تعرفهم بسيماهم
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون**.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءاً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً**.
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوز عظيماً**.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
وبعد..
فإن الذب عن دين الله عز وجل وعن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم من أعظم الجهاد وأفضل القربات إلى الله سبحانه..
لا سيما جهاد المنافقين الذين يطعنون في الدين ويلبسون الحق بالباطل ويزخرفون الضلال حتى يبدو وكأنه الحق الذي لامرية فيه.
ومن أجل ذلك فقد حث الله جل وعلا على جهادهم حماية لجناب الدين ليبقى نقيا سليما من العبث.
فقال سبحانه: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير**.
فجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار وهو جهاد خواص الأمة وورثة الرسل، والقائمون به أفراد في العالم، والمشاركون فيه والمعاونون عليه وإن كانوا هم الأقلين عددا فهم الأعظمون عند الله قدرا.
ذلك لأن المنافقين هم أعظم الناس خطراً، فهم يدخلون مع المسلمين، يتكلمون بألسنتهم ومن بني جلدتهم ويصلون معهم في المساجد، ولذا كان لهم من يتأثر بهم من المسلمين ويسمع كلامهم.
قال تعالى: {وفيكم سماعون لهم**، أي قابلون مستجيبون لهم.
فإذا كان جيل القرآن بينهم منافقون، وفيهم سماعون لهم فما الظن فيمن بعدهم.
فلا يزال المنافقون في الأرض، ولا يزال في المؤمنين سماعون لهم لجهلهم بحقيقة أمرهم، وعدم معرفتهم بغور كلامهم.
وهؤلاء المنافقون قوم أظهروا الإسلامَ ومتابعةَ الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداةَ الله ورسله.
وبليةُ المسلمين بهم أعظمُ من بليتهم بالكفار المجاهرين، ولهذا قال تعالى في حقهم: {هم العدو فاحذرهم** وهذا لايعني أنه ليس للمسلمين عدو سواهم ولكن معناه أنهم أحق بأن يكونوا لكم عدوا من الكفار المجاهرين، وأنهم الأولى والأحق بالعداء والحذر، وحتى لا يتوهم بانتسابهم إلى المسلمين ظاهرا، وموالاتهم لهم ومخالطتهم إياهم أنهم ليسوا بأعدائهم، بل هم أحق بالعداوة ممن ابتعد في الدار ونصب لهم العداوة وجاهرهم بها.
فإن ضرر هؤلاء المخالطين لهم، المعاشرين لهم، وهم في الباطن على خلاف دينهم أشدُّ عليهم من ضرر من جاهرهم بالعداوة.
لأن الحرب مع أولئك ساعة أو أياما ثم تنقضي ويعقبها النصر والظفر، وهؤلاء معهم في الديار والمنازل صباحا ومساءا، يدلّون العدو على عوراتهم ويتربصون بهم الدوائر ولا يمكنهم مفارقتهم، فهم أحق بالعداوة من البعيد المجاهر فلهذا قيل: {هم العدو فاحذرهم**.
ومن رحمة الله سبحانه بعباده أن جعل للمنافقين صفاتٍ تُعين على كشف مكرهم ومكائدهم ومعرفة حالهم وإن صلوا وصاموا..
فقد جلا الله أمرهم في القرآن وأوضح أوصافهم، وبين أحوالهم، وكرر ذكرَهم لشدةِ المؤنة على الأمة بهم، وعظمِ البلية عليهم بوجودهم بين أظهرهم، وفرطِ حاجتهم إلى معرفتهم، والتحرزِ من مشابهتهم والإصغاءِ إليهم.
فكم قطعوا على السالكين إلى الله طرقَ الهدى، وسلكوا بهم سبلَ الردى.
وعدُوهم ومنوهم، ولكن وعدوهم الغرور، ومنوهم الويل والثبور، فكم من قتيلٍ ولكن في سبيل الشيطان، وسليبٍ ولكن للباس التقوى والإيمان، وأسيرٍ لا يرجى له الخلاص، وفار من الله لا إليه.
صحبتهم توجب العار، ومودتهم تحل غضب الجبار وتوجب دخولَ النار.
