عادة ما اكره متابعة الامور التي تحتاج الى اجراءات وتحركات من مكتب لآخر ، وربما يكون السبب..... مقتي هذا النوع من البيروقراطية والذي لا يعني تنظيم مهام العمل بقدر ما يعني تعطيل مصالح البشر ....
إلا أنني لن أبدأ الآن في مرافعتي عن حقوق الشعوب المضطهدة من جراء النظم الادارية .. ، والا كنت اخترت عنوانا مثلا ..." لمن تشكو حبة القمح " ؟
فتتحول خواطري العجيبة هذه الى منشورات محظورة...
وثمة سبب آخر ، هو أنني ... لست واثقة تماما من ( صدقي ) في " الدفاع المستميت " عن حقوق الشعوب ومحاربتي للاضطهاد ..( لو لم يكن الأمر يخصني )
بل وأرجح ان يكون السبب محض بقايا ..أنانية ونرجسية ..تدفعني الى الاعتراض على مسألة ان انتظر باقي أفراد الشعب المنصهر يوميا بهذه الاجراءات
اذ لو ( كنت المواطنة الوحيدة مثلا ) ..لما كان هناك سبب لإنشاء هذه النظم !
وماذا ايضا لو كان السبب في كل هذا هو انني احتوي على فيروس " الرهاب الاجتماعي " ، فأغطي هذا الخلل النفسي - لا اراديا - بكثير من الأفكار القومية والنضالية والانسانية الهادفة !
ما يعزيني ، أن كثيرا من الشخصيات في هذا العالم ، تعمد - اراديا - الى تغطية نقائصها وعللها وامراضها المركبة في اغطية تحتوي على الكثير من الالوان ، وأطباق تحتوي على الكثير من التوابل والبهارات .. وكذبا كثيرا كالملح يتساقط من الجيوب ، والفجل يتفجر في العيون، وما يعزيني أيضا ..أنني لا زلت أتحدث بلهجة الأطباق الهندية الحارّة ..الخالية من التوابل ، و أيّ كان السبب ، لا يهمني في الحقيقة أن اعرفه ..ما دام هناك من أفوضه للقيام عن طيب خاطر بهذه الاجراءات نيابة عني
الا أنني ذات مرة .. قررت استثنائيا أن اتصرف كما يفعل " البشر الطبيعيون "
فتوجهت الى إحدى الدوائر لمتابعة معاملة ما ، سحبت دورا ، وجلست في قاعة الانتظار الواسعة ، وانا اتفحص معالم وجوه المنتظرين
وأحاول ان أقلدهم بافتعال " السلام الروحي" الذي يتناغم مع دقات الساعة المعلنة كل دقيقة عن وصول موعد رقم دور
ورغم أنني ضقت بالانتظار بعد مرور نصف ساعة وبدأت احوم في القاعة شمالا جنوبا - شرقا وغربا ..
الا أنني كنت اقنع نفسي ..أنني لا زلت أتصرف مثل " البشر الطبيعيين "
وجاء موعد الدور بعد ساعتين ونصف .... هنأت نفسي خفية على أول إنتصار لي أسجله في قدرتي على الصبر في هذه المواقع .
ولكن كل هذا كان ادعاءات سقطت أمام الموظف الذي قال ان هناك ورقة " ناقصة " وعلى أن أعود بها للمراجعة بعد عشرة أيام ...
يا سلام ..عشرة أيام
كافية للحامل ان تضع حملها ، وللأعزب أن يتزوج .. والمتزوج أن يطلق .... للمريض أن يشفى ، وللسليم أن يمرض ، ...
كافية لعدد لا بأس به ممن يمشون على سطح الأرض أن يصبحوا في باطنها .. وكافية لازدياد عدد المجاعات والجائعين في العالم ، كافية لازدياد عدد المتخمين على هذا الكوكب
عشرة أيام قد يمشي بها من كان رضيعا .. وقد يحبو من كان صحيحا .
