بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يا فتى! احذرِ التَّصَدُّرَ قبلَ التَّأَهُلِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لقد بُلينا في هذا الزمن بفئة قليلة من حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يجالسون العلماء يوما أو يومين في سَفْرَة أو سَفْرَتَين، ويقرؤون كتابا أو كتابين، ويحفظون مسألة أو مسألتين، ثم بعد يوم أو يومين من أعمارهم يصبحون مجتهدين، ويَرَوْنَ لأنفسهم مكانا عاليا لا يصل إليه أحد، فيخوضون في المسائل الكبرى، والقضايا الخطيرة، ومصالح الأمة العظمى، التي لا يتكلم فيها إلا العلماء الربانيون الراسخون في العلم، مثل: تكفير الأعيان وتبديعهم، والخوض في البيعة والخروج على ولاة الأمور، والفتيا في الدماء، وهذه من مسائل النوازل التي يجب على العامة أن يتلقوا أحكامها من أهل العلم الكبار، حتى يعرفوا بذلك حكم الله عز وجل، وحتى لا يقولوا في دين الله ما لا يعلمون.
قال تعالى محذرا من الخوض في دين الله بلا علم "ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم". حتى أن الله ردَّ أمور الناس عند الإشكال إلى العلماء فقال تعالى: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون"، وقال تعالى: "وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم".
وللأسف الشديد أن هذه الفئة لجرأتهم وعدم وَرَعِهم، وعدم حيائهم من الله، وعدم خوفهم منه يَقَعُون فيما يقع فيه العامة من الجرأة على الشريعة في التحليل والتحريم، فيتكلمون فيما لا يعلمون، ويُنَصِّبون من أنفسهم قضاةً على علماء المسلمين بِلَمْزِهم، وبإشاعة ما يسيء إليهم، ويَشْحَنُ قلوب الناس والشباب والعوامّ عليهم، ويُجَرِّئُهم على الطعن فيهم، والتشهير بهم باسم مصلحة الدعوة، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي المقابل يسكتون عن أخطاء أهل الأهواء والبدع، وأهل الفسوق والفجور والزندقة ويُغفلوتها. وهم من أجهل الناس في أحكام الله، فيستدلون بالنصوص على غير ما تدل عليه، وعلى غير قواعد شرعية، وجهلهم بفهم السلف للأدلة، وعدم مراعاة قواعد الاستدلال من حيث: العموم والخصوص، أو الإطلاق والتقييد، والنسخ ونحو ذلك، وعدم اعتبار قواعد المصالح والمفاسد، وقلة الفقه في الدين، والتقصير في طلب العلم الشرعي على أيدي العلماء الربانيين، فيتسرعون في إصدار الأحكام من التكفير والتبديع والتفسيق بمجرد الشائعات والظنون، والحكم على الآخرين قبل التثبت والرجوع إلى أهل العلم الذين يعنيهم الأمر شرعا. وهؤلاء حذَّر منهم النبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: "سيخرج في أخر الزمان قوم أحداث الأسنان ، سفهاء الأحلام ، يقولون من خير قول البرية . يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم . يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية . فإذا لقيتموه فاقتلوهم . فإن في قتلهم أجرا ، لمن قتلهم ، عند الله يوم القيامة " . وفي رواية : بهذا الإسناد . وليس فيه " يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" أخرجه البخاري. (1)
قال ابن حجر –رحمه الله-: "أحداث الأسنان" المراد أنهم شباب، "سفهاء الأحلام" والمعنى أن عقولهم رديئة.
قال النووي –رحمه الله-: يستفاد منه أن التثبت وقوة البصيرة تكون عند كمال السن وكثرة التجارب وقوة العقل. فتح الباري 12/287.
وذكر أبو عمر عن مالك: أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك؟ أمصيبة دخلت عليك؟ وارتاع لبكائه، فقال: لا، ولكن استُفتِيَ مَن لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم، قال ربيعة: ولَبعضُ من يفتي ههنا أحق بالحبس من السُّرَّاق. (2)
قال شيخنا ابن عثيمين –رحمه الله:
"وإن من أكبر الجنايات أن يقول الشخص عن شيء: إنه حلال، وهو لا يدري ما حكم الله فيه، أو يقول عن شيء: إنه حرام، وهو لا يدري عن حكم الله فيه، أو يقول عن الشيء: إنه واجب، وهو لا يدري أن الله أوجبه، ويقول عن الشيء: إنه غير واجب، وهو لا يدري أن الله لم يوجبه، إن هذه جناية وسوء أدب مع الله عز وجل" العلم 49-50.
