السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأسباب التي يستعان بها في حفظ الحديث
الأول حسن النية:
فإنها مفتاح كل خير، وسبب التوفيق والتيسير والبركة في العلم.
وأورد الخطيب في هذا الباب أثر ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال: (إنما يحفظ الرجل على قدر نيته) ( ).
وقال معمر بن راشد (ت 154هـ): "كان يقال: إن الرجل ليطلب العلم لغير الله فيأبى عليه العلم، حتى يكون لله عز وجل" ( ).
الثاني: اجتناب ارتكاب المحرمات ومواقعة المحظورات:
قال عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه -: "إني لأحسب الرجل ينسى العلم، بالخطيئة يعلمها" ( ) .
وقال رجل للإمام مالك: "يا أبا عبد الله، هل يصلح لهذا الحفظ شيء ؟ قال: إن كان يصلح له شيء، فترك المعاصي" ( ).
وفي الأبيات المشهورة:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي****فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال بأن حفظ العلم نور****ونور الله لا يؤتاه عاصي
الثالث: العمل بالحديث الذي يرويه ويحفظه:
قال سفيان الثوري: (العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل) ( ).
وقال جماعة من السلف، منهم الشعبي ووكيع: (كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به) ( ).
والسبب الذي من أجله كان العلم بالحديث مثبتا الحفظ، يظهر جلياً في أن العمل بالحديث يجعل معاني الحديث واقعاً عملياً، والمحسوسات أثبت في الذهن من المعنويات. وأهم من ذلك أن العمل بالعلم سبب لتوفيق الله تعالى إلى العلم والزيادة منه، وكما قال تعالى: (واتقوا الله ويعلمكم الله ) ( ).
الرابع: اغتنام الأوقات المناسبة في اليوم للحفظ:
وهذا أمر يختلف فيه الأشخاص، باختلاف أحوالهم وظروف طلبهم للمعاش وغير ذلك. غير أن الذي يذكره أهل التجربة،
هو أن أفضل الأوقات للحفظ: الليل عموماً، والفجر ، ويخصون من الليل آخره وهو وقت السحر، بشرط أن يكون طالب العلم قد نام من أول الليل، وأخذ حاجته من النوم.
ومن جميل الوصايا في ذلك، ما ذكر من أن المنذر قال للنعمان ابنه "يا بني، أحب لك النظر في الأدب بالليل، فإن القلب بالنهار طائر، وبالليل ساكن، وكلما أوعيت فيه شيئاً علقه" ( ).
فتعقب الخطيب البغدادي هذه الوصية بقوله "إنما اختاروا المطالعة بالليل لخلو القلب، فإن خلوه يسرع إليه الحفظ، ولهذا (لما) قيل لحماد بن زيد: ما أعون الأشياء على الحفظ ؟ قال: قلة الغم. (قال الخطيب( وليس تكون قلة الغم إلا مع خلو السر وفراغ القلب، والليل أقرب الأوقات إلى ذلك" ( ) .
وقال إسماعيل بن أبي أويس: "إذا هممت أن تحفظ شيئاً، فنم، ثم قم عند السحر، فأسرج، وانظر فيه، فإنك لا تنساه – بعد إن شاء الله") ( .
الخامس: اغتنام فترة الصبا والشباب:
واشتهرت كلمة الحسن البصري التي يقول فيها: "طلب الحديث في الصغر كالنقش في الحجر" ( )، وذاد بعضهم ما معناه: والعلم في الكبر كالنقش في النهر ( ).
ولذلك كان السلف يبكرون بأولادهم إلى مجالس الحديث، حتى قال عبد الله بن داود الخريبي (ت 213هـ): "ينبغي للرجل أن يكره ولده على سماع الحديث" ( ).
وقال علقمة بن قيس النخعي (ت62هـ)، في بيان قوة حافظة الشاب ورسوخ حفظه: "ما حفظت وأنا شاب، فكأني أنظر إليه في قرطاس أو ورقة" ( ).
السادس: اختيار الأماكن المناسبة للتحفظ:
وصفة المكان المناسب: أن يكون مريحاً، لا يشق على النفس المكث به. وأن يكون هادئاً، بعيداً عن الأصوات العالية. وأن يكون خالياً من الملهيات وما يلفت الأنظار ؛ فلا يجلس في حديقة، ولا في ممر الناس وأسواقهم . بل يختار مقصورة أو حجرة في منزله، يتحفظ فيها ( ).