من علقت به كلاليبهم مزقت منه ثياب الدين والإيمان، وأحلت به البلاءَ والخذلان، فقام يسحب من الحرمان والشقاء أذيال، ويمشي على عقبيه متراجعا.
وقد هتك الله سبحانه أستار المنافقين وكشف أسرارهم في القرآن وجلى لعباده أمورهم ليكونوا منها ومن أهلها على حذر، وذلك لكثرتهم وعموم الابتلاء بهم وشدة فتنتهم على الإسلام وأهله، فإن بلية الإسلام بهم شديدةٌ جداً، لأنهم منسوبون إليه وإلى موالاته وهم أعداؤه في الحقيقة.
يُخرجون عداوته في قالب يظن الجاهل أنه علم وإصلاح، وهو غاية الجهل والإفساد.
فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه، وكم من حصن له قلعوا أساسه وخربوه، وكم من علم له قد طمسوه، وكم من لواء له مرفوعٍ قد وضعوه، وكم ضربوا بمعاول الشبه فى أصول غراسه ليقلعوه، وكم عمَّوا عيون موارده بآرائهم ليدفنوها ويقطعوها.
فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شبههم سريةٌ بعد سرية، ويزعمون أنهم بذلك مصلحون {ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون** {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون**.
اتفقوا على مفارقة الوحي فهم على ترك الاهتداء به مجتمعون {وتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون** {يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا**.
محيت معالم الإيمان في قلوبهم، فلم يقبلوا هدى الله الذي أرسل به رسوله ولم يرفعوا به رأساً، ولم يروا بأسا بالإعراض عنه إلى آرائهم وأفكارهم.
لبسوا ثياب أهل الإيمان على قلوب أهل الزيغ والغل والكفران.
فألسنتهم ألسنةُ المسالمين، وقلوبهم قلوبُ المحاربين ويقولون {آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين**، رأسُ مالهم الخديعة والمكر، وبضاعتهم الكذب والغدر.
قد نهكت أمراض الشبهات والشهوات قلوبَهم، وغلبت القصود السيئة على نياتِهم فأفسدتها.
ففسادهم قد ترامى إلى الهلاك فعجز عنه الأطباء العارفون {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون**.
مَن علقت مخالبُ شكوكهم بإيمانه مزقته كل تمزيق، ومن تعلق شررُ فتنتهم بقلبه ألقاه في عذاب الحريق، ومن دخلت شبهات تلبيسهم في مسامعه حال بين قلبه وبين التصديق.
ففسادهم في الأرض كثير، وأكثر الناس عنه غافلون {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون**.
المتمسك عندهم بالكتاب والسنة مبخوس حظه، وبضاعة تاجر الوحي لديهم كاسدة.
وأهل الاتباع عندهم سفهاء فهم في خلواتهم ومجالسهم بهم يتطيرون {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون**.
لكل منهم وجهان: وجهٌ يلقى به المؤمنين، ووجهٌ ينقلب به إلى إخوانه من الملحدين، وله لسانان أحدهما: يقبله به المسلمون، والآخر يترجم به عن سره المكنون، {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون**.
قد أعرضوا عن الكتاب والسنة استهزاء بأهلهما واستحقاراً، وأبوا أن ينقادوا لحكم الوحيين فرحا بما عندهم واستكباراً، فتراهم أبدا بالمتمسكين بصريح الوحي يستهزئون {الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون**.
خرجوا في طلب التجارة البائرة في بحار الظلمات، فركبوا مراكب الشبه والشكوك تجري بهم في موج الخيالات، فلعبت بسفنهم الرياح العاصفة فألقتها بين سفن الهالكين {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين**.
واعلموا أنه كلما انقرض منهم طوائف خلفهم أمثالهم، فذكر الله سبحانه وتعالى أوصافَهم لأوليائه وبينها لهم ليكونوا منها على حذر.
أسروا سرائر النفاق فأظهرها الله على صفحات وجوههم وفلتات ألسنتهم، ووسمهم بسمات لا يخفون بها على أهل البصائر والإيمان، وظنوا أنهم إذ كتموا كفرهم وأظهروا إيمانهم راجوا على العقلاء وأهل البصيرة، كيف وقد كشف الله حالهم؟؟!! {أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم**.
