هذه الآيات جاءت في سياق المقارنة بين شهوات الدنيا ونعيم الآخرة ، فبعد أن ذكر
الله عز وجل متاع الدنيا وما زين للناس فيها من ملذات ، شرع في ذكر نعيم الآخرة ،
وأنه هو النعيم الحقيقي ، والسعادة الأبدية ، وقد بدأ الله عز وجل هذا السياق بصيغة
الاستفهام التشويقي ، فقال سبحانه وتعالى : ( قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ
ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ . الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا
فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . الصَّابِرِينَ
وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ
بِالْأَسْحَارِ ) آل عمران/15-17 .
فمتاع الآخرة خالٍ من كل أذى وكدر ، فإذا كان في الدنيا نساء وبنين ، ففي الآخرة
أزواج مطهرة من كل ما ينفر من نساء الدنيا ، وفي هذا الوصف ارتفاع حقيقي على شهوات
الأرض وملذاتها .
وأعظم من ذلك كله ( رضوان من الله ) يعدل الحياة الدنيا والحياة الأخرى ، فهو أعظم
نعيم يتنعم به أهل الجنة ، أن يحل عليهم رضوان الله وحبه ولطفه فلا يشقون بعده أبدا
.
ثم شرع سبحانه في بيان حقيقة العباد الذي يستحقون هذا النعيم الكبير ، وهو سبحانه
بصير بهم جميعا ، فقال سبحانه : ( الذين يقولون ربنا إننا آمنا ، فاغفر لنا ذنوبنا
، وقنا عذاب النار)
وقولهم هذا ليس مقصودا لذاته ، وإنما المقصود ذلك الإيمان والإقبال على الله تعالى
، الذي يحيل حياة المؤمنين إلى تعلق تام بالله عز وجل ، وذل وانكسار بين يديه
سبحانه ، حتى تغدو مغفرة الذنوب ، والوقاية من النار أغلى أماني هؤلاء العباد
المؤمنين .
يقول ابن القيم رحمه الله : " أخبر سبحانه أن ذلك كله متاع الحياة الدنيا ، ثم
شوَّق عباده الى متاع الآخرة ، وأعلمهم أنه خير من هذا المتاع وأبقى فقال : ( قُلْ
أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ
مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) .
ثم ذكر سبحانه من يستحق هذا المتاع ومن هم أهله الذين هم أولى به فقال : (
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا
وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ
وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ) ، فأخبر سبحانه أن ما أعد
لأوليائه المتقين من متاع الآخرة خير من متاع الدنيا ، وهو نوعان : ثواب يتمتعون به
، وأكبر منه وهو رضوانه عليهم ، قال تعالى : ( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي
الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ
يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً ) ، فأخبر سبحانه عن حقيقة
الدنيا بما جعله مشاهَدا لأولي البصائر ، وأنها لعب ولهو تلهو بها النفوس وتلعب بها
الأبدان ، واللعب واللهو لا حقيقة لهما ، وأنهما مشغلة للنفس ، مضيعة للوقت ، يُقطع
بها الجاهلون ، فيذهب ضائعا في غير شيء " انتهى . "عدة الصابرين" (ص/168) .
ثانيا : تفسير المفردات .
ذكر سبحانه وتعالى أوصاف عباده المتقين الذين أعد لهم في الجنة من النعيم ما لا
يقارن بنعيم الدنيا ، وذكر هذه الأوصاف ترغيبا في التحلي بها ، والمحافظة على
مضامينها .
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله : " يصف تعالى عباده المتقين الذين وعدهم الثواب
الجزيل ، فقال تعالى : ( الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا ) أي : بك
، وبكتابك ، وبرسولك .
( فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا ) أي : بإيماننا بك وبما شرعته لنا ، فاغفر لنا
ذنوبنا وتقصيرنا من أمرنا بفضلك ورحمتك . ( وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ )
ثم قال : ( الصَّابِرِين ) أي : في قيامهم بالطاعات وتركهم المحرمات .
( وَالصَّادِقِينَ ) فيما أخبروا به من إيمانهم بما يلتزمونه من الأعمال الشاقة .
( وَالقَانِتِينَ ) والقنوت : الطاعة والخضوع .
( والْمُنفِقِينَ ) أي : من أموالهم في جميع ما أمروا به من الطاعات ، وصلة الأرحام
والقرابات ، وسد الخَلّات ، ومواساة ذوي الحاجات .
( وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ ) دل على فضيلة الاستغفار وقت الأسحار ، وقد
قيل : إن يعقوب عليه السلام لما قال لبنيه : ( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي )
يوسف/98 ، أنه أخرهم إلى وقت السحر ، وثبت في الصحيحين
وغيرهما من المساند والسنن من غير وجه ، عن جماعة من الصحابة ، أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : ( ينزلُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في كُلِّ لَيْلَةٍ إلَى
سمَِاءِ الدُّنيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِر . فيقولُ : هَلْ مِنْ
سَائل فأعْطِيَه ؟ هَلْ مِنْ دَاع فَأسْتجيبَ له ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِر فأغْفِرَ
لَهُ ) الحديث " انتهى .
ثالثا : البلاغة والبيان .
