بنيتي... الذئبة لا تعرف الوفاء
تركي العبدلي
الناس مختلفون في طبائعهم وسلوكياتهم ، وكان أحدهم رجلا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى ، شهما كريم الخصال يحب الخير للناس يأوي الضعيف ويكرم الضيف ويعين على نوائب الحق ، فكم من مكلوم لجأ إليه وكم من جائع قاسمه رغيفه وكم من مظلوم رفع عنه مظلمته ، وإن كان كل ذلك ليس بعجيب ، فكثير من الناس يقاسمونه هذه الصفات وإن قلّوا في هذا الزمان.
ولكن العجيب في أمره أنه في ذات يوم دلف في حماه ذئبة مسعورة كريهة المنظر خبيثة الرائحة ، فلما رأها عرفها فكم أتلفت له من شاه ، وكم أراعت له من راع ٍ ، فتلمس بندقيته مسرعا ليصوبها إلى قلبها وينهي مأساة عان منها طويلا ، لكنه فجأة تمهل ورفع يده عن الزناد لأنه استنكر من حركاتها الخمول ومن نظراتها الإنكسار ، فأخذت الذئبة تتقدم له بخطوات فيها الخور حتى سقطت أمامه ، فمرّر نظره على جسدها فإذا هي مكلومة مثقلة بالجراح فاستشعر هذا الشهم أن الذئبة تستغيث معاني الكرم والشهامة فيه ، وكذلك يشعر من كان صادقا في أخلاقه غير متصنع بها .
فبادر بعلاجها ووضع الدواء على جراحها ، وما إن شفيت حتى ولت هاربة متلبسة بأخلاقها الوضيعة والتي لا تعرف الشكر أو الوفاء .
ثم مضى دهر فإذا بالذئبة تعود من جديد حاملة جروها بين أنيابها ملقية به أمام هذا البدوي فعرف أنها أعادت الكرة بالطلب ، فكان كما عهدته الذئبة !
و كل هذا كان يقع على مرأى ومسمع من طفلة هذا الرجل ، ولسذاجة الطفلة ظنت أن الذئبة تعرف رد الجميل وتحمل وفاء كلب الغنم ، فهي مقاربة لها في الشكل والخلقة ، فجاءت على حين غرة من أبيها تداعب جرو الذئبة لعلها تتخذه صديقا وفيا ، فإذا بالذئبة تدفع جروها بيديها لتشويه الطفلة بمخالبه أو تقطيعها بأنيابه ، فتدارك الرجل ابنته وأخذ يعدو لها مسرعا لا يلوي على شيء حتى ضمها على صدره قائلا لها ( لم يا ابنتي ألا تعرفين أنها ذئبة ؟ ) فقالت له بنيته ( ولكنك أحسنت إليها يا أبي ؟ ) فرد عليها قائلا أيه... بنيتي الذئبة لا تعرف الوفاء ) .
تتباين ردود أفعال الناس حيال هذه القصة ، فمنهم من يرمي هذا الرجل بالغباء !ومنهم من يتخذ موقفا مغايرا لذلك بأن هذا الرجل وضع الأمور في نصابها فساحة المعركة القائمة على التحدي والبقاء تختلف عن ساحة التعامل مع الجريح المكلوم المستجدي العطف والنجدة ، ولعل البعض الآخر يذهب إلى أن هذا الرجل على حق إلى أن تعدت على إبنته فكان يجب أن يتخذ موقفا حاسما مع عدوه اللدود ، وعلى كل نهاية القصة تركت مفتوحة والمهم فيها هو هل نبذل المعروف لمن لا يحفظه ؟
فكثير من الناس ينتظرون سداد فواتير جمائلهم التي يسدونها تجاه الناس -كما هو حال الطفلة- حتى إذا ما جُحِد جميله صُدِم من واقعه ، فحقر مجتمعه ، وأرسل رسائلا سلبية للناس بأن بذل المعروف غير لائق في هذا الزمان ، وبعدد ما تتكرر هذه المواقف المشينة في المجتمع بقدر ما تهبط أسهم المعروف وترتفع وتيرة اللؤم ، ويصبح المثل المحتذى به في المجتمع قول الشاعر :
إلى الناس ما جربت من قلة الشكر وزهدني في كل خير صنعته
في الحقيقة أنا شخصيا مررت بكثير من مواقف نكران الجميل ، وكم مرة صار معروفي على البعض سُبّة عليَّ حتى يتملصوا من رده ، غير أنني لم أكتب لأشرح موقف هنا أو أذكر جميل هناك ، ولكن أردت من مقالتي هذه أن نحدد موقفنا من بذل المعروف وهل يمنع عن من لا يعرف منه رد الجميل متمثلين بقول الشاعر :
يكن حمده ذما عليه ويندم ومن يجعل المعروف في غير أهله
أم نتمثل بشخصية الأعرابي آنف الذكر و نبذل المعروف للقاصي والداني ؟
اسمحوا لي يا سادة أن أتكلم من وجهة نظري الخاصة والتي قد اختلفت مع الكثيرين حولها وهي أن بذل المعروف من باذله - غير المتصنع له وهو سجية من سجاياه وخصلة حميدة مفطور عليها –كالنهر الجاري و الذي يَرِد عليه أصناف المخلوقات وتحيا به الخلائق فلا تحده أطر ولا يعكره حجر رماه فيه من شرب منه ولا ينجسه شيء حيث أنه فاق القلتين كثرة ووفرة !
