48].
وإن كانت الزوجة صغيرة يمكن وطؤها، لزمته نفقتها، إذا سلَّمتْ نفسها إليه، كالكبيرة، فلا يشترط في الزوجة البلوغ، وإنما المشترط هو إطاقتها للوَطْء[49].
أما إذا كان الزوج صغيرًا لا يتأتَّى منه الجماع، وكانت زوجته كبيرة يمكن وطؤها، ومكَّنتْه من نفسها، فيلزم زوجَها الصبي نفقتُها، عند جماهير العلماء، فهو مذهب الحنفية[50]، والمشهور عند الشافعية[51]، والحنابلة[52].
وذَهَبَ مالك[53]، والشافعي في أحد قوليه[54]، وأحمد في إحدى الروايتين عنه[55]: إلى أنه لا تلزمه نفقتها؛ لأن الزوج لا يتمَكَّن منَ الاستمتاع بها، فلم تلزمه نفقتها، كما لو كانت صغيرة.
والصحيح هو الأول؛ لأنها سلمتْ نفسها إليه تسليمًا صحيحًا، فوجبتْ لها النفقة، كما لو كان الزوج كبيرًا، ولأنَّ الاستمتاع بها ممكن، وإنما تعذر من جهته هو، فتلزمه نفقتها، كما لو تعذر استمتاعه بها لكونه مريضًا، أو مجبوبًا، أو عِنِّينًا، أو غائبًا، أو محبوسًا في دَين أو غيره.
ففي كل هذه الصور وجد التمكين من جِهتها، وإنما تعذر الاستيفاء من جهته، فتلزمه نفقتها[56].
وأما قياسهم الصغير على الزوجة إذا كانتْ صغيرة، فلا يصح؛ لأنَّ الصغيرة لم تسلم نفسها تسليمًا صحيحًا، ولم تبذل ذلك[57].
وإذا تقرر هذا؛ فإن ولي الصبي يجبر على نفقة زوجته مِن ماله، أي: من مال الصبي؛ لأن نفقة زوجته واجبة عليه، والولي ينوب عنه في أداء الواجبات عليه، كديونه، وزكواته، وأروش جناياته، وقيم متلفاته[58].
الفرع الثالث: مَن تعتبر حاله في تقدير النفقة الواجبة للزوجة:
اتَّفق العلماء على أنه يجب على الزوج نفقةُ الموسرين، إذا كان الزوجان موسرَينِ، وإذا كانا معسرَينِ، فيجب عليه نفقة المعسرين، وإذا كانا متوسطين، فيجب عليه نفقة المتوسطين[59].
أما إذا كان أحدهما موسرًا، والآخر معسرًا، فقد اختلف العلماء في مَنْ تعتبر حاله في تقدير النفقة الواجبة للزوجة، هل يعتبر حالهما معًا؟ أو يعتبر حال الزوج فقط؟ على قولين:
القول الأول: أن نفقة الزوجة معتبرة بحال الزوج فقط، في يساره، وإعسارِه، وتوسُّطه.
فإن كان موسرًا وهي معسرة، فلها عليه نفقة الموسرين، وإن كان معسرًا وهي موسرة، فلها عليه نفقة المعسرين، وإن كان متوسِّطًا وهي موسرة أو معسرة، فلها عليه نفقة المتوسطين.
وهذا هو مذهب الشافعية[60]، وظاهر الرواية عند الحنفية[61].
أدلتهم:
استدلوا بقوله - تعالى -: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا**[62].
قالوا: إنَّ هذه الآية نص في محلِّ النزاع، وإنَّ الواجب في النفقة معتبَر بحال الزوج من حيث يساره وإعساره، ولا يُنظر إلى حال المرأة في الزهادة والرغبة، ولا إلى منصبها وشرفها[63].
