ثالثا : التوازن والاعتدال والتوسط :
قال تعالى : {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ** (77) سورة القصص.
وقال سبحانه واصفاً أهم مزايا هذه الأمة : **وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ** (143) سورة البقرة.
وقالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالبَسُوا وَتَصَدَّقُوا، في غَيرِ إِسْرَافٍ وَلاَ مَخِيلَةٍ». وَقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُل ما شِئْتَ وَالبَسْ ما شِئْتَ، ما أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ: سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ" ( رواه البخاري ).
وقيل لأعرابي كيف تصنع بالبادية إذا انتصف النهار و انتقل كل شئ ظله فقال :وهل العيش إلا ذاك يمشى أحدنا ميلا ً فيرفض عرقاً كأنه الجمان ، ثم ينصب عصاه ويلقى عليها كساءه ، وتميل عليه الريح من كل جانب فكأنه في إيوان كسرى .
قيل للحسن البصري –رحمة الله – ما سر زهدك في الدنيا ،فقال أربعة أشياء :
- علمت أن رزقي لن يأخذه غيري فاطمأن قلبي.
- وعلمت أن عملي لا يقوم به سواي فاشتغلت به وحدي .
- وعلمت أن الله مطلع علىّ فاستحييت أن يراني على معصية .
- وعلمت أن الموت ينتظرني فأعددت الزاد للقاء ربى .
وذكروا قصة ميسونة زوجة معاوية التي أتى بها من البادية إلى الشام لتعيش في قصر الخليفة ولكنها لم تألف ذلك فحنت إلى باديتها البسيطة التي لا تعقيد ولاقيودات فيها فانشدت تقول :
لَبَيْتٌ تَخْفِقُ الأَرْيَاحُ فِيهِ * * * أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ قَصْرٍ مَنِيفِ
وَأَصْوَاتُ الرِّيَاحِ بِكُلِّ فَجٍّ * * * أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَقْرِ الدُّفُوفِ
وَكَلْبٌ يَنْبَحُ الطُرَّاقَ عَنِّي * * * أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ قِطٍّ ألُوفِ
وبكر يتبع الأظعان صعب * * * أحب إلـى من بغل وفوفِ
ولُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي * * * أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشَّفُوفِ
وَأكْلُ كُسَيْرَةٍ فِي قَعْرِ بَيْتِي * * * أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَكْلِ الرَّغِيفِ
خُشُونَةُ عِيشَتِي فِي الْبَدْوِ أَشْهَى * * * إِلَى نَفْسِي مِنَ الْعَيْشِ الظَّرِيفِ
فما أبغي سوى وطـن بـديلا * * * وحسبي ذاك مـن وطن شريفِ
رابعا : الهدف والطموح والتخطيط الجيد لحياتك :
قال تعالى : {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ** (115) سورة المؤمنون. فقد خلق تعالى الإنسان لغاية مقصودة وحكمة منشودة قال سبحانه : **وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ** (56) سورة الذاريات.
وهذه الغاية وهذا الهدف الذي خلق الإنسان من أجله يحتاج منه أن يكون صاحب شخصية متوازنة ومتزنة ومستقلة فلا يكن إمعة يسير مع الناس حيث ساروا في حقهم وباطلهم فقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم - لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا " ( رواه الترمذي ).
حـب السلامـة يثنـي هـمّ صاحبـه * * * عن المعالي ويغـري المـرء بالكسـل
رضى الذليل بخفـض العيـش مسكنـه * * * والعـزّ تحـت رسيـم الأينـق الذلـل
قـد رشحـوك لأمـر لـو فطنـت لـه * * * فاربأ بنفسـك أن ترعـى مـع الهمـل
عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إذا سألتم الله فسألوه الفردوس ، فإنه سر الجنة" .(صحيح.
قال رجاء بن حيوة ، لما كان عمر بن عبد العزيز والياً على المدينة قال لي : يا رجاء اذهب واشتر لي ثوباً ، فاشتريت له ثوباً جيداً ثمنه خمسمائة درهم ولما أتيته به ولمسه بيده قال : هو جيد لولا أنه رخيص الثمن !