والله ذمهم غاية الذم وكشف عوراتهم، وقبحهم وفضحهم وأخبر أنهم هم السفهاء المفسدون في الأرض، المخادعون المستهزئون المغبونون في اشترائهم الضلالةَ بالهدى، وأنهم صم بكم عمي فهم لا يرجعون، وأنهم مرضى القلوب، وأن الله يزيدهم مرضا إلى مرضهم، فلم يدَع ذماً ولا عيبا إلا ذمهم به، وهذا يدل على شدة مقته سبحانه لهم وبغضِه إياهم وعداوتِه لهم، وأنهم أبغضُ أعدائه إليه، فظهرت حكمته الباهرة في تخصيص هذه الطبقة بالدرك الأسفل من النار... نعوذ بالله من مثل حالهم ونسأله معافاتِه ورحمتَه.
وإنما كانت هذه الطبقة في الدرك الأسفل لغلظِ كفرهم، فإنهم خالطوا المسلمين وعاشروهم وباشروا من أعلام الرسالة وشواهد الإيمان ما لم يباشره البعداء ووصل إليهم من معرفته وصحته ما لم يصل إلى المنابذين بالعداوة، فإذا كفروا مع هذه المعرفة والعلم كانوا أغلظَ كفرا وأخبثَ قلوبا وأشدَّ عداوة لله ولرسوله وللمؤمنين من البعداء عنهم.
ومن تأمل في هؤلاء المنافقين.. رأى صدق ما وصَفَهم اللهُ به.. من وصف قلوبهم بالمرض وهو مرض الشبهات والشكوك، ووصفَهم بالإفساد في الأرض، وبالاستهزاءِ بدينه وبعباده، وبالطغيان واشتراء الضلالة بالهدى، والحيرة والكسل عند عبادته وقلة ذكره، وبغاية الجبن وبعدم الفقه في الدين وبعدم العلم، وبالبخل وبعدم الإيمان بالله وباليوم الآخر، وبأنهم مضرةٌ على المؤمنين ولا يحصل لهم بنصيحتهم إلا الشر، و الإسراعُ بينهم بالشر وإلقاء الفتنة، وكراهتُهم لظهور أمر الله، ومحوُ الحقُ، وأنهم يحزنون بما يحصل للمؤمنين من الخير والنصر، ويفرحون بما يحصل لهم من المحنة والابتلاء، وأنهم يتربصون بالمسلمين الدوائر، وبعيب المؤمنين ورميِهم بما ليس فيهم..، وأنهم عبيد الدنيا إن أُعطوا منها رضوا، وإن مُنعوا سخطوا، وبأنهم يؤذون رسول الله وينسبونه إلى ما برأه اللهُ منه، ويعيبونه بما هو من كماله وفضله، وأنهم يقصدون إرضاء المخلوقين ولا يطلبون إرضاءَ رب العالمين، وأنهم يسخرون من المؤمنين، وأنهم يتحيلون على تعطيل فرائض الله بأنواع الحيل، وأنهم مطبوع على قلوبهم وأنهم أحلف الناس بالله كذبا قد اتخذوا أيمانهم وقاية تقيهم من إنكار المسلمين عليهم، ووصفَهم بأنهم رجس، والرجس من كل جنس أخبثُه وأقذرُه فهم أخبث بني آدم وأقذرهم وأرذلهم، وبأنهم فاسقون، وبأنهم مضرة على أهل الإيمان.. يقصدون التفريق بينهم ويؤوون من حاربهم وحارب اللهَ ورسوله، وأنهم يتشبهون بالمسلمين في أعمالهم ليتوصلوا منها إلى الإضرار بهم وتفريق كلمتهم، وهذا شأن المنافقين أبداً، وأنهم يتربصون بالمسلمين دوائر السوء وهذه عادتهم في كل زمان، وأنهم أحسن الناس أجساما تعجب الرائي أجسامَهم ويعجب السامعَ منطقَهم، فإذا جاوزْت أجسامَهم وقولهم رأيت خُشبا مسندة.. لا إيمانَ ولا فقهَ ولا علمَ ولا صدقَ بل خشبٌ قد كُسيت كسوةً تروق الناظرَ وليس وراء ذلك شيء.
