لما رأى الصالحون سطوة الدنيا بأهلها، وتملك الشيطان قياد النفوس، لجأوا إلى حرم التضرع، كما يأوي الصيد المذعور إلى الحرم.
فلو رأيتهم يمشون في ثياب التجمل، عليهم قناع القناعة (يَحسَبُهُم الجاهِلُ أَغنياءَ مِنَ التَعَفُف) ينامون ولا نوم الغرقى، ويأكلون ولا أكل الثكلى تأكل كل يوم المصيبة، ولكن هدم الحزن أكثر من بناء العزاء.
لو كانت لك عين بصيرة عرفت القوم، وخط الولاية على وجه الولي قلم هندي، لا يعرفه إلا عالم به، تلمح القوم بأعين البصائر العواقب، ولم يروا عائقا عن المطلوب سوى النفس، فتلطفوا لقهرها بحيلة لا يعرفها " ابن هند " ولا يعلمها " ابن العاص " فلما أسروها فتكوا فيها، ولا فتك ابن طملجم " قلوبُ أسودٍ في صدور رجال
إِنّكَ لَو رَأَيتَ ذا العَزمِ مِنهُم رَأَيتَ لَيثا قَد حُورِب
إِذا هَمَّ أَلقى بَينَ عَينَيهِ عَزمَهُ
هبت زعازع الفكر، فقلبت أرض القلوب، فألقى فيها بذر العزائم، فسقته مزن الجد، فدبت الأرواح في أغصان المعاملة، فظهرت أزهارها، إذا رأوا ذكر الله ففاح عبير النور، أطيب عرفا من مسك، فقويت بريحه نفوس المريدين.
لا يحصل خطير إلا بخطر، فاخنس في خيسك، يا مخنث العزم، الربح في ركوب البحر، الدر في قعر اليم، العلم في ترك النوم، الفخر في هجر النفس.
من يحب العز يدأب إليه، فكذا من طلب الدر غاص عليه، لولا التخلل بالعبا ما جاءت مدحة " أنا عنك راض " لأبي بكر " ولولا إرسال البراءة إلى الضرة: طلقتك ثلاثا، ما اشتاقت الجنة إلى " علي " .
لَو قُرِب الدَرُّ عَلى جٌلاّبِهِ ... ما لَجَّ الغائِصُ في طِلابِهِ
وَلَو أَقامَ لازِماً أَصدافَهُ ... لَم تَكُنن التَيجانُ في حِسابِهِ