القول الثاني: أنَّ نفقة الزوجة معتبَرة بحال الزوجينِ جميعًا؛ فإذا كان أحدهما موسرًا، والآخر معسرًا، فلها عليه نفقة المتوسطين، فنفقة الفقير على الغنية أزيد من نفقته على الفقيرة، كما أن نفقة الغني على الفقيرة أقل من نفقته على الغنية.
وهذا هو مذهب المالكية[64]، والحنابلة[65]، وقال به جَمْع منَ الحنفية، وعليه الفَتْوى عندهم[66].
أدلتهم:
استدلوا لذلك بالآية السابقة، وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لهند بنت عتبة: ((خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك))[67].
فقد أفادت الآية أن النفقة منوطة بيسار الزوج وإعساره، وأفاد الحديث أن الزوجة لها من مال زوجها ما يكفيها بالمعروف، وليس من المعروف أن تجعل نفقة الموسرة كنفقة المعسرة، فالمعروف يقتضي أن يعتبر بحال الزوجة من حيث يسارها وإعسارها، ومن حيث منصبها وشرفها.
ويدل لذلك أن النفقة واجبة للزوجة على زوجها بحكم الزوجية، ولم تقدَّر شرعًا، فكانت معتبرة بحال الزوجة كمهرها.
ولهذا فالواجب أن يؤخذ بمقتضى الدليلين، وأن يراعى حال كلا الزوجين، فتكون النفقة معتبَرة بحالهما معًا"[68].
الترجيح:
يظهر لي - والله أعلم - أن الراجح القول الثاني؛ وذلك لما فيه من الجمع بين الدليلين، والعمل بكلا النَّصَّيْن، ومراعاة كل منَ الزوجين.
الفرع الرابع: أنواع النفقة الواجبة للزوجة، ومقدار الواجب في كل نوع:
وفيه خمس مسائل:
المسألة الأولى: الطعام:
دلَّتِ النصوص السابقة وإجماع العلماء، على أنه يجب على الزوج تأمينُ الطعام لزوجته، وما يتبع ذلك من ماء، وإدام، ودهن للطعام، ووقود، ونحو ذلك[69].
ولكنهم اختلفوا في مقدار الواجب منه على قولين:
القول الأول: أن الواجب على الزوج من الطعام وتوابعه، قدر ما يكفي زوجتَه، والكفاية راجعة إلى العرف، وليست مقدَّرةً بالشرع؛ بل تختلف باختلاف الأزمان، والبلدان، والأحوال، والأشخاص[70].
وهذا هو قولُ جماهير العلماء منَ الحنفية[71]، والمالكيَّة[72]، والحنابلة[73]، وبه قال بعضُ الشافعية[74]، ونسب إلى الشافعي في قوله القديم[75].
أدلتهم:
استدلوا بما يلي:
1- أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهند: ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف))[76].
والاستدلال بهذا الحديث مِن وَجْهَيْنِ:
الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نصَّ على الكفاية، فدل على أن نفقة الزوجة مقدَّرة بالكفاية[77].
الثاني: أنه أَمَرَهَا بأخْذ ما يكفيها من غير تقدير، وردَّ الاجتهادَ في ذلك إليها، ولو كانت مقدرة، لأمرها أن تأخذ المقدَّر لها شرعًا، ولمَا أمرها أن تأخذ ما يكفيها من غير تقدير.
ومن المعلوم أن قدر كفايتها لا ينحصر في المدين، بحيث لا يزيد عنهما ولا ينقص[78].
ولهذا قال النووي في "شرحه لصحيح مسلم"[79]: "ومذهب أصحابنا: أن نفقه الزوجة مقدرة بالأمداد، وهذا الحديث يرد على أصحابنا".
2- أن الله - تعالى - قال: {وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ**[80]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ولهنَّ عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف))[81].
فقيَّد الواجب من الطعام بالمعروف، والمعروف هو الكفاية، وإيجابُ أقل من الكفاية من الطعام تركٌ للمعروف، وإيجاب قدر الكفاية - وإن كان أقل من مد - إنفاق بالمعروف، فيكون ذلك هو الواجب بالكتاب والسنة[82].