ووصفهم سبحانه بالاستهزاء به وبآياته وبرسوله، وبأنهم مجرمون، وبأنهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، وأنهم يتولون الكفار ويدَعون المؤمنين، وبأنهم يتمنون ما يشق على المؤمنين، وأن البغضاء للمسلمين تبدو من أفواههم وعلى فلتات ألسنتهم وبأنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
ومن صفاتهم التي وصفهم الله بها الشحُّ على المؤمنين بالخير، والجبنُ عند الخوف، فإذا ذهب الخوف وجاء الأمن سلقوا المؤمنين بألسنة حداد فهم أحدّ الناس ألسنة عليهم كما قيل:
جهلا علينا وجبنا من عدوّكمو لبئستِ الخَلّتان الجهلُ والجبنُ
وأنهم عند المخاوف تظهر كمائنُ صدورِهم ومخبآتهُ، وأما عند الأمن فيجب ستره، فإذا لحق المسلمين خوف دبت عقارب قلوِبهم وظهرت المخبآتُ وبدت الأسرارُ.
ومن صفاتهم أنهم أعذبُ الناس ألسنةً وأمرُّهم قلوباً، وأعظم الناس مخالفة بين أعمالهم وأقوالهم.
ومن صفاتهم أنهم لا يجتمع فيهم حسنُ صمت وفقهٌ في دين أبدا.
ومن صفاتهم أن أعمالهم تكذِّب أقوالهَم، وباطنَهم يكذب ظاهرَهم، وسرائرَهم تناقض علانيتَهم.
ومن صفاتهم أن المؤمن لا يثق بهم في شيء، فإنهم قد أعدوا لكل أمر مخرجاً منه.. بحق أو بباطل.. بصدق أو بكذب، فالمسلم منهم كقابض على الماء ليس معه منه شيء.
ومن صفاتهم كثرةُ التلون وسرعةُ التقلب وعدمُ الثبات على حالٍ واحد، بينا تراه على حال تعجبُك من دينٍ أو عبادٍة أو هدىً أو صدقٍ، إذ انقلب إلى ضد ذلك.
ومن صفاتهم معارضةُ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بعقول الرجال وآرائِهم ثم تقديمُها على ما جاء به، فهم معرضون عنه معارضون له زاعمون أن الهدى في آراءِ الرجال وعقولهِم دون ما جاء به.
ومن صفاتهم كتمانُ الحق، والتلبيسُ على أهله ورميُهم بأدوائهم... فيرمونهم إذا أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ودَعوا إلى الله ورسوله بأنهم أهلُ فتنٍ مفسدون في الأرض، وقد علم الله ورسوله والمؤمنون بأنهم هم أهل الفتن المفسدون في الأرض.
وإذا دعاهم ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى كتاب الله وسنة رسوله خالصةً غيرَ مشوبةٍ رموهم بالبدع والضلال، وإذا رأوهم زاهدين في الدنيا راغبين في الآخرة متمسكين بطاعة الله ورسوله رموهم بالزور والتلبيس والمحال.
وإذا رأوا معهم حقا ألبسوه لباس الباطل وأخرجوه لضعفاء العقول في قالب شنيع لينفروهم عنه، وإذا كان معهم باطل ألبسوه لباس الحق وأخرجوه في قالبه ليقبل منهم.
وجملة أمرهم أنهم في المسلمين كالزغل في النقود يروج على أكثر الناس لعدم بصيرتهم بالنقد ويعرف حاله الناقد البصير من الناس وقليل ما هم، وليس على الأديان أضرُّ من هذا الضرب من الناس وإنما تفسُد الأديانُ من قبلهم.
كما أن هؤلاء المنافقين ذهب نور إيمانهم بالنفاق، وبقيت في قلوبهم حرارة الكفر والشكوك والشبهات تغلي في قلوبهم قد صَليت بحرها وأذاها وسمومها ووهجها في الدنيا، فأصلاها الله تعالى إياها يوم القيامة نارا موقدة تطلع على الأفئدة.