ونبين هنا بعض الأمور البلاغية والبيانية في قوله سبحانه : ( الصابرين والصادقين
والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار ) ، على طريقة السؤال والجواب ، مسترشدين
بكلام أهل العلم المفسرين .
1- لماذا ذكر الله تعالى هذه الأوصاف دون غيرها من أوصاف المؤمنين ؟
يبين بعض المفسرين أن هذه الأوصاف الخمسة هي التي تجمع وتشمل جميع مقامات العبودية
والمعاملة مع الله تعالى .
يقول الإمام البيضاوي رحمه الله : " ( الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين
والمستغفرين بالأسحار ) : حصرٌ لمقامات السالك على أحسن ترتيب .
فإن معاملته مع الله تعالى : إما توسل ، وإما طلب .
والتوسل : إما بالنفس : وهو منعها عن الرذائل وحبسها على الفضائل ، والصبر يشملهما
. وإما بالبدن : وهو إما قولي : وهو الصدق .
وإما فعلي : وهو القنوت الذي هو ملازمة الطاعة .
وإما بالمال : وهو الإِنفاق في سبل الخير .
وأما الطلب : فبالاستغفار ؛ لأن المغفرة أعظم المطالب ، بل الجامع لها .
"تفسير البيضاوي" (2/16)
ويقول العلامة الطاهر ابن عاشور رحمه الله : " ذكر هنا أصول فضائل صفات المتدينين ،
وهي :
الصبر : الذي هو ملاك فعل الطاعات وترك المعاصي .
والصدق : الذي هو ملاك الاستقامة وبث الثقة بين أفراد الأمة .
والقنوت : وهو ملازمة العبادات في أوقاتها ، وإتقانها ، وهو عبادة نفسية جسدية .
والإنفاق : وهو أصل إقامة أَوَد الأمة بكفاية حاجة المحتاجين ، وهو قربة مالية ،
والمال شقيق النفس .
وزاد الاستغفار بالأسحار : وهو الدعاء والصلاة المشتملة عليه في أواخر الليل ،
والسحر سدس الليل الأخير ؛ لأن العبادة فيه أشد إخلاصا ، لما في ذلك الوقت من هدوء
النفوس ، ولدلالته على اهتمام صاحبه بأمر آخرته ، فاختار له هؤلاء الصادقون آخر
الليل لأنه وقت صفاء السرائر ، والتجرد عن الشواغل " انتهى . "التحرير
والتنوير" (3/43) .
2- لماذا جاءت هذه الأوصاف بالترتيب المذكور ، هل لذلك سبب معين ، وهل يدل ذلك على
تفاضل هذه المقامات ، أم أنها مقامات متساوية ؟
قد يبدو للمتأمل أن هذا الترتيب جاء بسبب تفاضل المقامات المذكورة :
فالصبر يقتضي حبس النفس على الطاعات وترك المعاصي ، ولكن حبس النفس لا يؤجر عليه
المرء إلا إذا كان صادقا مخلصا لله تعالى ، فبدأ بـ " الصابرين " ثم : " والصادقين
" .
ثم قد ينقطع العبد عن صبره وصدقه ، فيكسل عن العبادة ، ويتأخر عن الترقي في مراتبها
، فجاء وصف القنوت ، وهو الدوام على العبادة والاستقامة ، فقال سبحانه : "
والقانتين " ، ثم سمى سبحانه وتعالى بعض الطاعات التي أوجبت لهم أوصاف التقوى
والصبر والمرتبة العالية : فذكر عز وجل : ( المنفقين والمستغفرين بالأسحار ) .
يقول الفخر الرازي رحمه الله : " اعلم أن لله تعالى على عباده أنواعاً من التكليف ،
والصابر هو من يصبر على أداء جميع أنواعها .
وكمال هذه المرتبة أنه إذا التزم طاعة أن يصدق نفسه في التزامه ، وذلك بأن يأتي
بذلك للملتزم من غير خلل ألبتة ، ولما كانت هذه المرتبة متأخرة عن الأولى ، لا جرم
ذكر سبحانه الصابرين أولاً ، ثم قال : ( الصادقين ) ثانياً .
ثم إنه تعالى ندب إلى المواظبة على هذين النوعين من الطاعة ، فقال : ( والقانتين )
.
فهذه الألفاظ الثلاثة للترغيب في المواظبة على جميع أنواع الطاعات .
ثم بعد ذلك ذكر الطاعات المعينة ، وكان أعظم الطاعات قدراً أمران :
أحدهما : الخدمة بالمال ، فذكر هنا بقوله : ( والمنفقين ) .
والثاني : الخدمة بالنفس ، فذكره هنا بقوله : ( والمستغفرين بالأسحار ) .
فإن قيل : فلم قدم ههنا ذكر المنفقين على ذكر المستغفرين ؟
قلنا : لأن هذه الآية في شرح عروج العبد من الأدنى إلى الأشرف ، فلا جرم وقع الختم
بذكر المستغفرين بالأسحار " انتهى باختصار . "مفاتيح الغيب" (7/176-177) .
هذا وقد ذكر المفسرون كلاما دقيقا في سر العطف بالواو بين هذه الأوصاف ، لا نحب أن
نطيل به على القارئ الكريم ، فمن أحب الاستزادة منه فليرجع إلى التفاسير السابق
ذكرها في هذا الجواب .
والله أعلم .