السابع: الجهر بقراءة ما يراد حفظه:
ولذلك حكمة، بينها والد الزبير بن بكار القرشي (ت 256هـ) عندما رأى ابنه يتحفظ سرا، فقال له: " إنما لك من روايتك هذه (أي: تحفظك سراً) ما أدى بصرك إلى قلبك.
فإذا أردت الرواية (أي: الحفظ)، فانظر إليها، واجهر بها ؛ فإنه يكون لك ما أدى بصرك إلى قلبك، وما أدى سمعك إلى قلبك" ( ).
(وهذا تعبير رائع صحيح، وهذا ما يقول فيه علماء التربية وعلم النفس: كلما كثرت الحواس المشاركة في تلقي موضوع أو تعلمه، كان حفظه أسرع وأيسر) ( ).
الثامن: إحكام الحفظ بكثرة تكريرة.
يقول ابن الجوزي في (الحث على حفظ العلم ): "الطريق إلى إحكامه كثرة الإعادة. والناس يتفاوتون في ذلك، فمنهم من يثبت معه المحفوظ مع قلة التكرار، ومنهم من لا يحفظ إلا بعد التكرار الكثير. وكان أبو إسحاق الشيرازي (ت476هـ) يعيد الدرس مائة مرة، وكان إلكيا الهراسي (504هـ) يعيد سبعين مرة.
وقال لنا الحسن بن أبي بكر النيسابوري الفقيه: لا يحصل الحفظ إلي حتى يعاد خمسين مرة. وحكى لنا الحسن أن فقيها أعاد الدرس في بيته مراراً كثيرة، فقالت له عجوز في بيته: قد – والله – حفظته أنا! فقال: أعيديه، فأعادته ؛ فلما كان بعد أيام، قال: يا عجوز، أعيدي ذلك الدرس، فقالت: ما أحفظه، قال: إني أكرر عند الحفظ لئلا يصيبني ما أصابك"( ).
التاسع: تعهد المحفوظ، بإعادة النظر فيه وتكريره، في أوقات مختلفة:
إذ الحافظة مهما كانت قوية لابد أن تسهو، فالنسيان جبلة الإنسان. ولا يحافظ على ما في الصدر من العلم، إلا مراجعته من حين لآخر، وعدم الاتكال على الحفظ الأول.
قيل للأصمعي: "كيف حفظت ونسي أصحابك ؟! قال: درست وتركوا" ( ).
وقال علقمة النخعي: " أطيلوا كر الحديث لا يدرس" ( )، أي: ليكلا يبلى وينسى.
وعلى طالب العلم أن يجعل له جدولاً معيناً لمراجعة محفوظة ؛ فمثلاً: يجعل في نهاية كل أسبوع يوماً لمراجعة ما حفظة في ذلك الأسبوع، وفي نهاية كل شهر يوماً أو يومين لمراجعة محفوظه خلال الشهر كله، وفي نهاية السنة أسبوعاً أو أسبوعين لمراجعة محفوظه خلال السنة جميعها …. وهكذا.
العاشر: المذاكرة:
والمذاكرة اصطلاح يستخدمه المحدثون، يعنون بها مطارحات علمية ومساجلات حديثية، يعرض فيها الجلساء من حفاظ الحديث وطلبته لذكر فوائد الأحاديث وغرائب الأسانيد وخفي التعليلات، يسأل بعضهم بعضاً عن ذلك، ويفيد الواحد منهم الآخر ما غاب عنه.
وقد كانت المذاكرة هذه من أبرز سمات المحدثين في عصوره الأولى (مثل الرحلة في طلب الحديث)، ولها آدابها وشروطها المنصوص عليها وفوائدها، وأخبارها المروية فيها ( ).
وللمذاكرة مع الأقران وغيرهم – على المعنى السابق – فائدة عظيمة في تثبيت الحفظ، من جهة أنه تعهد للمحفوظ بتكريره ومراجعته خلال المذاكرة، وتذكير لما نسي منه، ودون إملال أو إضجار، بل في جو من النشاط والتنافس العلمي البناء.
