لماذا يصعب علينا تغيير ما بأنفسنا ؟!
الكاتب: محمد عبد اللطيف
ما منا من أحدٍ إلا وهو يعاتب نفسه على التقصير ، ويرجو الاستزادة من الخير ، ويكرّر المحاولة تلو الأخرى أملاً في بلوغ منزلةٍ تسمو إليها نفسه ، وقد يطأ أحياناً أرضه الجديدة ،
ولكنه سرعان ما يعود إلى سابق أحواله وسالف أوطانه ..
ولذا نتساءل : لماذا يصعب علينا تغيير ما بأنفسنا ؟! .. ولماذا تزداد الصعوبة في الاستمرار على الجديد ؟!
لماذا يصعب علينا تغيير ما بأنفسنا ؟!
بدايةً : هناك ارتباطٌ وثيقٌ بين حال القلب وبين سلوكيات الجوارح ،
ويوضّح هذا حديث : " ألا وإنّ في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " ، فالجوارح إنما تعمل بحسب ما في القلب ..
فإن امتلأ بالإيمان :
فاضت آثار خيره على اللسان والعين والأيدي والأقدام ، فنطق اللسان بالذكر ، وتطلّعت الأبصار إلى الآيات ،
وسعت الأيدي في الخيرات ، وتحرّك العبد نحو كلّ فضيلة ..
وإن نقص الإيمان في القلب ؟!
حينما لا يكون في الآنية شيء قد توصَف بأنها فارغةٌ ، بينما القلوب ـ كسائر الآنية ـ لا تفرغ أبداً ، فإما أن تكون ملأى بشيء ،
أو يملؤها " الهواء " ، وإناء القلب قريبٌ من ذلك ، فإما أن يملأه العبد بالإيمان والتقوى ، وإلا امتلأ القلب بـ " الهوى " ..
من أين نؤتى رغم هذا الوضوح ؟
ما أيسر المعرفة ، وما أشقّ معاناة الخطى .. أكثر الخلق يعلمون ، ولكنّ أقلّ القليل مَن يُوفّقون ..
هل تعلم أنّ في إناء القلب حالةً من التسريب المستمرّ ؟!
لما شكى الصحابة للنبيّ صلى الله عليه وسلم ما يجدونه من التغيّر بعد مفارقة مجلسه قال :
" وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْكم لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ " ،
فالإنسان مجبولٌ بفطرته على النسيان ، فلو تعرّض لمؤثّر قويّ استجاب واتعظ ، فإذا غاب المؤثّر انتشرت سحائب الغفلة ..
فإذا أراد المؤمن أن يبقى على مستواه فلابدّ أن يزيد من الإيمان ومقتضياته بقدر ما ينقص منه بالتسريب الفطريّ ، وعلى هذا الأساس يبقى المؤمن مجتهداً طوال حياته ،
فإن لم يجتهد سعياً وراء الزيادة اجتهد طلباً لتأمين حاله .. ولعلّ هذه هي مشكلة أكثر الخلق ، الذين يحبّون الراحة ويميلون للدّعة ،
فلا يملّون الاجتهاد والسعي إذا كان لفترةٍ أو لمرحلةٍ محدّدة ، فإذا طالت المدّة ملّت النفوس وتعثّرت الأقدام ..
البداية دائماً من القلب
طالما كان للقلب هذه الأولوية والهيمنة فلا يمكن للعاقل أن يبدأ بغيره ، وهذا الأمر البدهيّ الواضح نظرياً لا يتيسّر عملياً لكلّ أحد ،
إذ يحتاج إلى حزمة من المؤثرات والشروط التي يصعب توافرها في أكثر وقت ، ولذلك لا يتجاوز عثرته إلا فئة قليلة من الربانيين ..
وأهمّ أسباب التعثّر تعود إلى مألوفات الشخص وعاداته .. فالسالك يحتاج إلى قلبٍ جديد يخوض به المستقبل ،
ولكنّ عاداته وسلوكياته وارتباطاته وعلاقاته تكبّله ، وتحول بينه وبين ما يرجو ، وكلما أراد أن يسلك باباً جديداً بقلب جديد غلب عليه إلفه وقديمه ، فكرّر ما يعهده ، فلم يجد لعمله أثراً ..
