بسم الله الرحمن الرحيم
روى ابن داوود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: " إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب أوقال العشب".وفي رواية أخرى" إياكم أن ترجعوا بعدي كفارا." وفي حديث الإمام أبو داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم:"لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديار رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم" ثم أشار أنس رضي الله عنه إلى ديار قوم باد أهلها انقرضوا وفنوا فهي خاوية على عروشها وقال هذه ديار قوم أهلكهم البغي والحسد إن الحسد ليطفئ نور الحسنات والبغي يصدق ذلك أو يكذبه، والعين تزني والكف والقدم والجسد واللسان والفرج يصدق هذا أويكذب. (انتهى).
العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يُورثوا درهماً ولا ديناراً، بل ورثوا العلم، كما أن الأنبياء هم أشد الناس بلاء بنص الحديث " أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالمثل".
فمرتبة العلماء ليست تشريفاً بقدر ما هي تكليف، وبالتالي فالعاقل لا ينبغي أن يتهافت على مثل هذه الألقاب ابتغاء مدح الناس أو حب الظهور أو ربما الطمع في بعض المناصب الدنيوية الزائلة.
فأول من تًصعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة، ومنهم العالم الذي تعلم ليقول عنه الناس عالم.
من هنا ينبغي على أهل العلم من علماء وطلبة العلم أن يضعوا نصب أعينهم بأنهم سيحاسبون على كل كلمة تعلموها ولم يبلغوها للناس، والتبليغ ينبغي أن يكون لوجه الله تعالى، وهذا يتطلب تصفية للنفس من كل رياء ومصلحة اخرى غير إرضاء الله تعالى وابتغاء وجهه.
فمن منا يقدر على هذا ؟ ومن منا يستطيع أن يلجم نفسه فلا تتحرك إلا لله، ولا تبتغي سوى رضا الله عز وجل ؟
فإذا علم العلماء وطلبة العلم أنهم يتقدمون صفوف الأمة في الدفاع عن الاسلام وإحياء السنة، وأن هذه المهمات تقتضي تضحيات، فإن القليل القليل من سيتصدر المجالس ، والقليل القليل من سيصعد على المنابر، والقليل القليل من سيحمل الراية خوفاً من بطش الأعداء.
وكل من يَصْدُق في هذا ويتحمل مشاق المسير، فإنه يستحق أن يكون من العلماء، ولن يحسده بعد ذلك أحد ، ومن يا ترى يحسد أحداً على الابتلاء ؟ ومن يا ترى يتسابق إلى التضحية والفداء؟
فالحسد سببه الأساسي ودافعه الأول هو الشيطان، لأنه أول من حسد في هذه الدنيا، حيث حسد آدم عليه السلام حينما أمره رب العزة بالسجود لآدم فأبى. ومنه انبثق كل أنواع الحسد إلى يوم القيامة.
قال قتادة : إن هذا السجود كان كرامة كرم الله بها آدم ، ولكن إبليس حسد آدم على هذا التكريم فحمله هذا الحسد على الاستكبار والفسوق عن أمر به ، قال الإمام الرازي : إن إبليس وقع فيما وقع فيه بسبب الحسد والكبر ، فكان بدء الذنوب : الكبر ، استكبر إبليس أن يمتثل لأمر ربه بالسجود لآدم، ولهذا جاء التحذير من الكبر ، والوعيد للمتكبرين.
وإذا كان ما أوقع إبليس في معصية الله تبارك وتعالى هو الحسد والكبر ، فإن على المسلم أن يحترز منهما، وأن يفحص قلبه دائماً خوفاً من أن يلقي الشيطان فيه شيئاً من جراثيم الحسد ، فيحمله ذلك على بطر الحق وغمط الناس حقوقهم.
فالشيطان هو الذي يحرش العلماء مثلاً فيحسدون أقرانهم من العلماء الربانيين الصادعين بالحق أو الذين لديهم القبول عند الناس، فيدفعهم هذا الحسد إلى غمط الناس وبطر الحق ، وغمط الناس أو غمصهم : احتقارهم والازدراء بهم. ومن أعظم مظاهر بطر الحق رفض أوامر الله ، والتمرد عليها ، لأن ما يأمر به الله هو الحق، فالتمرد على هذا الحق ودفعه يمثل حقيقة الكبر.
وبهذا يتحولون إلى علماء السلاطين، يرضون هؤلاء على حساب رضا الله عز وجل، ويقفون في وجه العلماء الربانيين الصادقين، الذين يصدعون بالحق ولا يخافون في الله لومة لائم، فتراهم يدافعون عن الباطل وينصرون الظالم ويلوون أعناق النصوص لتوافق أهواء السلاطين والظالمين وأصحاب البدع.
كل هذا مقابل دنيا زائلة أو مناصب تافهة، وبهذا يكونون قد حققوا هدفين في آن واحد، الانتقام من هؤلاء العلماء الصادقين وفي الوقت ذاته الفوز بعرض من الدنيا قليل.
قال العلامة / محمد بن احمد بن عبد الهادي الحنبلي تلميذ شيخ الاسلام ابن تيميةعليهما رحمة الله في كتابه مختصر طبقات علماء الحديث، وهو يتحدث عن محنة شيخ الإسلام مع الحسد،حيث أنه عانى الكثير من حساده، من الفرق الصوفية خاصة والمبتدعة بصفة عامة، فقامت بسبب ذلك حرب ومعارك متعددة بين أهل السنة بقيادة شيخ الاسلام ، وبين المبتدعة وعلى رأسهم الصوفية والقدرية وغيرهما.
يقول: (إلى أن دب إليه من اهل بلاده داء الحسد , وأكب أهل النظر منهم على ما يُنقد عليه من امور المعتقد , فحفظوا عنه في ذلك كلاماً اوسعوا بسببه ملا ماً , وفوقوا لتبديعه سهاماً وزعموا أنه خالف طريقهم , وفرق فريقهم , ونازعهم ونازعوه , وقاطع بعضهم وقاطعوه .
ثم نازع طائفة اخرى ينتسبون من الفقر الى طريقه, ويزعمون انهم ادق باطن منها واجلى حقيقة , فكشف تلك الطرائق وذكر لها بوائق , فاضت الى الطائفة الاولى من منا زعيه واستعانت بذوي الضعن عليه من مقاطعيه , فوصلوا بالأمراء امره , واعمل منهم في كُفره فِكرَه , فرتبوا محاضر , والبوا الرويبضة للسعي بها بين الاكابر , وسعوا في نقله الى حضرة المملكة بالديار المصرية , فنقل واودع السجن ساعة حضوره واعتقل , وعقدوا لاراقة دمه مجالس, وحشدوا لذلك قوماً من عُمار الزوايا وسكان المدارس , من مُجَامل في المنازعة مخاتِلٍ في المخادعة ومن مجاهر بالتكفير مبارز بالمقاطعة , يسمونه ريب المنون ** وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون**.(انتهى)
يتبع بحول الله.