ولذلك قال عبدالله بن بريدة: " قال لي علي بن أب طالب – رضي الله عنه -: تزاوروا، وتذاكروا هذا الحديث، فإنكم أن لم تفعلوا يدرس علمكم" ( )، أي: يبلى ويخلق.
وقال أبو سعيد الخدري – رضي الله عنه – "تحدثوا، فإن الحديث يهيج الحديث"( ).
وقال جماعة من السلف عبارة أصبحت شعاراً للمذاكرة، وهي قولهم: "إحياء الحديث مذاكرته" ( ).
ومن فوائد المذاكرة أيضاً: أنها سبب كبير وداع عظيم للتنافس المحمود
بين طلبة العلم. والتنافس في الخير هو الأمل الجاهد لبلوغ الغايات العظام، ولولاه لما سعى للعلياء ماجد، ولما سما للرفعة طامح.
ولشدة التنافس أثناء المذاكرة بين المحدثين كانت من لذائذ علم الحديث ومن متعه الجليلة ؛ حتى قال الوزير ابن العميد: " ما كنت أظن أن في الدنيا حلاوة ألذ من الرئاسة والوزارة التي أنا فيها، حتى شاهدت مذاكرة سليمان بن أحمد الطبراني وأبي بكر الجعابي بحضرتي، (ثم ذكر تلك المذاكرة، التي غلب فيها الطبراني أبا بكر الجعابي، ثم قال: "فوددت في مكاني أن الوزارة والرئاسة ليتها لم تكن لي وكنت الطبراني، وفرحت مثل الفرح الذي فرح به الطبراني " ( ).
وقال علي بن المديني: "ستة كادت تذهب عقولهم عند المذاكرة: يحيى القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، ووكيع، وابن عيينة، وأبو داود الطيالسي، وعبد الرزاق ؛ من شدة شهوتهم له. وتذاكر وكيع وعبد الرحمن ليلة في المسجد الحرام، فلم يزالا حتى أذن المؤذن أذان الصبح " ( ).
وقال عبد الله بن المبارك:
ما لذتي إلا رواية مسندا****ت قيدت بفصاحة الألفاظ
ومجالس فيها تحل سكينة****ومذاكرات معاشر الحفاظ
نالوا الفضيلة والكرامة والنهى****من ربهم برعاية وحفاظ
لاظوا برب العرش لما أيقنوا****أن الجنان لعصبة لواظ
ومن فوائد المذاكرة أيضاً ومن آدابها: إفادة طلبة العلم بعضهم بعضا، وفي ذلك استعجال لأجر وثواب التعليم، قبل بلوغ الدرجة التي يحق فيها لطالب العلم جلوس مجالس المعلمين.
وما أدرى طالب العلم ؟ لعله يموت قبل أن يصل إلى أن تتحلق حوله الطلبة!!.
يقول عبدالله بن المبارك: "إن أول منفعة الحديث: أن يفيد بعضكم بعضاً" ( ).
ويقول الإمام مالك: "بركة الحديث: إفادة بعضهم بعضاً" ( ).
ويقول سفيان الثوري: "يا معشر الشباب، تعجلوا بركة هذا العلم، فإنكم لا تدرون، لعلكم لا تبلغون ما تؤملون منه، ليفد بعضكم بعضاً" ( ).
هذه هي أهم وسائل حفظ العلم، وأظهر أسباب تثبيته وعدم نسيانه.
ولكن مما ينبغي التنبيه عليه هنا، هو أن للحفظ طريقتين .... يتبع ان شاء الله تعالى
ولكن مما ينبغي التنبيه عليه هنا، هو أن للحفظ طريقتين، لا يعجز عن إحداهما جميع الناس.
ولكل طريقة منهما مميزاتها وعيوبها ؛ فيحسن أن نذكرهما، بما لهما من محاسن وعيوب. الطريقة الأولى (وهي أشهر الطريقتين):
وهي أنفع للصغار والشباب ومن أوتي موهبة الحفظ:
وهي بأن يقرر الطالب على نفسه لكل يوم جزءاً يسيراً من العلم، كأن يكون حديثاً أو حديثين أو أكثر، ويستحسن أن يكون قدراً يسيراً، فإن القليل يثبت والكثير لا يحصل ( ) ؛ فيتحفظ هذا المقرر يومياً، حتى يغيبه في صدره ؛ ويستمر على ذلك فترة طويلة، هي سنوات طلبه للعلم ؛ مع تعهد المحفوظ دائماً، على المنهج الذي ذكرناه سابقاً في التعهد.