عشرة أيام ....يزداد فيها عدد القتلى في الضفة الغربية ربما الى الضعف ، و يزداد عدد المنتحرين " المدللين " من أبناء السويد
كافية لاستقالة احدهم - دون أسباب واضحة - من منصبه .. ووصول أحدهم فجأة - دون أي مؤهلات - الى أحد المناصب ،
كافية لتزهر الخبيزة في جميع نواحي الأردن ... وليرتفع منسوب المياه او ينخفض عن الحد الطبيعي .. وليزداد خوف العلماء من ظاهرة الاحتباس الحراري وخوف الاجتماعيين من ازدياد نسبة العنوسة في العالم العربي ...
عشرة أيام بلياليها ..تكفي نشوء حضارة واندثارها
والأهم من كل هذا أنني الآن ..بسبب العشرة أيام ...لا يمكن أن أكرر " قدومي الميمون " الى هذه الدوائر مرّة أخرى في حياتي
و شقيقي المفوّض من قبلي .. خارج البلاد في رحلة عمل...فما العمل ؟
إذن الموضوع ليس مجرد انتظار في قاعات الانتظار .. وسماع دقات الساعة ... الموضوع هو.. لست واثقة من أنني فهمت ما هو المقصود ب ( راجعينا بعد عشرة أيام ) ! .
بدأت النقاش من منطلق ان هذه الورقة لن تؤثر ... فما الداعي لاشتراط وجودها أصلا ،
ولكن كيف يكون النقاش وليس هناك الا مجرد ثقب دائري في لوح من الزجاج بيني وبين الموظف
ولم تخبر ملامحه الجامدة بأي استعداد للنقاش .. هذه هي التعليمات
سقطت أقنعة الانتظار القانوني ، والصبر والطاعة العمياء للتعليمات بدون اعتراض التي تكلفتها بصعوبة حتى أقنعت نفسي بزيارتهم ، لمجرد كلمة يقولها موظف ، على العموم ليس هذا معنيا أو مخاطبا بنقاشي ...
هذا ما تمسّكت به ..لأنني قررت ، وهذا يكفي
قلت له بهدوء : من وضع هذه التعليمات ! ،
باغته هذا السؤال ، فنظر إلي نظرة تحقيق واندهاش ، واختفت نظرته التي أحسست فيها أنني مجرد ..رقم
أعدت سؤالي مرة أخرى : ممكن أعرف من وضع هذه التعليمات التي تتقيدون بها ، أيعقل الا يكون هناك جوابا.؟
اتسعت نظرته ، ربما ظن أنني قادمة من مكان " مهم " ما ، أو أنني قادمة من وراء " شخصية " ما ،
تغيّرت نبرته ، وابتدأ في الشكوى من ضغط العمل ونظرة المنتظرين التي تختلف عن الحقيقة
قال كلاما كثيرا من بينه " الله يسامحني " لانني لم الفت نظره الى وجود " ورقة أخرى " تعوّض وجود هذه الورقة بل كل الأوراق.
أوقف كل متابعاته ، ليتابع انجاز معاملتي ، حتى النهاية ويتنقل بها من مكتب الى آخر ، ليتخلّص من وجودي المقيت ونظرة الثقة والاعتداد بالنفس التي أحاول تثبيتها حتى لا تشي بما وراءها ، كأنني " حقا " شخصية مهمة ما .
الجميل في الأمر ، أن الموظف اصابته عقدة " وسواس قهري " حول احتمال أن يكون أحد من الجالسن " قادما من مكان ما " ، ولم تمض نصف ساعة ، بين انهاء معاملتي المعقدة ، حتى كانت القاعة شبه فارغة !
هكذا أفضل ... وتبا لمن يضطهد أفراد شعوبنا المقهورة ، ويجعلها تتابع دقات ساعات الانتظار في القاعات ، وفقا للمزاجية والأهواء ...
قلت هذا أنا أحاول أن أتذكر موعد سفر شقيقي القادم .. و كلّي أمل أن لا يكون موافقا لمواعيد حروبي السنوية العشوائية مع الاضطهاد ، والرهاب ، والنرجسية ....
..............