كما أنه سمى الواجب منه باسم الرِّزق، ورزقُ الإنسان كفايته في العرف والعادة، كرزق القاضي والمضارب[83].
3- أن نفقتها وجبتْ عليه؛ لكونها محبوسة عليه، ممنوعة من التكسُّب لحقِّه، فكان الواجب عليه منها قدر ما يكفيها، كنفقة القاضي والمضارب[84].
4- أن نفقتها واجبة لدفع حاجتها، فكان الاعتبار بما تندفع به حاجتها، قلَّ أو كثر[85].
القول الثاني: أن الواجب لها من الطعام وتوابعه مقدَّر، ولا تعتبر فيه الكفاية، وأنه يختلف باختلاف حال الزوج باليسار والإعسار، فعلى الموسر مُدَّان، وعلى المعسر مدٌّ، وعلى المتوسط مد ونصف.
وهذا هو مذْهب الشافعية[86].
أدلتهم:
استدلوا على أنه مقدر بالأمداد، بالقياس على طعام الكفارة، بجامع أن كلاًّ منهما طعام يجب بالشرع، لسدِّ الجوعة؛ ولأنَّ الله - تعالى - اعتبر الكفارة بالنفقة على الأهل، فقال - سبحانه - في كفارة اليمين: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ**[87].
قالوا: وأكثر ما يجب في الكفارة لكل مسكين مُدَّان، وذلك في كفارة الأذى للمُحرِم، وأقل ما يجب لكل مسكين مدٌّ واحد، وذلك في كفارة الجماع في نهار رمضان ممن يجب الصيام، وكذلك كفارة الظِّهَار، فأوجبوا على الموسر الأكثر، وهو مدان، وعلى المعسر الأقل، وهو مد، وعلى المتوسط ما بينهما؛ لأنه لا يمكن إلحاقه بالموسر وهو دونه، ولا بالمعسر وهو فوقه، فجعل عليه مد ونصف، حتى لا يتضررَ لو ألزم بالمدين، ولا تتضرر زوجته لو ألزم بمد واحد كالمعسر[88].
ونوقش هذا الدَّليل من عدة وجوه:
الوجه الأول: أن نصوص الكتاب والسنة التي وردت في وجوب نفقة الزوجات، جاءت مطلقة عن التقدير، فمَن قدَّر فقد خالف النص[89].
الوجه الثاني: أن الشرع وَرَدَ بالإنفاق مطلقًا من غير تحديد، ولا تقدير، ولا تقييد، فكان الواجب رد ذلك إلى العرف، لو لم يردَّه إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فكيف وهو الذي رد ذلك إلى العرف، وأرشد أمَّتَه إليه؟[90].
قال ابن القَيِّم: "ومن المعلوم أن أهل العرف إنما يتعارفون بينهم في الإنفاق على أهليهم - حتى من يوجب التقدير -: الخبز والإدام دون الحب، والنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إنما كانوا ينفقون على أزواجهم كذلك، دون تمليك الحب وتقديره.
ولا يُحفظ عن أحد من الصحابة قط تقديرُ النفقة، لا بمُد، ولا برطل، والمحفوظ عنهم - بل الذي اتَّصل به العمل في كل عصر ومصر - ما ذكرناه"[91].
وقال - أيضًا : "ولا يعرف عن صحابي ألبتة تقديرُ طعام الزوجة، مع عموم هذه الواقعة في كل وقت"[92].
وقال ابن تيميَّة: "ولا يجب أن يفرِض لها شيئًا؛ بل يطعمها ويكسوها بالمعروف، وهذا القول هو الذي دلت عليه سُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذه عادة المسلمين على عهد رسول الله وخلفائه، لا يعلم قط أن رجلاً فرض لزوجته نفقة؛ بل يطعمها ويكسوها"[93].