فهؤلاء الناشئة تصدروا للفتوى من قبل أن يتأهلوا، والناظر إلى حال السلف يرى عجبا من صبرهم على مرارة التحصيل، شعارهم: "العلم من المهد إلى اللحد"، "العلم من المحبرة إلى المقبرة".
قال الإمام ابن المديني: قيل للشعبي: من أين لك هذا العلم كله؟ قال: "بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الحمار، وبكور كبكور الغراب" تذكرة الحفاظ 1/81.
وقال الإمام الشافعي –رحمه الله-:
"لا يبلغ في هذا الشأن رجل حتى يضر به الفقر، ويُؤْثِرَه على كل شيء" سير أعلام النبلاء 10/89.
وهؤلاء أضاعوا علمهم عندما اعتزلوا مجالس العلم، واختلطوا بغير الصالحين، وداهنوهم وأضاعوا معهم الوقت والجهد في القيل والقال، وأصابهم ما أصاب غيرهم من الغرور والعُجب بالنفس مما جعلهم يتكبرون على إخوانهم من طلبة العلم الثقات، فظهرت منهم بعض الأهواء والآراء الشاذة والمواقف الغريبة، وظهرت منهم بعض التصرفات تجاه العلماء وطلبة العلم، ويظنون أنهم يعلمون شيئا كثيرا عن الدين، وهم قد لا يفقهون منه شيئا إلا الآراء الشاذة المخالفة لمنهج السلف، والتعالم والغرور، وقلة الأدب مع أنفسهم وأهليهم وإخوانهم، وإن شئت فقل: هؤلاء تزبزبوا قبل أن يتحصرموا".
ولقد أصاب المأمون عندما قال – متهكما بمثل هؤلاء-: يَطلب أحدهم الحديث ثلاثة أيام، ثم يقول: أنا من أهل الحديث" سير أعلام النبلاء 10/276.
وقال الزهري ليونس بن يزيد:
" لا تكابر العلم، فإن العلم أودية، فأيها أخذت فيه قطع بك قبل أن تبلغه، ولكن خذه مع الأيام والليالي، ولا تأخذ العلم جملة، فإن من رام أخذه جملة، ذهب عنه جملة، ولكن الشيء بعد الشيء مع الأيام والليالي" جامع بيان العلم وفضله 1/431.
قال شيخنا ابن عثيمين –رحمه الله:
"الأمر الرابع: أن الإنسان إذا تصدر فإنه في الغالب لا يقبل الحق، لأنه يظن بسفهه أنه إذا خضع لغيره ولو كان معه الحق كان دليلا على أنه ليس بعالم" العلم 54.
فيا فتى! الحذرَ الحذر من طلب العلم للأغراض الفاسدة والمقاصد السيئة، من المباهاة والمماراة والرياء والسمعة، وعليك بمجالسة الأخيار والصالحين، والعلماء الموثوق بعلمهم وأمانتهم، وأن تصاحب من عُرف بحسن الأخلاق.
واعلم أن أحق الناس بحسن الخلق هم طلاب العلم، ومن حسن الخلق التواضع للعلم وأهله، والصبر عليه، وعدم الاغترار بالنفس، والبعد عن مساوئ الأخلاق وسفاسف الأعمال، فَسَيِّئُ الخلق ممقوت، وسيئ الخلق مهجور، وسيئ الخلق مذكور بالوصف القبيح، وأكثرْ من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" أخرجه الترمذي والحاكم، وصححه شيخنا الألباني "صحيح الجامع7987. (3)
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
(1) الراوي: علي بن أبي طالب المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 1066 خلاصة حكم المحدث: صحيح
(2) إعلام الموقعين 4/207.
(3) الراوي: أنس بن مالك المحدث: الترمذي - المصدر: سنن الترمذي - الصفحة أو الرقم: 2140 خلاصة حكم المحدث: حسن