لذا تكلّم أرباب القلوب عن " حجاب الغفلة " ، باعتباره أعظم ما يحول بين القلب وبين التفكّر والاعتبار المؤدّي للتغيير ،
فالإنسان أسير عوائده ومألوفاته ، فإن سعى إلى التغيير غلبته العوائد وحرمته الفكرة والعبرة اللازمة ..
روشتة علاج متكاملة : فـرار ـ حصـار ـ محاسبـة ( ف ـ ر ـ ح )
فرار ( ف ): من أسر العادات والمألوفات ، بإعادة النظر في البرنامج اليوميّ ، واتخاذ القرارات اللازمة لتعديله بما يتناسب مع الأهداف الجديدة ،
وما أجمل الهدي الوارد في هذا الصّدد " أخرج من القرية الخبيثة التي أنت فيها إلى قرية كذا و كذا ،
فإن بها أناسا يعبدون الله ،
فاعبد ربك معهم فيها ، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء " .. وبذلك يُقلّص العبد معدلات التسريب إلى أقلّ مستوياتها ..
حصار ( ر ): كوّن حول نفسك عدداً من دوائر الإيمان التي يصعب عليك إغفالها : أهل مسجدك / صحبة إيمانية / رفقاء في أعمال خيرٍ محددة / ... إلخ ، وبادر بطرح جديد الخير لتلزِم نفسك بالإحسان ،
وتحفظ إيمانك برفقة الخير .. وبذلك يرفع المؤمن معدّل التعويض ليزيد على معدّل التسريب ..
محاسبة ( ح ): أوجب واجبات الربانيين ، والتي تحول بينهم وبين الوقوع في براثن الغفلة ، فاجتهد أن يتطابق عملك مع كلماتك ،
وحاسب نفسك على السكوت والكلام ، وعلى الإقدام والإحجام ، وعلى المنع والإكرام ،
وسلْ نفسك : ماذا أردتَ بما فعلتَ أو تركتَ ؟! ، وما أثر ما تعلّمته اليوم من الخير ؟! ، وهل زاد في عملك وخلقك أم كان حجةً عليك ؟! ..
وهذا الواجب هو صمام الأمان الذي يُبصّر العبد بموقفه الإيمانيّ ، ويُرشده إلى المبادرة في تقويم الخلل واستدراك الزلل .
يا سلعة الرحمن
أيها الراغبون في الجنة ونعيمها : " مَنْ خَافَ أَدْلَجَ ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ ، أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ ، أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ " ،
ولهذا سارع الصادقون وشمّر المجتهدون ، وهان عليهم بالوعد ما بذلوا لنيلها ، ** إِنّا كُنّا قَبْلُ فِيَ أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ** ، فلمّا عاينوها نسوا النّصَب والتعب ،
وذهب عنهم الخوف والإشفاق ، وقالوا : ** الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ** ..
يا سلعة الرحمن لستِ رخيصــــةً *** بل أنت غاليةٌ على الكسلانِ
يا سلعة الرحمن ليس ينــــــــالها *** في الألــــف إلا واحدٌ لا اثنانِ
يا سلعة الرحمن ماذا كفــــــــؤها *** إلا أولو التقــــــوى مع الإيمانِ
يا سلعة الرحمن أين المشتــــري *** فلقد عُرِضتِ بأيســــر الأثمانِ
يا سلعة الرحمن هل من خاطب *** فالمهـــر قبل الموت ذو إمكانِ
يا سلعة الرحمن كيف تصبَّــــــــر الـ***ـخطــابُ عنك وهم ذوو إيمانِ
يا سلعة الرحمن لولا أنهـــــــــــــا*** حُجِبت بكل مكاره الإنســـــانِ
ما كان عنها قطٌّ من متخلـــــــــفٍ*** وتعطّلت دار الجــــــــزاء الثاني
لكنها حُجِبَتْ بكل كريهـــــــــــــــة*** ليُصَــــدَّ عنها المبطل المتواني
وتنالها الهممُ التي تسمـــــو إلى*** ربِّ العلى بمشيئة الرحمـــــنِ