فهذا مثل من لم يصحبه نور الإيمان في الدنيا بل خرج منه وفارقه بعد أن استضاء به وهو حال المنافق.. عرف ثم أنكر، وأقر ثم جحد، فهو في ظلمات أصم أبكم أعمى.
ومن صفاتهم.. أنهم إذا عاهدوا لم يفوا وإن وعدوا أخلفوا وإن قالوا لم ينصفوا وإن دُعوا إلى الطاعة وقفوا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول صدوا وإذا دعتهم أهواؤهم إلى أغراضهم أسرعوا إليها.
اختاروا لأنفسهم الهوان والخزي والخسران.. فلا يوثق بعهودهم ولا يُطمأن إلى وعودهم فهم كاذبون.
فعلى المسلم البصير أن يعرف صفاتَهم، فإذا عرفها حذرهم حتى لا يلبسوا عليه دينه ويلقونه في أهوية النفاق، فتعز عليه يومئذ النجاة.
نسأل الله أن يكفي المسلمين شرورهم، وأن يرد كيدهم في نحرهم، وأن يجعل تدبيرهم تدميرا لهم.
وإن مما دعا لهذه الكلمات ما نلاحظه من الحملة الشرسة والعداء السافر والهجوم الشنيع على تعاليم ديننا العظيم من قبل بعض العلمانيين المنافقين الذين أُفسح لهم المجال في الإعلام، فبدأوا يرفعون رايات النفاق والزندقة بالهجوم على تعاليم القرآن والسنة، لا يصدهم عن ذلك خوفٌ من الخالق ولا حياءٌ من المخلوق.
ففي كل يوم يظهرون بشبهة جديدة وطعنة غادرة، والمصيبة أن هؤلاء المنافقين كأسلافهم الأول يجدون من يسمع لهم.
وقد أوتي بعضُهم بلاغةً في المنطق وتلبيساتٍ شيطانية تنطلي على من ضعف دينه وتزعزع يقينه، وصدق في هذا الصنف وأمثاِلهم قولُه صلى الله عليه وسلم: "أخوف ما أخاف على أمتي منافقٌ عليم اللسان".
مع ما يزيد بعضَهم قوةً في نشر مذهبه كونُه من بعض العائلات العريقة أو القبائل التي لا يُتصورُ أن يَدخل عليها هذا الفكرُ الخبيث.. "ولكن من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه" كما صح بذلك الحديثُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
على أن من تأمل حالهم علم نفاقهم وازدادت بصيرته بهم وعلم أن أعظم الجهاد إعلانُ الحرب عليهم وردُّ شبههم.
فهم لا يرفعون بالدين رأسا ولا يريدون له قياماً، بل كلما حلت فتنةٌ في الإسلام فإذا بهم يركضون فرحين يستبشرون فيما بينهم، وإذا بهم يشهرون سيوفهم ويهزون رماحهم بغية الحصول على مطلوبهم.. ولكن خابوا وخسروا.. وبئس ما قصدوا {ويأبى الله إلا أن يتم نورَه ولو كره الكافرون**.
ومما يخفون به نفاقهم أن بعضهم يصلون في المساجد وهم أعداءُ الله ورسوله على الحقيقة..، كلما قامت للدين قائمة فإذا بهم ينافحون دون ذلك، وإذا بهم يحاربونه ويلفقون حوله التهم الشيطانية التي ارتضعوها من فكر إبليس.
ونحن إنما نعامل الناس على الظاهر وهؤلاء لم يظهروا إلا كلَّ عداء للدين ومحاربةٍ له ولذا كان حريا بنا أن نعاملهم بالقاعدة العظيمة التي خطها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله: "من أظهر لنا سوءا لم نأمنْه ولم نصدقْه وإن قال إن سريرته حسنه".