قال رجاء : وبعد سنوات صار عمر أميراً للمؤمنين ، فقال لي يا رجاء اذهب واشتر لي ثوباً فاشتريت له ثوباً متواضعاً ثمنه خمسة دراهم ، ولما أتيته به ولمسه بيده فاجأني بقوله : هو جيد لولا أنه غالى الثمن ، تعجبت كيف يكون الثوب الذي اشتريته له في المدينة من سنوات بخمسمائة درهم رخيص الثمن ، والثوب الذي اشتريته الآن بخمسة دراهم غالى الثمن !! قال رجاء فتأثرت بذلك فبكيت فقال ما يبكيك ؟
قلت له : موقفك ، وكلامك ، فقال لي : يا رجاء إن لي نفساً تواقة ، كلما حققت شيئاً تاقت إلى ما بعده ، يا رجاء : تاقت نفسي إلى ابنة عمى فاطمة بنت عبد الملك فتزوجتها ثم تاقت نفسي إلى الإمارة فوليتها ، ثم تاقت نفسي إلى الخلافة فنلتها ، والآن تاقت نفسي إلى الجنة وأرجو أن أكون من أهلها !! .
ذكر ( الذهبي في سير أعلام النبلاء (4/141) أنه اجتمع في الحِجر عبد الله ، ومصعب، وعروة – بنو الزبير – وابن عمر، فقال ابن عمر: تمنوا، فقال ابن الزبير: أتمنى الخلافة، وقال عروة: أتمنى أن يؤخذ عني العلم، وقال مصعب: أتمنى إمرة العراق، والجمع بين عائشة بنت طلحة وسُكينة بنت الحسين. فقال ابن عمر: أما أنا فأتمنى المغفرة. قال أبو الزناد: فنالوا ما تمنوا، ولعل ابن عمر قد غُفر له .
خامسا : الإحسان إلى الخلق والتواصل مع الناس :
حثنا الدين الحنيف على حسن الخلق مع جميع الناس ، وجعل ذلك عنوانا على صحة إيمان المسلم وعلى كمال وتمام إيمانه .
قال تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم : **فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ** (159) سورة آل عمران.
وعن أبى إدريس الخولانى عن أبى ذر قال ، قلت يا رسول الله : أي المؤمنين أكمل إيماناً ، قال : أحسنهم خلقاً ". رواه الطبراني في الأوسط ، وانظر المنتقى من مكارم الأخلاق ص 28 .
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من هذا الدعاء : " اللهم إني أسألك الصحة والعافية ، وحسن الخلق. رواه البزار .
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وأرشدهم إلى حسن الخلق . فعن أبى ذر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :- " يا أبا ذر اتق الله حيثما كنت ، واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن" أخرجه الترمذي رقم ( 1988) وقال حديث حسن.
وقال عليه الصلاة والسلام " مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " رواه الطبراني في الأوسط ، وانظر المنتقى من مكارم الأخلاق ص 28 .
ودرجة حسن الخلق في الإسلام من أعلى وأرفع الدرجات عن الله تعالى .
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ. رواه الترمذي في سننه، ج7 ص 85 .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما ، قَالَ : قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ( كُلّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ ). قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ ، نَعْرِفُهُ. فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ ؟ قَالَ: ( هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ. لاَ إِثْمَ فِيهِ وَلاَ بَغْيَ وَلاَ غِلَّ وَلاَ حَسَدَ ) رواه ابن ماجه (4307) .
وقد قيل : حُسْن الخُلق خيْر قَرِين، والأدب خير ميراث، والتَوفيق خير قَائد.
وقيل للأحنف بن قيس: ممن تعلمت حسن الخلق؟ فقال من قيس بن عاصم، بينما هو ذات يوم جالس في داره إذ جاءته خادمة له بسفود عليه شواء حار، فنزعت السفود من اللحم وألقته خلف ظهرها فوقع على ابن له، فقتله لوقته، فدهشت الجارية، فقال: لا روع عليك أنت حرة لوجه الله تعالى.
وقيل لابن المبارك رحمه الله تعالى: اجمع لنا حسن الخلق في كلمة واحدة. قال: ترك الغضب.
