الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وآله وصحبه ، ومن اهتدى بهديه ، وصلى بصلاته إلى يوم الدين ، قال تعالى : {يوم لا ينفع مال ولا بنون . إلا من أتى الله بقلب سليم **.
أما بعد .
أخطاء الناس ومخالفاتهم في الصيام والقيام كثيرة شهيرة، سواء في اعتقاداتهم وأحكامهم وممارساتهم، فيظنون – وبعضهم يعتقد – أمورا ليست من الإسلام في شيء تجاه هذا الركن العظيم من أركان الإسلام؛ ويستبدلون – فيه وفي غيره – الذي هو أدنى بالذي هو خير، اتِّباعا لليهود، الذين نهى النبي عن مشابهتهم، وأكد وحث على مخالفتهم.
ومن هذه الأخطاء أخطاء تخص ليلة القدر، ونقسمها إلى قسمين:
القسم الأول: أخطاء في التصور والاعتقاد؛ ومن ذلك:
• اعتقاد كثير من الناس أن لليلة القدر علامات تحصل وتقع لبعض العباد فيها وينسجون حول ذلك خرافات وخزعبلات، فيزعمون أنهم يرون نورا من السماء، أو تفتح لهم فجوة من السماء !! ... إلخ.
ورحم الله الحافظ ابن حجر، فإنه ذكر في (( الفتح )) (4 / 266 ) أن الحكمة في إخفاء ليلة القدر حصول الاجتهاد في التماسها، بخلاف ما لو عُيِّنت لها ليلة لاقتصر عليها.
ثم نقل عن الطبري أنه اختار أن جميع العلامات غير لازمة فيها، وأنها لا يشترط لحصولها رؤية شيء أو سماعه، وقال: في إخفاء ليلة القدر دليل على كذب من زعم أنه يظهر في تلك الليلة للعيون ما لا يظهر في سائر السنة، إذ لو كان ذلك حقا لم يَخْفَ على كل من قام ليالي السنة فضلا عن ليالي رمضان.
• قولهم بأنها رفعت أصلا. وقد حكاه المتولي من الشافعية في كتابه (( التتمة )) عن الرافضة، وحكاه الفاكهاني في (( شرح العمدة)) عن الحنفية !!
وهذا تصور فاسد، وخطأ شنيع مبني على فهم مغلوط لقول النبي – لمّا تلاحى رجلان في ليلة القدر – : "إنها رُفعت" !! والرد على هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: قال العلماء: المقصود بـ "رُفعت" أي: من قلبي، فنسيتُ تعيينها للاشتغال بالمتخاصمين، وقيل: المعنى رُفعت بركتها في تلك السنة، وليس المراد بأنها رُفعت أصلا، ويدل على ذلك ما أخرجه عبدالرزاق في (( مصنًّفه )) (4 / 252 ) عن عبدالله بن يَحْنُس قال: قلت لأبي هريرة: زعموا أن ليلة القدر رُفعت !! قال: كذب من قال ذلك.
الثاني: عموم الأحاديث التي فيها الحث على قيامها، وبيان فضلها، كمثل ما أخرجه البخاري وغيره من قوله : "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".
قال النووي: واعلم أن ليلة القدر موجودة، فإنها تُرى، ويتحققها من شاء الله تعالى من بني آدم كل سنة في رمضان، كما تظاهرت عليه هذه الأحاديث وإخبار الصالحين بها، ورؤيتهم لها أكثر من أن تحصر.
قلت: نعم؛ إمكانية معرفة ليلة القدر واردة، فقد تتضافر العلامات التي أخبر بها ص على إنها ليلة ما من ليالي رمضان، ولعل هذا هو المراد من قول عائشة – فيما أخرجه الترمذي وصححه – قلت: يا رسول الله أرأيت إن علمتُ أي ليلة القدر ما أقول فيها؟ ففي هذا الحديث – كما يقول الشوكاني في (( نيل الأوطار )) (4 / 303 ) – : "دليل على إمكان معرفة ليلة القدر وبقائها".
وقال الزُّرقاني في (( شرحه على الموطأ )) ( 2 / 491 ): "ومن زعم أن المعنى – أي: الوارد في الحديث المذكور – رُفعت أصلا – أي: وجودها – فقد غلط، فلو كان كذلك لم يأمرهم بالتماسها، ويؤيد ذلك تتمة الحديث: " ... وعسى أن يكون خيرا لكم"؛ لأن إخفاءها يستدعي قيام كل الشهر، بخلاف ما لو بقي معرفتها بعينها".
