من كيد الشيطان العجيب أنه يُشام النفس حتى يعلم أي القوتين تغلب عليها :
قوة الإقدام و الشجاعة ، أم قوة الانكفاف والإحجام و المهانة.
فإن رأى الغالب على النفس المهانة و الإحجام ؛ أخذ في تثبيطه و إضعاف همته و إرادته عن المأمور به ، و ثقله عليه ، فهّون عليه تركه حتى يتركه جملة ، أو يقصر فيه و يتهاون به .
و إن رأى الغالب عليه قوة الإقدام و علو الهمة ؛ أخذ يقلل عنده المأمور به ، و يوهمه أنه لا يكفيه وأنه يحتاج معه إلى مبالغة و زيادة . فيقصر بالأول ويتجاوز الثاني، كما قال بعض السلف : ما أمر الله تعالى بأمر إلا و للشيطان فيه نزغتان : إما إلى تفريط و تقصير، و إما إلى مجاوزة و غلو ، و لا يبالي بأيهما ظفر .
و قد اقتطع أكثر الناس إلا أقل القليل في هذين الواديين :
وادي التقصير و وادي المجاوزة و التعدي ، و القليل منهم جداً الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه .
فقوم قصر بهم عن الإتيان بواجبات الطهارة ، و قوم تجاوز بهم إلى مجاوزة الحد بالوسواس .
و قوم قصر بهم عن إخراج الواجب من المال ، و قوم تجاوز بهم حتى أخرجوا جميع ما في أيديهم و قعدوا كَلاًّ على الناس مستشرفين إلى ما بأيديهم .
و قوم قصر بهم عن تناول ما يحتاجون إليه من الطعام و الشراب و اللباس حتى أضروا بأبدانهم و قلوبهم، و قوم تجاوز بهم حتى أخذوا فوق الحاجة فأضروا بقلوبهم و أبدانهم .
و كذلك قصر بقوم في حق الأنبياء و ورثتهم حتى قتلوهم ، و تجاوز بآخرين حتى عبدوهم .
و قصر بقوم في خلطة الناس حتى اعتزلوهم في الطاعات كالجمعة و الجماعات و الجهاد و تعلم العلم ، و تجاوز بقوم حتى خالطوهم في الظلم و المعاصي و الآثام.
و قصر بقوم حتى امتنعوا من ذبح عصفور أو شاة ليأكله ، و تجاوز بآخرين حتى جرأهم على الدماء المعصومة .
و كذلك قصر بقوم حتى منعهم من الاشتغال بالعلم الذي ينفعهم ، و تجاوز بآخرين حتى جعلوا العلم وحده هو غايتهم دون العمل به .
و قصر بقوم حتى أطعمهم من العشب و نبات البرية دون غذاء بني آدم ، و تجاوز بآخرين حتى أطعمهم الحرام الخالص .
و قصر بقوم حتى زين لهم ترك سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم من النكاح فرغبوا عنه بالكلية ، و تجاوز بآخرين حتى ارتكبوا ما وصلوا إليه من الحرام .
و قصر بقوم حتى جفوا الشيوخ من أهل الدين و الصلاح و أعرضوا عنهم و لم يقوموا بحقهم ، و تجاوز بآخرين حتى عبدوهم مع الله تعالى .
و كذلك قصر بقوم حتى منعهم قبول أقوال أهل العلم و الالتفات إليها بالكلية ، و تجاوز بآخرين حتى جعلوا الحلال ما حللوه و الحرام ما حرموه ، و قدموا أقوالهم على سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم الصحيحة الصريحة .
و قصر بقوم حتى قالوا : إن الله سبحانه لا يقدر على أفعال عباده و لا شاءها منهم و لكنهم يعملونها بدون مشيئة الله تعالى و قدرته ، و تجاوز بآخرين حتى قالوا : إنهم لا يفعلون شيئا البتة و إنما الله سبحانه هو فاعل تلك الأفعال حقيقة فهي نفس فعله لا أفعالهم و العبيد ليس لهم قدرة و لا فعل ألبتة .
و قصر بقوم حتى قالوا : إن رب العالمين ليس داخلا في خلقه و لا بائنا عنهم و لا هو فوقهم و لا تحتهم و لا خلفهم و لا أمامهم و لا عن أيمانهم و لا عن شمائلهم ، و تجاوز بآخرين حتى قالوا : هو في كل مكان بذاته كالهواء الذي هو داخل في كل مكان .
و قصر بقوم حتى قالوا : إن الله سبحانه لا يُشّفِع أحداً في أحد البتة ، و لا يرحم أحداً بشفاعة أحد ، و تجاوز بآخرين حتى زعموا أن المخلوق يشفع عنده بغير إذنه كما يشفع ذو الجاه عند الملوك و نحوهم .
و قصر بقوم حتى قالوا : إيمان أفسق الناس و أظلمهم كإيمان جبريل و ميكائيل فضلا عن أبي بكر و عمر ، و تجاوز بآخرين
حتى أخرجوا من الإسلام بالكبيرة الواحدة .
و قصر بقوم حتى نفوا حقائق أسماء الرب تعالى و صفاته و عطلوه منها ، و تجاوز بآخرين حتى شبهوه بخلقة و مثلوه بهم .
و قصر بقوم حتى عادوا أهل بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم و قاتلوهم و استحلوا حرمتهم ، و تجاوز بقوم حتى ادعوا فيهم خصائص النبوة : من العصمة و غيرها و ربما ادعوا فيهم الإلهية .
و كذلك قصر باليهود في المسيح حتى كذبوه و رموه و أمه بما برأهما الله تعالى منه ، و تجاوز بالنصارى حتى جعلوه ابن الله و جعلوه إلها يعبد مع الله .
و قصر بقوم حتى تعبدوا بالنجاسات و هم النصاري و أشباههم ، و تجاوز بقوم حتى أفضى بهم الوسواس إلى الآصار و الأغلال و هم أشباه اليهود .
و قصر بقوم حتى تزينوا للناس و أظهروا لهم من الأعمال و العبادات ما يحمدونهم عليه ، و تجاوز بقوم حتى أظهروا لهم من القبائح و من الأعمال السيئة ما يسقطون به جاههم عندهم و سموا أنفسهم الملامتية .
و قصر بقوم حتى أهملوا أعمال القلوب و لم يلتفتوا إليها و عدوها فضلا أو فضولا ، و تجاوز بآخرين حتى قصروا نظرهم و عملهم عليها و لم يلتفتوا إلى كثير من أعمال الجوارح و قالوا : العارف لا يسقط وارده لورده .
و هذا باب واسع جداً لو تتبعناه لبلغ مبلغا كثيرا و إنما أشرنا إليه أدنى إشارة .
منقول ( للإمام ابن قيّم الجوزية رحمه الله تعالى )