أظن أنه شيخ الإسلام ابن تيمية الذي قال يوماً لمناوئيه: ماذا تفعلون معي؟ إن سجني فراغ للعلم والعبادة، ونفيي سفر وسياحة، وقتلي قرب وشهادة. يمثل شيخ الإسلام وقوله هذا مثالاً عن ذروة عظيمة وحقيقية من الحرية حتى مع السجن والنفي والقتل، وهي حرية واقعية ليست ضرباً من الخيال أو المبالغة، فقد عاش رحمه الله حياة مليئة بالصراع من أجل إعلاء كلمة الله وإعادة الناس الى صفاء التوحيد، وقضى شطراً من عمره في السجن مرات متتاليات، ومع ذلك فإنه يعتبر من أكثر العلماء والمجددين إنتاجاً غزيراً في العلم والتعليم ونقطة تحول مهمة في مسار الفكر والممارسة الإسلاميين.
لقد خلقنا الله أحراراً ودلنا الى طريق الحرية: التعالي على الحاجات والأهواء التي تعتبر الأغلال الحقيقية في عنق ويدي وقدمي أي إنسان، فكلما زاد طلب الإنسان وطمعه كان عبداً لا يملك من أمره شيئاً، وكلما سلم يديه لسلاسل الشيطان الثقيلة حتى يكاد لا يستطيع حراكاً.
يقول البعض: إن مقولة الغنى بالاستغناء هي مقولة فلسفية أو صوفية وأن الغنى الحقيقي لا يكون إلا بالكسب والحيازة والملكية، ولو صح هذا الكلام لما وجدنا الطمع أو الجشع أكثر تسلطاً وشراسة بين من يملكون أكثر، ولما استقبلت العيادات النفسية في العالم ملايين من أهل المال والثروات، ولما كان رجال الأعمال والمال هم الأكثر عرضة للإصابة بالسكتات القلبية والدماغية. ماذا ينفع الثراء إن كان صاحبه عبداً لعمل يستغرق ثلثي نهاره ولهموم وصراعات تؤرقه في منامه؟ وماذا ينفع الغني إن كان على صاحبه أن يقدم أكثر ما يكسبه للبنوك والمصارف التي تعطي ولا ترحم؟ والذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، ولا أظن أن أحداً منا لم ير في حياته رجلاً جعلته الديون كالمجنون.
يقول موريس شابلان: الرجل ليس حراً إلا في اختيار عبوديته. وهكذا عليك أن تختار بين أن تكون عبداً لله وسيداً في الأرض على نفسك والآخرين، أو أن تكون عبداً للحاجة الى الطعام فتقع في عبودية البدانة التي لا تجعلك قادراً على مجرد الحراك، أو أن تكون عبداً للجنس تريق ماء وجهك وكرامتك ورجولتك وثروتك على أقدام الغانيات، أو قد تكون عبداً لرصيدك في البنك على حساب سعادتك وسعادة عيالك، أو عبداً لثراء تركب الأخطار من أجله وقد يوصلك ذلك الى السجن أو الجنون. يتحدث بعض رجال الأعمال الوافدين أحياناً عن أمل مفقود في العودة الى بلادهم، والعمر يتقدم بهم ورغبتهم أن يموتوا ويدفنوا بين أهليهم، والسبب أنهم لا يملكون حيلة لتصفية أعمالهم بين ما لهم وما عليهم، وأنهم إن أرادوا تصفية مصالحهم خسروا أكثر ثروتهم، فهل هذه إلا صورة من صور العبودية المؤسفة؟ ثم إن هناك ضروباً من الأغلال قد لا يتوقعها إلا أصحابها، كالعبودية للماركات العالمية في الملابس والأحذية والالكترونيات التي تجعل أصحابها من الرجال والنساء يدفعون أضعاف ما يتصور مقابل خرقة أو حذاء، والعبودية للمظاهر الاجتماعية التي تجعل البعض مهووساً بمطاردة كل جديد مهما كلف من ثمن، أو العبودية لمشروب أو مخدر يدفع صاحبه كل ثمين وغال حتى أباه وأمه وزوجته وأولاده وعرضه وشرفه من أجل الحصول عليه. لست هنا في صدد مديح الفقر وتفضيله على الاكتفاء أو الثراء، فالأصل في الإسلام أن لك أن تملك الدنيا كلها بيدك من دون أن تدخل ذرة واحدة منها الى قلبك، وهو أمر ليس بالسهولة المتصورة، فأكثر الناس إن ملكوا شيئاً من الدنيا استعبدهم وجعلهم حبيسي أغلال الحاجة إليه، وقليل منهم من يستطيع أن يملك نفسه ويملك شيئاً من متاع الدنيا في الوقت نفسه.
إن ما سمي في القرون الأخيرة بالحرية قد تحول هو نفسه الى صنم يستعبد الناس، فقد فتحت الحرية الأبواب على مصاريعها لأشكال من العبودية للأهواء والشهوات والأطماع التي لا تنتهي، وما اللهاث وراء ما ينفق هدراً وإسرافاً وتبذيراً على الاستهلاك المجنون لكل ما هو غير ضروري إلا صورة واضحة من صور العبودية التي عبر عنها القرآن العظيم بتعبير تأليه الهوى.
إن قدراً معقولاً ومقبولاً من الحرية يحرر الإنسان، فإن زاد الأمر على ذلك تحول الى عبودية ورق عند ابن آدم الذي خلق عجولاً وجزوعاً وهلوعاً ومنوعاً، وزماننا الإبليسي خير بيان على هذه الحرية التي فاقت الحدود فجعلت الناس عبيداً لأطماعهم التي لا تعد ولا تحد، فقد حولت الحرية حياتنا الى حياة غاب بل أكثر عدواناً وشراسة وقتلاً وتدميراً، فالإنسان الذي يتفاخر بحريته اليوم هو المخلوق الوحيد ممن مر على سطح الأرض الذي يدخر أكثر بكثير من حاجاته ويرتكب الجرائم العظام من أجل هذا الطمع غير المبرر.. فهل رأيتم الشيطان؟
منقول ...