المعالجة النفسانية في الجاهلية والإسلام :
لما كانت جزيرة العرب قبل ظهور الإسلام تحتل مكانا وسطا بين امبراطوريتين هما الإمبراطورية الرومانية ، وقد أحاطت بالجزيرة من الشمال والغرب ، إذ كان الرومان يحتلون سوريا وفلسطين ومصر ، والإمبراطورية الفارسية ، وقد أحاطت بجزيرة العرب من الشمال والشرق والجنوب ، فقد كان الفرس يحتلون بلاد اليمن .
ومن المعروف تاريخيا أن هاتين الإمبراطوريتين كانتا على درجة عالية من الثقافة وخاصة الثقافة الطبية ، فالإمبراطورية الرومانية الشرقية ورثة ثقافة الإغريق القدماء ، ومهارتهم الطبية ومما يروى أن الإمبراطور جستنيان قد نقم على الفلسفة والفلاسفة ، وأبعد فريقا منهم ممن قالوا بالمذهب الإفلاطوني الحديث ، في القرن السادس الميلادي . فتوجه عددا من هؤلاء إلى بلاد فارس فرحب بهم كسرى ، ونشروا ببلاده الفلسفة والطب ، وأقاموا البيمارستانات ، ومع ذلك فقد كانت مهنة الطب معروفة بشكل جيد في بلاد فارس وفي الهند وغيرهما من الممالك الشرقية .
ومن المؤكد إنه كان لدى العرب قبل الإسلام أطباء يمارسون الطب ويدرسونه ، وخاصة في الحيرة واليمن وسوريا المتاخمة لتلك البلاد العريقة في الحضارة ، ويروي بعض المؤرخين أنه كان في بلاد العرب قبل الإسلام حكماء تفوقوا في مجال الحكمة والطب ، وعلى رأس هؤلاء الأطباء والحكماء الحرث بن كلدة الذي وفد على كسرى أنو شروان وأجاب إجابات سديدة عن أسئلة طرحت عليه وتتعلق بالحكمة والطب ، فأقر كسرى بفضله وحكمته ، ومهارته الطبية .
[ إبن أبي أصيبعة : طبقات الأطباء ج 1 ص 109 ] .
ومن هؤلاء الأطباء أيضا ابن حذيم من تيم الرباب ، وقد نبع بالتداوي بالكي ، وقيل إنه كان أعمق من الحرث بن كلدة ، وكان يضرب به المثل في الطب فيقال أطب من خديم ، وأطب في الكي من ابن خديم . [ الألوسي : بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب ج 3 ص 328 ] .
ويذهب بعض المؤرخين إلى أن بعض أطباء العرب قد عاصروا الرسول صلى الله عليه وسلم كالنضر بن الحرث بن كلدة الثقفي ، وقيل إنه يمت بصلة القربى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويقال انه كان كثير الترحال والتجوال في البلاد ، عاشر الحكماء والعلماء والفلاسفة والأحبار والكهنة ، وحصل من العلوم القديمة أشياء جليلة القدر ، ويقال إنه كان كثير الأذى والحسد للنبي صلى الله عليه وسلم مع انه ابن خالته ، ولما كان يوم بدر ناصر المشركين ، وكان في تعداد من أسرهم المسلمون فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتله .
والتاريخ يحدثنا عن وجود طائفة من الكهنة إلى جانب هؤلاء الأطباء في الجزيرة العربية ، كانوا يزعمون أنهم يعرفون الغيب ، وأنهم قادرون على استخدام الجن والشياطين لمساعدتهم عندما يرغبون الإتصال بالسماء لمعرفة الغيب ، ويقال أن هؤلاء قد حاولوا معالجة بعض المصابين بالأمراض العقلية ، بحكم ما كان لهم من قوة نفوذ ، ومقدرة على التأثير في النفوس .
ويقال أن الكهنة العرب قد اتبعوا عادات وتقاليد طبية أو وقائية معينة شاع أمرها فيما بينهم ، ودرجوا على اتباعها في حالات معينة . وآمنوا بفاعلية الأحجار والرقي والتمائم والخرزات والعزائم ، وكانوا يستخدمونها لأمراض وإصابات مختلفة مثل :
( 1 ) التخلص من بعض الآلام أو الأمراض .
