بيان معنى الأنس بالله والرضى بقضاء الله عز وجل
اعلم: أن من غلب عليه حال الأنس لم تكن شهوته إلا فى الانفراد والخلوة، لآن الأنس بالله يلازمه التوحش من غيره، ويكون أثقل الأشياء على القلب كل ما يعوق عن الخلوة.
قال عبد الواحد بن زيد: قلت لراهب: لقد أعجبتك الخلوة، فقال: لو ذقت حلاوة الخلوة لا ستوحشت إليها من نفسك، قلت: متى يذوق العبد حلاوة الأنس بالله تعالى؟ قال: إذا صفا الود، خلصت المعاملة. قلت: متى يصفو الود؟ قال: إذا اجتمع الهم، فصار هماً واحداً في الطاعة.
فإن قيل: ما علامة الأنس؟ قيل: علامته الخاصة ضيق الصدر عن معاشرة الخلق، والتبرم بهم، وإن خالط، فهو كمنفرد غائب مخالط بالبدن، منفرد بالقلب.
واعلم: أن الأنس إذا دام وغلب واستحكم، قد يثمر نوعاً من الانبساط والإدلال، وقد يكون ذلك منكراً فى الصورة، لما فيه من الجراءة وقلة الهيبة، وإن كان محتملاً ممن أقيم مقام الأنس. وأما إذا صدر ممن لا يفهم ذلك المقام، أشرف به على صاحبه على الكفر، وذلك كما يروى عن أبى حفص أنه كان يمشى يوماً، فاستقبله رجل مدهوش ((أي: متحير، من دهش الرجل يدهش: إذا تحير)) فقال: مالك؟ قال: ضل حماري، ولا أملك غيره، فوقف أبو حفص وقال: وعزتك لا أخطو خطوة ما لم ترد عليه حماره، فظهر الحمار.
وروى عن برخ العابد أنه خرج يستقى فقال: يارب: أنت بالبخل لا ترمى، أنفذ ما عندك، اسقنا الساعة.
ولا يستبعد أن يحتمل من شخص ما لم يحتمل من غيره. وأما الرضى بقضاء الله تعالى، فهو من أعلى مقامات المقربين، وهو من ثمار المحبة، وحقيقته غامضة، ولا ينكشف الأمر فيه إلا لمن يفهمه عن الله تعالى.
ومن فضائل الرضى ما ورد فى الحديث أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: “إذا أراد الله بعبد خيراً أرضاه بما قسم له”.
وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: يا داود: إنك لن تلقاني بعمل هو أرضى لى عنك، ولا أحط لوزرك من الرضى بقضائي.
ونظر على بن أبى طالب رضى الله عنه إلى عدى بن حاتم كئيباً، فقال: ياعدى: مالي أراك كئيباً حزيناً؟ فقال: وما يمنعني فقد قتل ابناي، وفقئت عيني فقال: يا عدى! من رضى بقضاء الله جرى عليه وكان له أجر، ومن لم يرض بقضاء الله جرى عليه وحبط عمله.
ودخل أبو الدرداء رضى الله عنه على رجل وهو يموت وهو يحمد الله تعالى ، فقال أبو الدرداء : أصبت ،إن الله عز وجل إذا قضى قضاء أحب أن يرضى به.
وقال ابن مسعود رضى الله عنه : إن الله تعالى بقسطه وعمله جعل الروح والفرح فى اليقين والرضى، وجعل الهم والحزن فى الشك والسخط.
وقال أبو معاوية الأسود فى قوله تعالى: {فلنحيينه حياة طيبة** [النحل: 97] قال: الرضى والقناعة.
وفى الأخبار السالفة ((فى الأصول: وفى الحديث)) : أن نبياً من الأنبياء شكا إلى ربه عز وجل الجوع والفقر عشر سنين، فما أجيب إلى ما أراد، ثم أوحى الله إليه: كم تشكو؟ هكذا كان بدؤك عندي في أم الكتاب قبل أن أخلق السماوات والأرض، وهكذا سبق لك منى، وهكذا قضيت عليك قبل أن أخلق الدنيا، أفتريد أن أعيد خلق الدنيا من أجلك؟ أم تريد أن أبدل ما قدرت لك؟ فيكون ما تحب فوق ما أحب، ويكون ما تريد فوق ما أريد، وعزتي وجلالى، لئن تلجلج هذا فى صدرك مرة أخرى لأمحونك من ديوان النبوة.
وفي “زبور داود” عليه السلام: هل تدرى من أسرع الناس مراً على الصراط؟ الذين يرضون بحكمي وألسنتهم رطبة من ذكرى.
وقال داود عليه السلام: يارب! أي عبادك أبغض إليك؟ قال: عبد استخارتي في أمر، فخرجت له، فلم يرض.
وقال عمر بن العزيز: ما بقى لى سرور إلا فى مواقع القدر.
وقيل له: ما تشتهى؟ فقال: ما يقضى الله عز وجل.
وقال الحسن: من رضى بما قسم له، وسعه، وبارك الله فيه، ومن لم يرض لم يسعه، ولم يبارك له فيه.
وقال عبد الواحد بن زيد: الرضى باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين.
وقال بعضهم: لن يرد الآخرة أرفع درجات من الراضين عن الله تعالى على كل حال، فمن وهب له الرضى، فقد بلغ أفضل الدرجات.
وأصبح أعرابي وقد مات له أباعر كثيرة، فقال:
لا والذي أنا عبد فى عبادته لولا شماتة أعداء ذوى إحن
ما سرني أن إبلي في مباركها وأن شيئاً قضاه الله لم يكن
مختصر منهاج الصالحين