ويؤكد ما ذكره الشيخان: ابن تيميَّة وابن القيم، ما نُقل عن الأذرعي من الشافعية، أنه قال: "لا أعرف لإمامنا - رضي الله تعالى عنه - سلفًا في التقدير بالأمداد، ولولا الأدب لقلت: الصواب أنها بالمعروف؛ تأسيًا واتِّباعًا"[94].
الوجه الثالث: أنَّ النُّصوص السابقة دلَّتْ على أن الواجِب للزوجة منَ الطعام وتوابعه، هو قدر الكفاية، وما وجب كفاية لا يتقدر شرعًا في نفسه؛ لأنه يختلف باختلاف الأحوال، والأشخاص، والأماكن، والأزمان؛ فتقديره بمقدار معيَّن، لا يزاد عليه ولا ينقص منه، قد يكون فيه إضرار بالزوج أو الزوجة[95].
الوجْه الرابع: أن قياسهم الطعامَ الواجب للزوجة على طعام الكفارة، قياسٌ غير صحيح؛ لما يلي:
1- أنَّ الكَفَّارة لا تختلف باليسار والإعسار، ولا هي مقدرة بالكفاية، وإنما اعتبرها الشرع بها في الجنس دون القدر؛ ولهذا لا يجب فيها الإدام، بخلاف طعام الزّوجة، فإنه يجب لها قدر الكفاية من الإدام، كما يجب لها ذلك من الطعام[96] - كما بينته آنفًا.
2- أن التقدير بالوزن في الكفارات، ليس لكونها نفقة واجبة؛ بل لكونها عبادة مَحْضة، لوجوبها على وجه الصدقة، كالزكاة، فكانت مقدرة بنفسها كالزكاة، ونفقة الزوجة ليست واجبة على وجه الصدقة؛ بل هي واجبة على وجه الكفاية، فتتقدر بكفايتها، كنفقة الأقارب[97] .
الترجيح:
وبعد هذه الاعتراضات الكثيرة الواردة على أدلة المقدِّرين، يتبيَّن ضعف قولهم بأن نفقة الزوجة مقدرة، ويكون الراجح هو قول الجمهور؛ لقوة أدلته، وسلامتها من المناقشة، والله أعلم.
المسألة الثانية: الكسوة:
فيلزم الزوجَ كسوةُ زوجته؛ لقوله - تعالى -: {وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ**[98] ، ولحديث جابر: ((ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف))[99] ، ولأنها تحتاج إليها لحفظ البدن وسَتْره على الدوام، فلزمته كالطعام.
وقد أجمع أهل العلم على أنها واجبة للزوجة على زوجها[100].
وأما الواجب في الكسوة، فهو قدر الكفاية بالاتفاق، حتى عند الشافعية[101], قال في "مغني المحتاج"[102]: "ولا بد أن تكون الكسوة تكفيها؛ للإجماع على أنه لا يكفي ما ينطلق عليه الاسم".
والكفاية تختلف بحسب طول المرأة وقصرها، وهزالها وسمنها، وباختلاف البلاد في الحر والبرد[103].
فيجب لها ما يكفيها، على قدر يُسر الزوجين وعسرهما، وما جرت به عادة أمثالهما، فيجب للموسرة تحت الموسر من أرفع ثياب البلد، من الحرير، والقطن، والكتان الجيد.
وللمعسرة تحت المعسر من غليظ القطن والكتان ونحوهما، وللمتوسطة تحت المتوسط ما بينهما[104].
وأقل ما يجب من الكسوة قميص، وسراويل، وخمار أو مَقنَعة[105], ومداس للرجل، وجبَّة للشتاء؛ لأن هذا من الكسوة بالمعروف التي نص عليها في الآية والحديث السابقين[106].
ويزيد من عدد الثياب ما جرتِ العادة بلبسه مما لا غنى عنه، فالكسوة بالمعروف: هي الكسوة التي جرت عادة أمثالها بلبسه[107]
يتبع