ولا يشكل على إخواننا تسميتُنا لهؤلاء بالمنافقين، فإن ما دعا لتسميتهم بذلك ما أعلنوه وأظهروه من نفاق بيّن وبكل وقاحة، وقد يحكم على الرجل بما ظهر من حاله ولسنا بمكلفين بالبحث عن سريرته ونيته خصوصا إذا استمر على هذا الحال زمنا طويلا وهو حرب على الدين وأهله..
قال ابن حجر رحمه الله تعليقا على قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن عبد الله بن أبيّ بن سلول: إنه منافق، قال: إنما جزم عمر أنه منافق جريا على ما كان يطلع عليه من أحواله. اهـ
وقال العلامة الألباني رحمه الله في كتابه: (أحكام الجنائز، ص 93) عن المنافقين: "هم الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، وإنما يتبين كفرهم بما يترشح من كلماتهم من الغمز في بعض أحكام الشريعة واستهجانها، وزعمهم أنها مخالفة للعقل والذوق! وقد أشار الى هذه الحقيقة ربنا تبارك في قوله: {أم حسب الذين في قلوبهم مرضٌ أن لن يُخرجَ اللهُ أضغانَهم * ولو نشاءُ لأَريناكَهم فَلَعرفْتَهم بسيماهُم ولَتعرِفنَّهم في لحنِ القولِ واللهُ يعلمُ أعمالَكم**، وأمثال هؤلاء المنافقين كثير في عصرنا الحاضر، والله المستعان".
وقبل فترة قام أحد الأشقياء بالتعرض لأحكام الإسلام العظيم الذي رفعنا الله به بعد الذلة، وهدانا به بعد التوهان في ظلمات الشرك والضلالة.
قام هذا الشقيُّ بكل وقاحة وجرأة بالتنقص من ديننا والطعن فيه، وقد ألبس كلامه ثيابا من الزور والبهتان مبتغيا التلبيس، وقد بدأ يتكلم وكأنه الناصح المشفق، وإنما كان حاله أشبهَ بحال الثعلب الذي يظهر التنسك والخشوع من أجل الحصول على صيد.
والمصيبة أن بعض الناس يحسن الظن بهذا الشقي المخادع وهو يشهر معاداته للدين، ويجُلب بخيله ورجله عليه، وكلما سنحت له فرصة فإذا به يظهر حقده ودغله على الدين وأهله، ويلوح بما يؤكد نفاقه ويصرح بما لم يصرح به الكفار المعلنون كفرَهم {وما تخفي صدورهم أكبر**.
يقول هذا الشقي الفاجر وهو يقارن بين الزمن الماضي والحاضر ويستهزئ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم..
يقول: "لم تكن اهتماماتنا تنصب على البحث عن أحكام تفصيلية لقضية ثانوية ولم يكن الشباب يعيرها اهتماما كبيرا إلى أن بدأت ثقافة التهميش والتسطيح تنتشر كالنار في الهشيم وبدأ الشباب يركز جل تفكيره واهتمامِه على سفاسف الأمور وترهاتها وقام ممولو الحملة بدفع الشباب، ورسموا لهم خطوطا في كل حركاتهم وسكناتهم وقيدوهم حتى في كيفية دخول الحمام والطريقة المثلى للخروج منه فكان أن تلبستهم وساوس وهواجس عما يجب حفظه من أدعية لكل عمل يقومون به مهما صغر شأنه فحاصرهم هذا الهم وحاربوا كل ما حولهم..".
فانظر له كيف يسمي التمسك بالسنة بثقافة التهميش والتسطيح وسفاسف الأمور ويستهزئ بأذكار دخول الخلاء والخروج منه، وحفظ الأذكار الشرعية الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ويصفها بالوساوس والهواجس.
وهذا كله من الكفر، قال سبحانه: {قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم**.
يقول الشافعي رحمه الله: من قال بردعة حمار النبي صلى الله عليه وسلم وسخة فقد كفر.
فالاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء عنه كفر.
كما أنه يكثر وصف المتدينين "بالتيار المتخلف".
ويقول هذا الشقي عن تطبيق قانون العقوبات الشرعية الذي طولب بتطبيقه مؤخراً: "إذا طبق قانون العقوبات الشرعية فستكون هناك كارثة كبيرة".