وعن أبي قلابة ، قال : « التمس لأخيك العذر بجهدك ، فإن لم تجد له عذرا فقل : لعل لأخي عذرا لا أعلمه ».
إن الكريم إذا تمكن من أذى * * * جاءته أخلاق الكرام فأقلعا
وترى اللَّئيم إذا تمكن من أذى * * * يطغى فلا يبقى لصلح موضعا
قال سفيان بن حسين: ذكرت رجلاً بسوء عند إياس بن معاوية فنظر في وجهي, وقال: أغزوت الروم؟؟قلت: لا قال: أغزوت الهند أو السند أو الترك؟؟قلت: لا قال: أفسلم منك الروم, والهند , والسند , والترك؟!ولم يسلم منك أخوك المسلم! .
أحبُ مـــكارم الأخلاق جهدي * * * واكره أن أعيب وان أعابا
واصفح عن سباب الناس حــلما * * * وشر الناس من يهوى السبابا
ومن هـــاب الرجــــال تهــيبهُ * * * ومن حقر الرجــال فلن يهابا
وللحياة الطيبة أسباب وشروط أخرى منها :
* الصلاة من أعظم الأسباب لتحقيق الحياة الطيبة، تشرح الصدرَ، وتُذهب ضيقه، وتُرسل في القلب نبضاتِ الطمأنينة والراحة، فلا يزال العبد كأنَّه في سجنٍ وضيق حتى يدخل فيها، فيستريح بها لا منها. تمدّ العبدَ بقوةٍ إيمانية، تعينه على مهماتِ الحياة ومصائبها، بها تزول الهمومُ والغموم والأحزان، قال تعالى: **وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَـاشِعِينَ**[البقرة:45]. وكان-صلى الله عليه وسلم- إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. أخرجه البخاري.
* ومن أهمّ أسباب الحياة الطيبة – كذلك - دوامُ الذكر، فالذكر طمأنينة للقلب، أمانٌ للنفس، حفظٌ لها من الشرور. والقلبُ الممتلئ بذكر الله قلبٌ قويّ، لا يخاف غيرَ الله، ولا يخشى أحدًا إلا الله؛ لأنه يستشعر دائمًا معيةَ الله ونصرتَه، فهو سبحانه القائل في الحديث القدسي: (أنا مع عبدي ما ذكرني وتحرّكت بي شفتاه)) أخرجه أحمد.
* من أسباب الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة هدايةُ الله للعبد إلى التوبة والاستغفار كلما أصاب ذنبًا أو همَّ بمعصية، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَـئِفٌ مّنَ الشَّيْطَـانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ**[الأعراف:201.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وأيُّ حياةٍ أطيبُ من حياة مَن اجتمعت همومُه كلها وصارت همًّا واحداً في مرضاة الله تعالى، ولم يتشعَّب قلبه، بل أقبلَ على الله، واجتمَعت إرادتُه وأفكاره على الله-تعالى-، فصار ذكرُه لمحبوبه الأعلى وحبُّه والشوق إلى لقائه والأنس بقربه هو المستوليَ عليه، وعليه تدور همومُه وإرادته وقصودُه بكل خطوات قلبه، فإن سكت سكتَ لله، وإن نطقَ نطقَ بالله، وإن سمِع فبِه يسمَع، وإن أبصر فبه يُبصِر، وبه يبطِش، وبه يمشي، وبه يتحرَّك، وبه يسكن، وبه يحيى، وبه يموت، وبه يُبعث" انتهى كلامه رحمه الله.
فالرجلُ الموفقُ السعيد من نظر في هذه الحياة وعرف حقها وقدرها فهي والله حياةُ طيبة طالما حاز فيها المرء قلباً صالحاً نقياً من الشوائب، ولساناً طيباً يتقول به الكلام الطيب ،وجوارح يسخرها في كل ما ينفع به نفسه وغيره.
اللهم إني أسألك عيشة هنية وميتة سوية ومرداً غير مخز ولا فاضح .
دكتور / بدر عبد الحميد هميسه
المصدر صيد الفوائد