فإن المستعرض لسير المصلحين في التاريخ سيما الأنبياء والمرسلين وعلى رأس الهرم نبينا عليه الصلاة والسلام يتجلى له الدليل واضحا من أقوالهم وأحوالهم .
وعجبني إلماحة أمنا خديجة رضي الله عنها لما قالت لنبينا صلى الله عليه وسلم : ( كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتحمل الكل وتصل الرحم وتقري الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق ) ، حيث ربطت جزاء معروفه بالله تعالى ولم تتوقف عند الفهم القاصر لدى كثير من الناس وهو طلب عاجل الجزاء.
ولاشك بأن رد الجميل والوفاء في ساعة العسرة ، ذا طعم خاص في نفس باذل المعروف ، غير أن هذا الرد غير مقصود لذاته ، فمتى تَنَكّر من بُذِل له المعروف لا يثني باذله عن خلقه وسجيته وطبعه ، ولا يمن ببذله ، لأن كلا الطرفين بذل ما يمليه عليه ضميره وكل إناء بما في ينضح .
بل إن من كمال الطبع وحسن السجية عدم التشوف لرد الجميل وأن نجعل جميع أعمالنا وتصرفاتنا كلها خالصة لله تعالى متمثلين بقوله تعالى (يا قوم لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على الذي فطرني، أفلا تعقلون ) .
وقوله تعالى إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) ولا ريب أن الإطعام وهداية الناس من أعظم أنواع المعروف والجميل المبذول ومع ذلك وصف الله تعالى عِلْية القوم من المؤمنين أنهم يتعففون عن رد الجميل فضلا على أن يتشوفوا ولو لكلمة شكر على جميلهم .
والشاهد من ذلك كله - ولعدم الإطالة - أنه ينبغي علينا أن نترفع عن ترك الخصال الحميدة بحجة أن الواقع يفرض علينا ذلك ، وأن نتأسى بمن هم أسوة لنا في الحقيقة ، لا ما يفرضه علينا بعض المجتمعات من نماذج محبطة غير سوية في قراراتها ، فالله تعالى يقول (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ) .
ونرد على شاعرهم وبيتهم آنف الذكر بقول الشاعر :
تحملها شكور أو كفور يد المعروف غنم حيث كانت
وعند الله ما كفر الكفور ففي شكر الشكور لها جزاء
وقد قال بعض الحكماء : لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره فإنه يشكرك عليه من لا تصنعه إليه ، وقال بعضهم : اصنع المعروف إلى كل أحد فإن كان من أهله فقد وضعته في موضعه , وإن لم يكن من أهله كنت أنت من أهله .
وقد قال حكيم الحكماء نبينا عليه الصلاة والسلام : (صنائع المعروف تقي مصارع السوء ) .
كما أن بذل المعروف مجلبة لمحبة الله تعالى ورضوانه فرسولنا يقول (أحب الناس إلى الله عز وجل أنفعهم للناس ، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه ديناً أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً ).
فجعل مطلق المنفعة لجميع الناس من المقربات لله تعالى ، وخص المجتمع المسلم بخصائص تأكيدا على وحدة نسيجه ، وبأن له الأولوية في المعروف كما هو في الأثر .
فمن عمل عملا لايرجو فيه إلا الله تعالى فلن يخذله الله عز وجل كما فهمت أمنا خديجة رضي الله عنها ، أما من كان يرجو من الناس جزاء أوشكورا فقد عرض بضاعته في سوق البشر فقد يربح وقد يخسر وهو للخسران أقرب .
تركي العبدلي
مدونتي : محبرة وريشة
منقوووول للفائدة والله من واااء القصد