ومن اعتقد هذا القول ووصف الأحكام الشرعية بهذا الوصف الجريء فقد كفر، قال تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون**.
ومن قال بأن حكم الشرع لا يصلح أو أن تطبيقه كارثة فهو كافر.
كما أن من تابع مقالات هذا المارق يجده لا يسأم من التحريض على التبرعات الخيرية وعلى المتدينين في المساجد ووصفهم بالإرهاب، وتحريض الحكومة عليهم.
وإنني لا أذكر ما قاله إلا من باب الإشارة وليس من باب الرد عليه فإن ما قاله من الانحراف متضح لكل عاقل لبيب، وإنني لا أتكلم عليه من باب أن له مكانة أو قدرا {فمن يهن الله فما له من مكرم**.
ولكن من باب التنبيه على أمثاله من إخوانه الأشقياء من المنافقين والعلمانيين حتى لا ينخدعَ بهم من لا درايةَ له بأحوالهم.
فإن هؤلاء قد كثروا في مجتمعاتنا ولوثوا أفكارَ أبنائنا وبناتنا وشوهوا صورة الإسلام في أعينهم، كما أنه قد ازداد نشاطهم في هذه الأيام فلا يدعون مناسبة إلا ونشروا فيها كفرهم وإلحادهم، تارة في الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم وتارة بالتنقص من سنته، واللمزِ والسخرية من المتمسكين به، فكان من الواجب كشف حالهم حتى لا ينخدع بهم مسلم فيقلدَهم في نهجهم وأقوالهم الكفرية فيخرج من دائرة الاسلام.
ويجب أن يعلم المسلم أنه لا يجوز موالاة هؤلاء ولا نصرتهم ولا الجلوس معهم، قال تعالى: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذن مثلُهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا**.
وتعجب من قوم يدّعون التدين والاستقامة فلا يقومون إلا مع هذا الصنف المارق ولا يقعدون إلا معهم، فأي دين هذا الذي لا يمنع صاحبه من إقامة شعائر الله، (وأي دين وأي خير فيمن يرى محارمَ الله تنتهك وحدودَه تضاع ودينَه يترك وسنةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرغب عنها وهو باردُ القلب ساكتُ اللسان، شيطان أخرس، وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا يبالون بما جرى على الدين، ولو نوزعوا في دنياهم لأقاموا الدنيا ولم يقعدوه، وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومَقتِ الله لهم قد بلوا في الدنيا بأعظم بليةٍ تكون وهم لا يشعرون، وهي موت القلوب فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبُه لله ورسولِه أقوى، وانتصارُه للدين أكمل).
كما أنه يجب التبرؤ من هؤلاء المنافقين ومن أفعالهم، قال تعالى: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم**.
ولا يجوز حبُّهم ولا نصرتهم في أي شيء ولو كانوا من أقرب الناس {ومن يتولهم منكم فإنه منهم** قال تعالى: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف**.
وإذا ماتوا وهم على ذلك فلا تجوز الصلاة عليهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (الفتاوى 24/285): "من عُلم منه النفاق والزندقة فإنه لا يجوز لمن علم ذلك منه الصلاةُ عليه وإن كان مظهرا للإسلام فإن الله نهى نبيه عن الصلاة على المنافقين فقال: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون**".
فاحذر أيها المسلم.. أن تدفعك قرابةُ النسب ومصالحُ الدنيا أن تُغضبَ ربك بنصرة هؤلاء ومحبتهِم، فيعاقبك الله بطمسِ البصيرة والختمِ على القلب.
وتذكر أن الدنيا ستزول، والأنسابَ ستنقطع ولن يبقى معك سوى العمل بين يدي الجبار، فبأي وجه تقابل وبأي حجة تخاصم.. إن أنت ناصرت أعداءَ الله ورسولِه طمعا في متاع الدنيا الزائل؟؟!!
فحقيق بأهل النفاق أن يَحُلوا بالمحل الذي أحلهم اللهُ من دار الهوان، وأن ينزَّلوا في أردأ منازلِ أهل العناد والكفران.
