بفخر تتباهى صديقتي هبة وهي تريني كنوز دفينة في الدولاب الخاص بها .....في لحظات شاعرية....
فهذا اول فستان خرجت به مع ابو حسام ...خلال سفرهما الى رحلة العسل
وهذه دمية معلقة من عشرات السنين بقيت شاهدا على طفولة هبة ،
وهناك في اسفل الدرج رسالة مخبئة ومحفوظة بعناية فائقة من خطيب عاشق يبثّ اشواقه وحنينه الأكبر من الحياة والذي لا يملك عليه صبرا ، تحوّل بمرور الأيام الى زوج تتسكع اشواقه في مختلف الاتجاهات.
أفتح علبة ذهبية صغيرة لأرى مخلفات قطع آدمية ، تساءلت برعب عنها ، فأجابتني انها أسنان حسام اللبنية التي سقطت قبل عشرة اعوام ،
وهالني ايضا انها تحتفظ بجزء الحبل السري الذي يتواجد بطبيعة الحال عند ولادة اي مخلوق ، أقفلت العلبة فلم يكن لدي فضول في رؤية المزيد!
علبة اخرى جميلة طولية تساءلت عما يمكن ان تحمله ! وجدت شيئا يشبه الثعبان للوهلة الاولى فرميتها خوفا ، والتقطتها هبة بنظرات تأنيب وهي تحملها بحنان قائلة ان هذه ( ضفيرة شعرها ) احتفظت بها ، عندما قررت قصّ شعرها الطويل بعدما أتمّت اثني عشر سنة .
في كل سنة.... في كل مرحلة ، هناك اشياء مرتبطة كانت حية تسعى في يوم من الأيام ،
وصلنا مع تقويم السنين المرتب في الدولاب كدقّات الساعة ، الى صور التخرج ، تفاجأت ان لنا صورة مشتركة ..ياه ،
هذه أنا قبل ستة عشر عاما ، لم أر نفسي من قبل ، أقصد ان الحياة القديمة موجودة في ذاكرتي بأشكال أخرى وخيال آخر ، لا تضيف اليه الصور أي أفكار جديدة ، انها صور ميتة ،
تسليت وانا أنظر لنفسي جيدا وأتفحص ماذا كنت أرتدي ، وكيف كنت انظر للحياة ، وماذا كان يطوف في خيالي تلك الفترة ،
أيقظتني هبة من خيالي وهي تقول: كنا صديقات جدا ،
تنبهت أنها موجودة بجانبي ، أقصد في الصورة وبدأت أتأملها ،
لاحظت هي انني افكر مليا وانا انظر إليها ، قالت بنبرة ملل : انا تغيرت كثيرا .. تعرفين ... الانجاب والمسؤوليات ...ليس مثلك أنجبت مرة واحدة ولم تتغيري أبدا لا زلت كما انت، ابتسمت وانا اقول لها.... الله يعينك ،
معظم صديقاتي يتذرعن بالانجاب ويوجهن أصابع الاتهام الى هؤلاء الملائكة الصغار بالجمال الذي ولّى ،
لا بأس...... قلت لها وانا أبحث في عقلي عن دولاب أيامي ،
شعرت بالذنب والأسى لأن الدولاب مقام في ذاكرتي فقط
ولا اعرف أين يوجد على أرض الواقع ......
لا يوجد عندي دولاب ...أيامي مشردة وأحداثي مبعثرة على قصاصات ورق في أيام شتوية باردة ،..
احتاج الى عجلة الزمن لأتنقل خلال العصور القديمة وأبحث عن الدمى والاحجار والتقط صورا لمراحلي السابقة .....
تقول هبة ان كل ما تحتفظ به ستهديه لابنتها سارة وابنها حسام يوم زفاف كل منهما ....
تبين الآن إذن .....انه سينتظر عمرا آخر ..لتنتقل الذكريات الى دولاب سارة .... ودولاب حسام ،
....حياة الديناصورات !
لماذا كل هذا العناء؟ .. والأيام انتهت الى غير رجعة ، وما من لحظات تاريخية في عمرنا المديد ،
..ما أهمية أن احتفظ بصوري على سواحل ميامي ، واسفل برج بيزا وفي ممرات الشانزليزيه ..كشاهد عيان على انني رأيت الدنيا؟
...هل من داع لأحتفظ بصورتي امام مبنى الجامعة لأثبت انني حققت سبقا علميا وحصلت على شهادة عليا .. هذا مضحك ..ما اتفه ما يشعر الناس انه حدث مهم في حياتهم .....أستطيع أن أتوجه الى المبنى مثلا وألتقط صورة لي أمامه ..بل وأطلب من الحارس أن يضرب لي تحية سلام مقابل خمسة دنانير ،،، وسأقول أنني كنت شخصية مهمة هناك .
أصلا من سيكتب سيرتي الذاتية .. ومن سيعنى بتخليد أيامي ...
انجبت هبة حسام واحتفظت بكل مخلفات ولادته ، حتى ملابس البيبي والبيبرون ، لتهديه اياها يوم زفافه ..
لا اعرف لماذا تهديه اياها يوم زفافه بالذات ..
رغم انه قد يقدّر الهدية ويتفحصها في كل الأيام....... الاّ يوم زفافه ..
ابتسمت وشعرت بالذنب والخجل وانا افكر بذكريات صديقتي المخلصة باستهتار ولامبالاة ،
ما ذنب الناس ان لم يكن عندي دولاب ؟ ولا يوجد لدي الاّ أبناء دفاتر ، أيتام مشرّدين يتنقلون في حقائب سفري ،
ما ذنب هبة ..ان كانت حياتي المبعثرة من الصعب ترتيبها في دولاب الأيام بترتيب أيامها .....؟
اذا كانت الفوضى تعم عمري (المفترض ) .... ومحطات الرحيل واللقاء ....ونقاط البداية والنهاية ..... أكثر من عدد أيامي نفسها
ما ذنبها ان كنت لا أعتبر لشيء قيمة ولا أهمية ولا فرحة ولا بهجة ؟
وان كنت أسارع الى تنظيف أيامي من ذكرياتها أوّلا بأوّل حتى لا تعلق ذكريات الخيبة الكثيرة في دولابها
وان كنت لا أحتفظ بضفائري..بل أقصّها تدريجيا خلال السنين كذكريات أيامي ؟
فتحت هبة درجا أرضيا واسعا ، لتريني بعض العلب والصناديق المبعثرة القديمة ..
قالت بزهو ... هذا دولاب والدتي....
غرقت في الضحك وارتحت لهذا الخلاص الفريد ،...
فالمسألة وراثية إذن...
لم أرث دولابا...
ولن تأتي ابنتي يوم زفافها بعد عمر ، لتطالب بنصيبها في ميراث ذكريات أيامي......