هجر المسلم وأسبابه
تحريم هجر المسلم لأخيه بغير سبب شرعي فوق ثلاثة أيام:
قال - تعالى -: **إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ** [الحجرات: 10].
1) عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخواناً، لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث » متفق عليه.
2) وعن أبي أيوب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: « لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام » متفق عليه.
ومن عظم حرمة التهاجر عند الله - تعالى -:
أ- أن الله ينظر المتهاجرين فلا يغفر لهما حتى يصطلحا، فقد روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « تعرض الأعمال في كل اثنين وخميس فيغفر الله لكل امرئ لا يشرك بالله شيئاً إلا امرأً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحا ».
ب- وكذلك من مات مهاجراً لأخيه دخل النار، فقد روى أبو داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار ».
ج- جعل إثم هجره سنة كإثم سفك دمه، كما روى أبو داود أيضاً بإسناد صحيح عن أبي خراش السلمي أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: « من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه ».
ويستثنى من ذلك: (أسباب هجر المسلم):
1) الهجر ثلاثة أيام فما دون كما دلت عليه الأحاديث، وهذا الهجر لأجل حظ النفس كما قال ابن تيمية.
2) هجر الرجل لامرأته في المضجع إذا نشزت، كما قال - تعالى -: **وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ** [النساء: 34]، غير أنه لا تلازم بين هذا الهجر وترك الكلام، فترك الرجل لامرأته يجب أن يكون في حدود الثلاثة أيام التي نص عليها الحديث، إلا إذا كانت هناك مصلحة في زيادتها فلا مانع.
3) هجر أصحاب المعاصي، ممن يفعل المنكرات والمحرمات أو يترك الواجبات كما هجر النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون الثلاثة الذين خلفوا حتى أنزل الله - تعالى -توبتهم.
قال الإمام أحمد: إذا علم أنه مقيم على معصية وهو يعلم بذلك لم يأثم إن هو جفاه حتى يرجع وإلا كيف يتبين للرجل ما هو عليه إذا لم ير منكراً ولا جفوة من صديق،
وقد هجر - رحمه الله - من أجاب في المحنة إلى أن مات، فيهجر أهل المعاصي ومن قارف الأعمال الردية أو تعدى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على معنى الإقامة عليه أو الإصرار، وأما من سكر أو شرب أو فعل فعلاً من هذه الأشياء المحظورة ثم لم يكاشف بها ولم يلق فيها جلباب الحياء، فالكف عن أعراضهم وعن المسلمين والإمساك عن أعراضهم وعن المسلمين أسلم.
وهجر عمر - رضي الله عنه - والمسلمون صبيغاً، وهجر عبدالله بن مغفل - رضي الله عنه - قريباً له وقال: لا أكلمك أبداً،
ورأى ابن مسعود - رضي الله عنه - رجلاً يضحك في جنازة فقال: أتضحك مع الجنازة لا أكلمك أبداً، وكان لأنس بن مالك - رضي الله عنه - امرأة في خلقها سوء فكان يهجرها السنة والأشهر فتتعلق بثوبه فتقول: أنشدك بالله يا ابن مالك أنشدك بالله يا ابن مالك فما يكلمها، وقيل لأنس - رضي الله عنه -: إن قوماً يكذبون بالشفاعة وقوماً يكذبون بعذاب القبر، قال: لا تجالسوهم، وعن حذيفة - رضي الله عنه - أنه قال لرجل في عضده خيطاً من الحمى لو مت وهذا عليك لم أصل عليك، وهذا كله في أصحاب المعاصي المجاهرين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: « كل أمتي معافى إلا المجاهرين » [البخاري: (5/2254) (5721)، مسلم: (4/2291) (2990) عن أبي هريرة].
4) هجر أهل البدع الداعين إلى بدعهم، والأصل في ذلك قوله - تعالى -: [وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ] {الأنعام: 68**.