( 2 ) اكتساب الثقة بالنفس عند مقابلة الحكام أو الخصوم .
( 3 ) التحبب إلى الناس .
( 4 ) تجنب الآفات عامة وإصابة العين خاصة .
ويذهب الألوسي إلى أن هؤلاء كانوا يعتقدون أن الرجل إذا خدرت رجله ذكر من يحب ، أو دعاه فيذهب خدرها ، وأن من اهتزت أو اختلجت عينه إذا قال : (( أرى من أحب )) فإن كان غائبا توقع قدومه ، وإن كان بعيدا توقع قربه ، فيذهب اختلاج واهتزاز عينه .
وفي حالة تعرض أحدهم للهوس أو الجنون يزعمون أنه مسكون بالأرواح الخبيثة لذلك لابد من تنجيسه ووضع الأقذار عليه ، كخرقة من الحيض أو عظام الموتى . وإذا اعتقدوا أن الرجل المريض مصابا بمسا من الجن عالجوه بالنشرة وهي ضرب من الرقية . وكذلك كانوا يرون شرب دم الرئيس على الشفاء من الكلب ، وأن العاشق إذا سقي من السلوانة يسلو . والسلوانة حرزنة بيضاء شفافة ، أو هي كما يقول اللحياني ـ تراب من قبر يسقى به العاشق .
ومن خرزاتهم التي كانوا يعتدون عليها بها ( الخصمة ) وهي خرزة خاصة بالدخول على السلطان أو الخصوم توضع تحت فص الخاتم ، أو في زر القميص ، أو في حمائل السيف وكانوا يرون تعليق الهنمة ، أو الفطسة ، أو القبلة ، أو الدردبيس ، يحبب الرجال في النساء ، وهذه كلها أنواع من الخرز .
وكانوا أيضا يعلقون التميمة ـ وهي خرزة خاصة ـ لمنع الآفات ، وخرزة أخرى سوداء تسمى الكحلة , لدفع العين عن الصبيان ، وخرزة بيضاء تسمى القبلة تعلق في عنق الفرس من العين .
ولما ظهر الإسلام حمل حملة شعواء على هذه العادات والتقاليد البالية واعتبر أتباعها شركاء لأنه ينطوي على نسبة التأثير لغير الله . وعلى من ذلك لم يقض عليها القضاء التام ، بدليل استمرار بعضها أو ما يشبهها حتى عصرنا الحاضر ، حيث لا يزال كثير من العامة يستخدمون التمائم والرقي ، ويقيمون حفلات الزار ، ويعقدون جلسات للعلاج بالأرواح .
وعندما تحاول إلقاء نظرة خاطفة على هذه العادات والتقاليد من الزاوية النفسية بغض النظر عن حكم الشرع لا نستغرب ، حين نلمس نجاح بعضها ، لأن هذا النجاح ربما يعود إلى الإيمان العميق والثقة التامة بنجاحها ومنفعتها ، وهذا ما يعرف بعلم النفس الحديث (( بالإيحاء الذاتي )) الذي يؤثر في النفس الإنسانية تأثيرا لا شك في فاعليته ونجاحه .
ولعل تأثير الخرزات والعزائم والرقي والتمائم نابع من مدى شعور الفرد الخاص نحو نفسه ، وهذا الشعور يدفعه على سلوك مسلكا خاصا يحببه إلى غيره فتحدث المحبة بالفعل . وربما كان لتأثير العزائم والتمائم ونحوها في منع العين يعود إلى وجودها معلقة حول الرقبة مثلا يوجه إليها الأنظار ، ويجعلها موضع الإهتمام فتنصرف إليها الأعين .
أما تأثيرها في ابعاد الآفات فلعله يعود إلى أنها تكسب حاملها الثقة والإيمان بالنفس ، وتمده بأفكار قوية مضادة للإصابة ، فتكون بمثابة قوة روحية إيمانية محصنة للجسم ، تقيه شر التأثر بالآفات . وللحديث بقية ............
( من كتاب في سبيل موسوعة نفسية / الدكتور مصطفى غالب )