ألا وليحذر دعاة السوء من شديد غضب الله وأليم عقابه بما يفعلونه من الحرب الشعواء على الدين العظيم وإضلال عباد الله عن السبيل القويم، فماذا سيكسِبون سوى الخسرانِ في الدارين؟؟
أما تَفكروا في أنفسهم من يحاربون؟؟
إنهم يحاربون الجبار الذي يقبض الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ويقول: أنا الملك، أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟؟.. فهل يطيقون الحرب؟؟!!
فكيف إذا جمعوا ليومِ التلاق وتجلى الله جل جلاله للعباد وقد كشف عن ساق ودعوا إلى السجود فلا يستطيعون {خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون**.
أم كيف بهم إذا حشروا إلى جسر جهنم وهو أدق من الشعرة وأحد من السيف وهو دحض مزلة مظلمٌ لا يقطعه أحد إلا بنور يبصر به مواطئ الأقدام، فتقسم الأنوار بين الناس وهم على قدر تفاوتها في المرور والذهاب، ويُعطى المنافقون نورا ظاهرا مع أهل الإسلام، كما كانوا بينهم في هذه الدار يأتون بالصلاة والزكاة والحج والصيام فلما توسطوا الجسر عصفت على أنوارهم أهوية النفاق فأطفأت ما بأيديهم من المصابيح فوقفوا حيارى لا يستطيعون المرور، ويضرب بينهم وبين أهل الإيمان بسور له باب باطنه الذي يلي المؤمنين فيه الرحمة، وما يليهم من قبلهم العذاب والنقمة.
فينادون من تقدمهم من وفد الإيمان، ومشاعل الركب تلوح على بعد كالنجوم تبدو للناظر، انظرونا نقتبس من نوركم لنتمكن في هذا المضيق من العبور، فقد طَفئت أنوارنا ولا جواز اليوم إلا بمصباح من النور، فيقال لهم ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا حيث قسمت الأنوار..
فمن يقف في هذا الطريق المخيف؟؟
وهل يلتفت اليوم رفيقٌ إلى رفيق؟؟
فذكروهم باجتماعهم معهم وصحبتهم لهم في هذه الدار، كما يذكّر الغريبُ صاحبَ الوطن بصحبته له في الأسفار....
ألم نكن معكم نصوم كما تصومون ونصلي كما تصلون ونقرأ كما تقرؤون ونتصدق كما تصدقون ونحج كما تحجون؟؟.. فما الذي فرق بيننا اليوم حتى انفردتم دوننا بالمرور؟؟، قالوا بلى ولكنكم كانت ظواهرُكم معنا وبواطنُكم مع كل ملحد وكلِّ ظلوم كفور، كما أنكم.. {فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير**.
فيا أيها المسلمون.. احذروا من المنافقين والعلمانيين أشد الحذر.. فهم والله قطاع الطريق، حذار منهم حذار إذ هم الجزارون وألسنتهم سيوف المنايا، ففرارا منهم بدينكم لا يلبسون عليكم فيه فيوردونكم موارد الهلكة.
ومن البلية أنهم الأعداء حقا وليس للمسلمين بد من مخالطتهم، قد جُعلوا دعاةً على أبواب جهنم ونصبوا شباكَهم حواليها على ما حُفَّت به من الشهوات.
وقد استجاب لهم أناس فأوردوهم موارد العَذاب وساموهم من الخسف والبلاء وأدخلوهم باب الهوان صاغرين فبعدا للمستجيبين لهم وويل للمغترين بهم.
فيا أيها الركب المسافرون إلى منازل السعداء.. انتبهوا أن يقطعوا بكم الطريق فتحل بكم الشقوة الأبدية في الدارين.
فإن الناجي حقا من نجاه الله من شراكهم، والشقي من غلبت عليه شقوتُه فتابعهم حتى عاين الهلاك والعطب.
اللهم أبرم لهذه الأمةِ أمر رشد يُعز فيه أهلُ طاعتك ويذلُ فيه أهل معصيتك يؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر.. اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم إنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم اغفر لنا وارحمنا وعافنا واعف عنا وتوفنا وأنت راض عنا.
خطبة للشيخ سالم العجمي