وما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: « لا تجالسوا أهل القدر ولا تناكحوهم » رواه أحمد وفيه ضعف، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: « لكل أمة مجوس ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم » [أبو داود: (2/634) (4692) عن حذيفة].
وقد أجمع السلف على هجر أهل البدع وكثر كلامهم فيهم:
قال محمد بن كعب القرظي: لا تجالسوا أصحاب القدر ولا تماروهم. وكان حماد بن سلمة إذا جلس يقول: من كان قدرياً فليقم، وكذلك روي عن طاوس وأيوب وسليمان التيمي ويونس بن عبيد. وذكر الشيخ موفق الدين - رحمه الله - في المنع من النظر في كتب المبتدعة قال: كان السلف ينهون عن مجالسة أهل البدع والنظر في كتبهم والاستماع لكلامهم -إلى أن قال- وإذا كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن اتبع سنتهم في جميع الأعصار والأمصار متفقين على وجوب اتباع الكتاب والسنة وترك علم الكلام وتبديع أهله وهجرانهم والخبر بزندقتهم وبدعتهم فيجب القول ببطلانه وأن لا يلتفت إليه ولا يغتر به أحد.
وقال المروذي قلت لأبي عبدالله: اطلعنا من رجل على فجور وهو يتقدم يصلي بالناس أخرج من خلفه؟ قال: اخرج من خلفه خروجاً لا تفحش عليه، وقال ابن منصور لأبي عبدالله: إذا علم من الرجل الفجور أتخبر به الناس؟ قال: لا بل يستر عليه إلا أن يكون داعية.
وكره الإمام أحمد هجر الأقارب لحق نفسه أما إذا كان الحق لله فهم وغيرهم فيه سواء.
وأختم بكلام ابن تيمية - رحمه الله - في هذا الموضوع حيث قال: "وهذا حقيقة قول من قال من السلف والأئمة أن الدعاة إلى البدع لا تقبل شهادتهم ولا يصلى خلفهم ولا يؤخذ عنهم العلم ولا يناكحون، فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا، ولهذا يفرق بين الداعية وغير الداعية؛ لأن الداعية أظهر المنكرات فاستحق العقوبة بخلاف الكاتم فإنه ليس شراً من المنافقين الذين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله مع علمه بحال كثير منهم.
قال: وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعاً، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتألف قوماً ويهجر آخرين.
قال: وهذا لأن الهجر من باب العقوبات الشرعية فهو من جنس الجهاد في سبيل الله وهذا يفعل لأن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله، والمؤمن عليه أن يعادي في الله ويوالي في الله، فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية قال - تعالى -: **وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا..** [الحجرات: 9].
فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي والأمر بالإصلاح بينهم، فليتدبر المؤمن الفرق بين هذين النوعين يعني الهجر لحق الله والهجر لحق نفسه -فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر- وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك.
قال: وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وبر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة فيجتمع له من هذا وهذا، وهذا اللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته.
وقال: فإن كان الرجل متستراً بذلك، أي فعل المنكرات والفواحش وشرب الخمر وفعل العدوان وليس معلناً له أنكر عليه سراً وستر عليه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: « من ستر عبداً ستره الله في الدنيا والآخرة ».
إلا أن يتعدى ضرره والمتعدي لا بد من كف عدوانه وإذا نهاه المرء سراً فلم ينته فعل ما ينكف به من هجر وغيره إذا كان ذلك أنفع في الدين، وأما إذا أظهر الرجل المنكرات وجب الإنكار عليه علانية ولم يبق له غيبة ووجب أن يعاقب علانية بما يردعه عن ذلك من هجر وغيره، فلا يسلم عليه ولا يرد - عليه السلام - إذا كان الفاعل لذلك متمكناً من ذلك من غير مفسدة راجحة.
وينبغي لأهل الخير والدين أن يهجروه ميتاً كما هجروه حياً إذا كان في ذلك كف لأمثاله من المجرمين فيتركون تشييع جنازته كما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - على غير واحد من أهل الجرائم" والله أعلم.