فليلة القدر باقية إلى يوم القيامة، وإن كان تحديدها خفيا على وجه يقطع اللبس والغموض، وإن كان الراجح أنها في العشر الأواخر منه، والأدلة ترجِّح أنها ليلة السابع والعشرين، ولكن القطع بذلك على وجه اليقين صعب وعسير، والله أعلم.
القسم الثاني: أخطاء في العمل والسلوك: وما يقع فيه الناس في ذلك ليلةَ القدر كثير جدا، ولا يكاد يسلم منها إلا من عصم الله، من ذلك:
• البحث والفتش عن تعيينها، والانشغال – برصد أماراتها – عن العبادة والطاعة فيها.
فكم نرى بين المصلين من ينشغل بهذا عن تلاوة القرآن والذكر والعلم، فتجد الصالح منهم – قبيل طلوع الشمس – يرقب قرص الشمس ليعلم هل لها شعاع أم لا ؟
وعلى هؤلاء أن يتمعنوا فيما ورد من قوله ص :" ... فعسى أن يكون خيرا لكم"
ففيه إشارة إلى عدم تعيينها، قال أهل العلم – مستنبطين من هذا القول النبوي أن إخفائها أفضل – قالوا: والحكمة في ذلك: أن يجتهد العبد ويكثر من العمل في سائر الليالي رجاء موافقتها، بخلاف ما لو عُيِّنت له لاقتصر على كثرة العمل في ليلة واحدة ففاته العبادة في غيرها، أو قلَّ فيها عمله، بل استنتج بعضهم منه أن الأفضل لمن عرفها أن يكتمها بدليل أن الله قدَّر لنبيه أنه لم يخبر بها، والخير كله فيما قُدِّر له، فيستحب اتِّباعه في ذلك.
• ومما سبق يُعلم خطأ كثير من الناس في إقبالهم على القيام خاصة، – والعبادة عامة – في ليلة السابع والعشرين؛ جازمين – أو شبهَ جازمين – أنها ليلة القدر ( ! ) ثم هجرهم القيام والاجتهاد في الطاعة سائر الليالي؛ ظنا منهم بأن لهم أجر عبادة ما يزيد على ألف شهر في إحياء هذه الليلة حسبُ !!
وهذا الخطأ يجعل كثيرا من الناس يغالون في الطاعة في هذه الليلة، فتراهم لا ينامون – بل لا يفتُرُون – عن الصلاة، مع ( مجاهدة ) النفس بعدم النوم، وربما صلى بعضهم – وأطال القيام – وهو يدافع بجهد بالغ النعاس، وقد رأينا بعض من ينام منهم في السجود !!
وفي هذا مخالفة لهدي النبي في أمره بعدم عمل ذلك من جهة، وأنه من الآصار والأغلال التي رفعت عنا – بفضل الله ومنِّه – من جهة أخرى.
• ومن أخطائهم في هذه الليلة انشغالهم بترتيب الاحتفالات، وإلقاء الكلمات والمحاضرات ( ! )، – وبعضهم ينشغل بالنشيد والتغبير !! – عن الطاعات والقُربات.
وترى بعض المتحمسين يطوف بالمساجد لإلقاء آخر الأخبار !! وتحليلها على وجهٍ يُخرج هذه الليلة عن المقصود الشرعي الذي من أجلها شرعت و وجدت.
• ومن أخطائهم تخصيص بعض العبادات فيها، كصلاة خاصة لها.
وبعضهم يصلي فيها على وجه دائم جماعة – بغير حجة – صلاة التسابيح !!
وبعضهم يؤدي في هذه الليلة – بزعم البركة – صلاة حفظ القرآن ! ولا تَثبُت.
والمخالفات والأخطاء المتعلقة بليلة القدر – مما يقع فيه الكثير من الناس – متنوعة متكاثرة، لو استقصيناها وتتبعناها لطال بنا القول، وما أوردناه ها هنا نزر يسير، يفيد طلاب العلم، والراغبين بالحق، والباحثين عن الصواب.
_________________
بقلم فضيلة الشيخ "أبو عبيدة" مشهور بن حسن آل سلمان
حفظه الله تعالى ورعاه