ولهذه الطريقة مميزات وعيوب:
فمن مميزاتها:
أنها طريقة منهجية منضبطة، يمكن للطالب مع التزامها والمداومة عليها حفظ كتب برمتها، وتغيب مصنفات كاملة.
ومن مميزاتها أيضاً: أنها أسرع حفظاً من الطريقة التالية، إذ قد لا يجلس الطالب للتحفظ إلا ربع ساعة أو نصفها.
ومن عيوبها: أنها أسرع في التفلت من الطريقة التالية، وأنها أحوج ما تكون للتعهد للمحفوظ والمراجعة له دائماً، وعدم الانقطاع عنه من فترة لأخرى.
ومن عيوبها: أن الذي يلتزم بها الغالب أضيق في الاطلاع من صاحب الطريقة التالية، لأن الطالب معها مقيد بمقرر معين.
وأما الطريقة الثانية للحفظ:
وهي أنفع لكبار السن، ولمن لم يؤت موهبة الحفظ: وتتلخص في إدمان مجالسة كتب السنة، وإدامة القراءة فيها، والجلد في ذلك والصبر عليه، مع الإكثار من النسخ والكتابة، وتعويد اليد على ذلك.
ولذلك لما قيل للإمام البخاري: ما البلاذر ؟ وهو دواء كانوا يظنون قديماً أنه يقوي الذاكرة وينشط الذهن على الحفظ، فأجاب الإمام البخاري، صارفاً لهم إلى البلاذر حقاً، حيث قال: "هو إدامة النظر في الكتب" ( ).
وقال عبدالله بن المبارك: "من أحب أن يستفيد، فلينظر في كتبه" ( ).
وقال الحافظ أبو مسعود أحمد بن الفرات (ت 258هـ): "لم نزل نسمع شيوخنا يذكرون أشياء في الحفظ، فأجمعوا أنه ليس شيء أبلغ فيه من كثرة النظر" ( ).
وأما الكتابة وأثرها في الحفظ، فقد سبق أن ذكرنا أن المحفوظ كلما اشترك فيه أكثر من حاسة، كلما كان ذلك أقوى له وراسخ. فإذا نظر القارىء، وجهر بالقراءة، ثم كتب ؛ فإنه – على حد تعبير والد الزبير ابن بكار – يكون له ما أدى بصره إلى قلبه، وما أدى سمعة إلى قلبه، وما أدت يده إلى قلبه ؛ فلا ينسى بإذن الله تعالى، لأنه اشترك في تحفظه ثلاث حواس.
وقد قال الحسن بن علي – رضي الله عنهما – لبنيه وبني أخيه:
"تعلموا العلم، فإنكم صغار قوم، يوشك أن تكونوا كبارهم غداً، فمن لم يحفظ منكم فليكتب" ( ).
وقال الخليل بن أحمد الفراهيدي: " ما سمعت شيئاً إلا كتبته، ولا كتبته إلا حفظته، ولا حفظته إلا نفعني " ( ).
ولهذه الطريقة في الحفظ مميزات وعيوب:
فمن مميزاتها: أن صاحبها بطيىء النسيان لمحفوظه، لأن طريقة حفظه تتضمن التعهد معها، بل هو إنما حفظ بالتعهد الكبير!!
ومن مميزاتها: أن صاحبها أوسع استحضاراً من صاحب الطريقة السابقة، لأنه أوسع اطلاعاً.
ومن عيوبها: أن صاحبها لا يستطيع الجزم بأنه يحفظ كتاباً ما، خاصة المطولات. وأيضاً لا يستطيع في كثير من الأحيان أن يؤدي ما حفظ باللفظ، وإنما يؤديه بالمعنى ؛ وللرواية بالمعنى شروط، وتحوم حولها أخطار.
ومن عيوبها: أنها تستلزم وقتاً طويلاً للحفظ، وجلداً وصبراً، وانقطاعاً كاملاً ؛ إذا أراد صاحبها أن ينافس صاحب الطريقة الأولى.
وأما من جمع بين طريقتي الحفظ هاتين فهو الحافظ الكامل، الذي جمع بين محاسن الحفظ، ونجا من عيوبه كلها.
م
ن
ق
و
ل
ملتقى الحديث